تركيا وأفريقيا: السعي لخيار دولي ثالث

د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات

ورقة سياسات،

ملخص تنفيذي

• باتت قارة أفريقيا جزءا أساسيا من المجال الجيوستراتيجي لتركيا. تعمّل أنقرة على إيجاد منافذ اقتصادية وتجارية وسوقا للصناعة العسكرية. وتسعى تركيا لتعظيم نفوذها والتنافس هناك مع دول كبرى مثل الولايات المتحدة ودول أوروبا والصين وروسيا.
• تعتمد تركيا على القوة الناعمة المتعلقة بالدين والتعليم والثقافة، لكنها طوّرت مواقف سياسية حادة في اصطفافاتها مدعّمة بتدخل مباشر أو بإبرام صفقات عسكرية.
• وسّعت تركيا من انتشارها الدبلوماسي في أفريقيا ورفعت اعداد خطوط الطيران المباشر إلى مطاراتها. وتعمل أنقرة على تقديم عروض مالية واقتصادية ودفاعية وأمنية من دون فرض أي شروط تتعلق بحقوق الإنسان وطبيعة الأنظمة السياسية.
• انطلقت تركيا من تاريخ قديم في شمال أفريقيا باتجاه دول الساحل وغرب أفريقيا. وتبدو بالنسبة للأفارقة خيارا ثالثا مقبولا داخل التنافس الحاد بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى.
• يظهر تنافس بين أوروبا (لا سيما فرنسا) وتركيا في أفريقيا، لكن بالمقابل لا يظهر تحالف تركي مع الصين وروسيا. أجندة تركيا تختلف مع روسيا مثلا في السودان وليبيا ودول أخرى في المنطقة
• إغلاق ملفات الخلاف بين تركيا ومصر والسعودية والإمارات من شأنه توفير مقاربة قد تأخذ شكلا تعاونيا أو تكامليا في ملفات مشتركة وقد تفرض مجتمعة تسويات لبعض أزما المنطقة

تمهيد:

انتهجت حكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا سياسة خارجية نشطة في دوائر إقليمية ودولية. وشغلت قارة أفريقيا حيّزا في العقل الجيوستراتيجي التركي يضاف إلى فضاءات أخرى سعت عهود الرئيس رجب طيب أردوغان إلى التأثير بها، وخاصة في العالم العربي ومنطقة أسيا الوسطى والقوقاز. وينطلق هذا النزوع شرقا وجنوبا إثر استنتاج صعوبة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وتعقّد علافات أنقرة عموما مع المنظومة الغربية.

الاقتصاد والقوة الناعمة

باشرت تركيا علاقات متدرجة مع الدول الأفريقية لدوافع اقتصادية استثماريّة على منوال ما سعت إليه أنقرة في علاقاتها مع العالم بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002. وتعود خطة الانفتاح التركي على أفريقيا إلى عام 1999. غير أن تنامي طموحات تركيا طوّرت نوعية العلاقة مع القارة السمراء، فتم إعداد “استراتيجية تطوير العلاقات الاقتصادية مع الدول الإفريقية”، وأعلنت الحكومة التركية 2005 “عام إفريقيا”. وفيما اعتمدت تركيا في بداية مقاربتها للقارة على القوة الناعمة في مجالات خيرية وإغاثية وتعليمية وثقافية، انتقلت أنقرة إلى ممارسة سياسات نفوذ، وخصوصا بعد عام 2011.
في عام 2011 اقتربت تركيا من الصومال من خلال تقديم المساعدات الانسانية لمكافحة المجاعة، لكنها عام 2017 أنشأت معسكر تركسوم في مقديشو ، وهو أكبر منشأة تدريب عسكري في الخارج. وشهد عام 2019 تحوّلات لافتة ونافرة من خلال تدخل تركيا في الصراع الداخلي في ليبيا متحيّزة لصالح حكومة طرابلس ضد الحراك السياسي العسكري الذي انطلق من بنغازي بقيادة الجنرال خليفة حفتر.
وتعمل تركيا بمروحة عريضة من الأدوات والمجالات اعتمدت بها على القطاعين الخاص والعام وعلى المؤسسات المالية والصناعة العسكرية، كما استخدمت الدين والجماعات الإسلامية في السعي لتسجيل اختراقات داخل دول المنطقة. وحتى عام 2024 امتلكت تركيا 44 سفارة في أفريقيا مقارنة بـ 12 سفارة في عام 2002. كما تسيّر خطوط الطيران التركية رحلات إلى أكثر من 60 وجهة أفريقية. ولتأكيد رغبتها في المساهمة بنهضة القارة، انضمت تركيا عام 2008، إلى بنك التنمية الإفريقي، وصندوق التنمية الإفريقي، بعد مصادقة اجتماع المانحين على طلبها.

السردية والاصطفافات:

في مرحلة “الربيع العربي” التي انحازت خلالها تركيا لصالح الإسلام السياسي، عبّرت تركيا عن تموضع جيوستراتيجي ضمّها في أفريقيا مع قطر مقابل تموضع آخر ضمّ مصر والإمارات والسعودية. وقد وجدت هذه الاصطفافات واجهة له في خيارات تركيا في أفريقيا وفق ما تعبّر الحالة الليبية عن ذلك تماما. فلم تكن استراتيجية تركيا في الصومال والسودان وشمال أفريقيا وبلدان الساحل بعيدة عن هذه الخرائط. ويضاف إلى تلك الإشكالية تنافس بين تركيا ولاعبون كبار في أفريقيا مثل الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا والصين.
وعلى منوال سرديةٍ روسية تتحدث عن المجال الأوراسي كفضاء تمتد فيه روسيا بين أوروبا وآسيا، فإن تركيا روّجت لسردية تتقدم فيها تركيا كدولة “أفرو-أوراسية” ومدافعة عن دول الجنوب والتطلعات الأفريقية ضد القوى الكبرى، لا سيما الاستعمارية منها والتي لها تاريخ مع دول القارة. ووجد الأفارقة في تركيا خيارا حيويا بإمكانه أن يكون، إلى جانب روسيا والصين، بديلا عن الهيمنة الغربية على بلدان القارة.
وعلى منوال السياسية الصينية، فإن تعامل تركيا مع دول القارة لا يفرض شروطا تتعلق بحقوق الإنسان والنظام السياسي المعمول به في هذه الدولة أو تلك. وتشترك تركيا مع الصين أيضا في أنهما بريئتان من أي تاريخ استعماري في أفريقيا. كما تتميّز تركيا بالرافعة الدينية التي تتيح لها اختراق مجالات في القارة في الدول ذات الأغلبية أو الأقلية الإسلامية على السواء. وتتميّز تركيا في اقتراحها عروضا تمويلية لا تشترط إصلاحات وإجراءات قاسية للنظامين المالي والاقتصادي، مع العلم أن وفورات التمويل التركي تبقى أقل من ذلك الذي تقدمه الصين إلى دول القارة.

الاختلاف بالهدف والثقافة:

ومع ان للدولة العثمانية تاريخ في شمال أفريقيا والقرن الأفريقي، فإن تركيا سعت إلى توسيع طموحاتها الأفريقية باتجاه دول غرب إفريقيا، مثل نيجيريا والسنغال، ومع دول الساحل أيضا. وزادت التجارة بين تركيا وأفريقيا من 5.4 مليار دولار في عام 2000 إلى أكثر من 40 مليار دولار في عام 2022. وحققت المنتجات والخدمات التركية، من السلع الاستهلاكية إلى السلع الثقافية والمنتجات الصيدلانية وخدمات البناء نجاحات كبيرة في الأسواق الأفريقية، وذلك بفضل جودتها وأسعارها التنافسية.
وتمتلك تركيا أفضلية على فرنسا مثلا، لكونها دولة مسلمة، ومعظم الدول الإفريقية التي خضعت للاستعمار الفرنسي أغلب سكانها مسلمون، ويكنون كرهاً لهذا الماضي ويتطلعون للتحرر من الهيمنة الفرنسية المتواصلة على بلادهم. وهذا ما يفسّر تقارب تركيا من الزعماء الدينيين المسلمين في إفريقيا، حيث نظمت 3 قمم للزعماء المسلمين الدينيين الأفارقة؛ في 2006 و2011 و2019، برعاية الرئيس أردوغان شخصياً.
كما تمثل الاستثمارات التركية خياراً يفضله الأفارقة لأنه يوفر لهم فرص العمل والعملة الصعبة والتكنولوجيا، بينما لا تنظر لهم دول أخرى إلا كسوق لمنتجاتها، ومصدر للمواد الخام.
وقد بلغت قيمة المشاريع التي ينفّذها رجال أعمال أتراك بالقارة 70 مليار دولار، وفرت 100 ألف فرصة عمل، بحسب ما أعلنه أردوغان خلال منتدى الاقتصاد والأعمال التركي الأفريقي في عام 2020. وخلال القمة الثالثة للزعماء الدينيين المسلمين بإفريقيا، الذي عقد بإسطنبول في 2019، أشار الرئيس التركي إلى أن “المستثمرين الأتراك لا يركزون على بيع منتجاتهم فحسب، بل على مشاريع تسهم في خلق فرص العمل وتنمية القارة الأفريقية”.

الدفاع وسيلة للنفوذ:

أصبحت تركيا لاعبا رئيسيا في المشهد العسكري المتغير في أفريقيا. أبرمت أنقرة اتفاقيات دفاع مع دول في غرب وشرق أفريقيا، بما في ذلك إثيوبيا وغانا، وكينيا ونيجيريا ورواندا. وعلى الرغم من اختلاف طبيعة الصفقات – بدءا من الأعتدة الأمنية والدعم الفني إلى التدريب العسكري – إلا أنها غالبا ما تتضمن صفقات بيع أسلحة. وبينما كانت القوات الفرنسية تحزم أمتعتها، أصبحت الطائرات المسيّرة التي سلمتها تركيا، القطع الأساسية من أسلحة جيشي مالي وبوركينا فاسو. وقد عملت أنقرة على كسب ثقة النخبة العسكرية الحاكمة الجديدة في الساحل.
ويعد توسع صناعة الدفاع التركية أحد أولويات حكومات الرئيس أردوغان. في عام 2023، ارتفع حجم صادرات الدفاع بنسبة 27 في المائة، ليصل إلى مستوى قياسي بلغ 5.5 مليار دولار. ومن المتوقع أن يتسارع النمو في عام 2024 بعد أن وقعت شركة “بايكار تكنولوجي” التركية أكبر عقد دفاعي في تاريخ البلاد لبيع طائرات قتالية بدون طيار إلى المملكة العربية السعودية. وقد أصبحت تركيا لاعبا مهما في صناعة الطائرات بدون طيار العالمية بفضل تطوير نماذج تنافسية مثل “بايراقدار TB2” أو “بيرقدار اقينجي”.
بالنسبة للبلدان التي تواجه حركات التمرد، مع جيوش تعاني من نقص الموارد والحدود التي يسهل اختراقها، مثل توغو والنيجر ونيجيريا والصومال، فإن الطائرات بدون طيار التركية وخبرات مكافحة الإرهاب ذات قيمة خاصة. ومن العلامات الأخرى على الأهمية المتزايدة لأنقرة في المشهد الأمني في أفريقيا المبادرات البحرية الجديدة في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، بما في ذلك الشراكات مع الصومال والسودان وإريتريا.
بالنسبة للبلدان الأفريقية، تتمتع منتجات الدفاع التركية بالعديد من الإيجابيات. فهي ميسورة التكلفة وموثوقة تقنيا، حيث تم اختبارها في ليبيا وسوريا وأوكرانيا. وعلى عكس الدول الغربية، لا تجعل تركيا هذه المساعدة مشروطة بالحكم أو التزامات حقوق الإنسان.

خلاصة واستنتاجات:
– تمثل القارة الأفريقية ميدان نفوذ وتوسّع بالنسبة لتركيا سواء على مستوى السوق الاقتصادي أم على مستوى النفوذ العسكري والموقع الجيوستراتيجي. وقد مكّنت السياسة التركية في أفريقيا تركيا من احتلال حيّز رحب لها داخل القارة السمراء متعايشة ومتنافسة مع قوى إقليمية ودولية كبرى.
– لا يظهر حتى الآن اصطفاف دولي لتركيا يأخذ شكلا نهائيا، وذلك بسبب تحوّلات سياسات أنقرة الخارجية من جهة، وبسبب تبدّل الاصطفافات الدولية نفسها من جهة أخرى. وفيما لا يظهر أن تركيا ستكون حليفة للغرب في أفريقيا اتّساقا مع كونها عضوا في حلف شمال الأطلسي، فإن تركيا ليست حليفا للصين وروسيا حتى أن خياراتها الأفريقية تتناقض مع أجندة موسكو الأفريقية.
– تمتلك تركيا قوة ناعمة نجحت في تسويقها في أفريقيا ولا تمتلك ماض استعماري مؤلم بالنسبة للأفارقة. وتمتلك صناعة عسكرية باتت جذابة ميسورة التكاليف تخدم أجندة تركيا الأفريقية من دون فرط شروط منهكة للشركاء الأفارقة.
– فيما يدور صراع حاد بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى على النفوذ في أفريقيا، تبدو تركيا خيارا ثالثا بالنسبة للأفارقة قد ينجح في إيجاد مكانة رحبة ومستدامة لتركيا في المنطقة.
– من الأفضل أن يتيح تحسّن العلاقات بين تركيا ودول عربية لاعبة في القارة الأفريقية، مثل مصر والسعودية والإمارات إضافة إلى قطر، تطويع السياسة التركية في أفريقيا، خصوصا في السودان وليبيا، بما يسمح بتعاون وتكامل داخل ملفات مشتركة، وبما يسمح باستخدام وزن شراكات محتملة لتحديد مسار ومصير ملفات ساخنة في القارة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.