الجزائر: أزمة ما بعد بوتفليقة، الانتقال السياسي بقيادة الجنرالات    

*وليد زايد

يشهد النظام السياسي الجزائري حالة من الترقب إزاء الاستعدادات للانتخابات الرئاسية فى عام 2019، فالجدل يشتعل حول ترتيبات مرحلة ما بعد الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، وما إذا سيرشح نفسه مرة أخرى أم ستشهد الجزائر انتقالاً سلميًا للسلطة، وذلك في ضوء أوضاع إقليمية مضطربة من انتفاضات وتحولات تاريخية شهدتها المنطقة العربية فى السنوات الماضية.

دخلت الفترة الرابعة للرئيس الجزائري بوتفليقة (81 سنة) عامها الأخير، واعتبرت أكثر فترات حكمه جدلًا بسبب تعرضه في نيسان/أبريل 2013 لجلطة دماغية أفقدته القدرة على الحركة ومخاطبة شعبه. ويمتد الجدل حول ماهية الشخص أو المؤسسة التى تسير أعمال الدولة بديلَا عن بوتفليقة، ودور المؤسسة العسكرية فى ذلك، ومكانة شبكات المصالح، التي تكونت في ظل حكمه، فضلًا عن التأثيرات الدولية على الشأن الداخلي الجزائري.

الاحتجاجات الشعبية وأداء النظام السياسي:

منذ يناير\ك2 2011، شهدت الجزائر احتجاجات واسعة النطاق فى عدة مدن، طالب المحتجون بإصلاحات سياسية واقتصادية، متأثرين بانتفاضة تونس والتى أسقطت نظام بن علي بعد ذلك. ولكن هذه الاحتجاجات لم تتحول إلى ثورة؛ إذ لم يطالب المتظاهرون بإسقاط النظام مثلما فعل التوانسة، ليس حبًا فى نظام بوتفليقة، ولكن خوفًا من إرث العشرية السوداء أو الحرب الأهلية الجزائرية، والتى راح ضحيتها نحو 200 ألف قتيل خلال الفترة من عام 1992 وحتى عام 2002، بخلاف المفقودين والنازحين.

التخوف من العودة إلى حالة العنف المتبادل وإنهيار الاستقرار والسلم المجتمعى، لم يكن تخوفًا شعبيًا فقط، بل النخبة الحاكمة أيضًا ، لان العودة إلى مربع الصفر لم يكن فى صالح أى طرف في المشهد السياسي. ولذا بدأت الحكومة تعتمد على إستراتيجية اكتساب الشرعية السياسية من أداء النظام السياسي، فالمصالحة والاستقرار النسبي بعد عنف التسعينات، أصبح على المحك خاصة مع تقدم عمر بوتفليقة. فقدمت الحكومة عدة تنازلت مهمة فى 2011 أهمها إلغاء حالة الطوارئ، التى استمرت تسعة عشر عامًا، وإعلان الحكومة تخفيض أسعار المواد الغذائية الاساسية ، حفاظًا على القدرة الشرائية للمواطنين.

لكن الاحتجاجات عادت مرة أخرى وبقوة منذ 2017، خاصة بعد تفاقم الوضع الصحي للرئيس ،وعدم تمكنه من أداء مهامه الدستورية بصورة واضحة وشفافة . باتت التظاهرات الاحتجاجية  على سوء الأوضاع المعيشية وارتفاع الاسعار والبطالة طقسا يوميا ، فالمسكنات التى أعطتها الحكومة للشعب في العام  2011 انتهى مفعولها نتيجة انخفاض أسعار النفط.

ويعتبر الجنوب الجزائري وتحديدًا محافظة ورقلة على رأس المناطق المشتعلة، ، وباتت مركز ثقل الاحتجاجات لانها أكثر المناطق التى تعانى ن التهميش السياسي والاجتماعي بشكل ملحوظ، حيث تصل نسبة البطالة إلى أكثر من 30% بين الشباب، على الرغم من كونها  مصدر ثروات النفط والغاز التي تدر 98% من الدخل القومي الجزائرى. ومؤخرًا، بدأ المحتجون يتبعون أساليب جديدة، فقد لجأوا إلى التظاهر أمام المهرجانات الغنائية الصيفية التى تكلف الدولة 15 ملياردينار جزائري ، ومطالبتهم بصرف المبالغ المدفوعة للمغنين في مشاريع للتنمية، وتحسين البنية التحتية، وأدى ذلك إلى إلغاء العديد من الحفلات الغنائية، كما لجأ محتجون عاطلون عن العمل إلى تقطيع أجسادهم بآلات حادة، للفت انتباه السلطات لمشاكلهم. واجهت السلطات المحتجين  بالقوة والقمع الأمني، ما ينذر بتفاقم الغضب الشعبي في ظل غياب الحلول الجدية وانسداد افق التغيير السياسي.

محاولات اقحام المؤسسة العسكرية: 

تحتل المؤسسة العسكرية الجزائرية موقعًا هامًا على خريطة موازين القوة فى الجزائر منذ حرب الاستقلال، إذ رسخ بدأب في وعي المجتمع أن التخلى التام عن أدوارها السياسية سيعرض الدولة إلى الخطر، وكان ذلك واضحًا فى تعزيز شرعيتها بعد دورها الحاسم فى مكافحة الإرهابيين والجماعات المسلحة التى انتشرت بطول البلاد فى الحرب الأهلية (1991 – 2001). ولا يستطيع أى مرشح رئاسي الفوز فى الانتخابات بدون دعم من المؤسسة العسكرية، وتقديم فروض الولاء والطاعة لها . ولا يتوقع أن الرئيس الحالي كان سيكمل فترته الرابعة بدون دعم من الجيش، على الرغم من عجزه عن ممارسة مهام وظيفته بصورة طبيعية .

يعتبر الفريق أحمد قايد صالح، قائد أركان الجيش ونائب وزير الدفاع أحد الشخصيات المحورية في النظام الجزائري؛ إذ كان العامل الأكبر فى استمرار بوتفليقة فى الحكم حتى بعد تدهور صحتة منذ سنة 2013. بدأ قايد صالح التخلص التدريجي  من خصومه في المؤسسة العسكرية والامنية . وكان أول من تخلص منه هو مدير المخابرات الجزائرية المعروف بالجنرال توفيق، الذي يعرف بصانع الرؤساء، حيث كانت علاقته متوترة مع مؤسسة الرئاسة، وقد اتهمه حينها رئيس “حزب جبهة التحرير الوطني” الحاكم، عمار سعداني، بأنه ضد العهدة الرابعة للرئيس بوتفليقة.

ولم يتوقف الأمر على إقالة الجنرال توفيق، بل تم سحب صفة الضبطية القضائية من الجهاز بأكمله، وتم إسناد مهام حماية الرئيس إلى الحرس الجمهوري بدلاً من المخابرات، وجرد الجهاز من قوات التدخل السريع. وبعد واقعة تمكن الجيش الجزائري من وضع يده على أكبر قضية تهريب للكوكايين في تاريخ الجزائر في ميناء وهران؛ تم إقالة المرشح المحتمل لخلافة بوتفليقة، قائد الأمن الوطني اللواء عبد الغاني هامل، وذلك بعد  توجيهه انتقادًا غير مسبوق للجيش بالقول “إن من يحارب الفساد يجب أن يكون نظيفًا، كما جرت اقالات واسعة في المؤسسة العسكرية والأمنية شملت : قائد الدرك الوطني اللواء مناد نوبة، ومدير الشؤون المالية بوزارة الدفاع الوطني، الفريق بوجمعة بودواور، ومدير الموارد البشرية بوزارة الدفاع الوطني، مقداد بن زيان، وكذا تنحية اللواء محمد الصالح بن بيشه، بصفته مديرًا للخدمة الوطنية بوزارة الدفاع الوطني.

وقد بدأت عدة حركات معارضة وعلى رأسهم حركة “مجتمع السلم” المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى رئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس، بدعوة الجيش للتدخل فى العملية السياسية، ودعم عملية الانتقال الديمقراطي، والوساطة بين الرئاسة والمعارضة. ولكن القايد صالح رفض هذه الدعوات معلنًا إن الجيش يلتزم الحياد ولن يتدخل فى المعترك السياسي، وأكد على إنه يأخذ التعليمات من بوتفليقة مباشرةً ولن يتخلى عنه، وذلك بالرغم من سوء الحالة الصحية للرئيس والتى تمنعه حتى من إعطاء التعليمات للوزارة. وقد اشارت  تقارير البرلمان الفرنسي، أن قايد صالح هو المرشح المحتمل لخلافة الرئيس بوتفليقة، وأن جميع تاكيدات إلتزام الحياد واهية ومجرد مناورة سياسية، خاصة أن التنافس بينه وبين سعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس، على أشده.

 

حركات الإسلام السياسي وتصاعد خطورة الحركات الجهادية:

تعيش الجزائر حالة تشبه الحالة المصرية قبل احتجاجات يناير 2011، احزاب ضعيفة وهامشية، تتلاعب بها السلطة، وتستخدم الحركات السلفية غير العنفية في مواجهة  الحركات السلفية الجهادية التى حاربتها الدولة فى العشرية السوداء الدامية، والتى يتزايد خطرها حاليًا، خاصة في الجزء الجنوبي بسبب تنامي خطر الجماعات المتطرفة  فى دول الساحل الإفريقي، ومحاولات زحف داعش للاحتماء في الجنوب الصحراوي ودول وسط افريقيا، بعدما خسرت معظم معاركها فى سوريا  والعراق.

وفي ظل حالة التأهب للانتخابات الرئاسية، طرحت حركة مجتمع السلم، احدى أكبر جماعات الإسلام السياسي فى الجزائر، وثيقة سُمّيت بـ “مبادرة التوافق الوطني”، دعت من خلالها الجيش في الجزائر إلى “مرافقة” العملية السياسية الانتقالية التي تدعو لها، من خلال جعل محطة الرئاسيات القادمة فرصة للتداول السلمي على السلطة، كما دعا عبد الرزاق مقري، رئيس الحركة، الفريق قايد صالح إلى أداء دور فعال في الحراك السياسي الذي تشهده البلاد حاليًا.

الجدير بالذكر أن الحركة التى تتبع جماعة الإخوان المسلمين، تتبنى نفس التكتيكات التى قامت بها الجماعة فى دول أخرى وفشلت فشلاً ذريعًا، من محاولات استدعاء القوات المسلحة، فى تخيل طوباوي ، أن الجيش لن يتدخل فى العملية السياسية وينحاز لطرف ضد الأخر، والمفارقة أن هذه نفس الاستراتيجية التى أدت إلى فناء الأخوان فى دول عربية أخرى. الفارق أن شعبية الجماعة ضعيفة فى الجزائر بالمقارنة مع مصر، التى حصلت فيها على الجماعة أغلبية برلمانية. فالسياق الجزائرى مختلف، فلا الشعبية واحدة ولا قوة الإسلاميين واحدة، فحركات الإسلام السياسي الجزائرية غير متوافقة أو متجانسة، ولا تمتلك الشعبية الكافية التى تسمح لها باكتساح الانتخابات أو تحمل مسؤليات الحكومة.

بالإضافة إلى أن السياق العربى لن يسمح بصعود جماعة الإخوان المسلمين مرة أخرى فى أى دولة، خاصة أن حالة الجزائر مختلفة، فقد وصل الأمر فيها إلى حرب أهلية فى التسعينات، ولن يكون صعودهم فيها أقل دموية أو بالشكل الذى أستمر فيه إخوان تونس فى الحكومة والبرلمان. فلا يمكن قياس الحالة التونسية على الحالة الجزائرية.

ولا يمكننا التقليل من تخوفات الناخبين من حركات الإسلام السياسي المبنية على خبرتهم التاريخية مع الجماعات الإرهابية الراديكالية، خاصة وهم يعايشون إنهيار عدة دول كسوريا وليبيا واليمين وبدرجة أقل فى العراق السودان. وكان للجماعات الإسلامية دور ليس بقليل فى إنهيار هذه الدول. وعلى مدار العقدين الماضيين نجحت الدولة الجزائرية فى أدلجة الجماعات السلفية، فخرجت العديد من الأصوات تنادى بحرمة الخروج على الحاكم حتى لا تنهار الأمة، وحذرت من الفصائل الديمقراطية التى تريد إشعال الاضطرابات والعنف فى البلاد.

أفاق مستقبل التحول الديمقراطي:

على مدار العقود الماضية، سمح النظام الجزائري بمساحة محدودة من التغيير الاجتماعي والسياسي، من أجل محاولة إحتواء المظاهرات الشعبية التى تهتف ضد استمرار النظام، مما يمكنه من الإعتماد على هامش من الديمقراطية يجعله قادرًا على مواجهة استحقاقات محتملة لثورة أو انقلاب. ولكن هذا التحول يعتمد بشكل أكبر على مدى تقبل القوات المسلحة لتحول ديمقراطي حقيقي، وفي ظل استمرار خطر الجماعات الإرهابية على الحدود الجنوبية، فإن إمكانية اقناع قيادات الجيش بالتحول الديمقراطي ، تبدو أكثرصعوبة.

يبدو المشهد الجزائري يقف أمام حالة استعصاء بنيوي، خاصة وأن المعارضة لا تمتلك بديلًا مقنعًا للنظام السياسي القائم، فالسلطة سعت لإفراغ المعارضة الوطنية من مضمونها، وعملت على تهميشها وحولتها إلى هياكل فارغة، فيما لا تستطيع قوى الإسلام السياسي المنظمة أن تتقدم ببدائل جذرية للنظام القائم. كما أن الجيش ومراكز القوى لا يمكنها الاطمئنان لعملية ديمقراطية نزيهة، قد تحمل مفاجأت غير محسوبة، ولهذا ترجح أغلب التقديرات أن يستمر الوضع الحالي في المراوحة، في مرحلة انتقالية قد تطول يديرها كبار ضباط الجيش، حتى تأتي رياح التغيير إقليميًا ودوليًا.

قائمة المراجع:

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.