جيبوتي: حصان طروادة لتخريب سلام القرن الأفريقي

*وحدة سياسات القرن الافريقي

*أسعد كنجو ، *علي هندي

أدى الاستقرار النسبي الذي تتمتع به جيبوتي وسط منطقة تعمها الفوضى، الى إكتسابها أهمية تفوق حجمها الجغرافي، خصوصا مع موقعها الاستراتيجي ، حيث تقع قبالة مضيق باب المندب، ويوفر موقعها منفذا حيويا للبلدان غير الساحلية كجارتها إثيوبيا التي خسرت تواجدها على البحر الأحمر بعد استقلال إرتريا في عام 1993، سيما مع حالة الحرب والعداء التي استمرت لنحو عشرين عاما بين البلدين ، فقد باتت موانئ جيبوتي من أهم المنافذ البحرية  لدول القرن الأفريقي، بالإضافة الى أن هذا البلد الصغير بات يستضيف قواعد عسكرية لأكثر من ثمانية بلدان  أجنبية.

خلفية تاريخية:

يعتبر العفر والعيسى أبرز الإثنيات المكونة لجيبوتي، ويعدون من أوائل الأفارقة المعتنقين الإسلام. في عام 1880بدأت فرنسا إنشاء محمية لها في جيبوتي، وبعد عشرة اعوام  اعتبر الإقليم ضمن “أرض الصومال الفرنسية“، وخلال الحرب العالمية الثانية وقعت المنطقة تحت سيطرة حكومة فيشي الفرنسية الموالية للنازية، وفي عام 1957 أعيد تنظيم المستعمرة للسماح بقدر أكبر من الحكم الذاتي. حينها صوت شعب “أرض الصومال الفرنسي” في استفتاء عام 1958 لتصبح إقليم ما وراء البحار الفرنسي، ورغم تنامي المشاعر المعادية للاستعمار إلا أن استفتاء عام 1967 جاء بنسبة نحو 60 بالمئة لصالح البقاء تحت الوصاية الفرنسية وفي نفس العام قامت باريس بتسمية المنطقة ’إقليم العفر والعيسى الفرنسي’. ولكن بعد تلك المرحلة التي شهدت نهوض حركات التحرر الوطني ، جرى استفتاء آخر عام 1977 لصالح الاستقلال وتصبح ‘جمهورية جيبوتي’ مستقلة. تعتبر العربية والفرنسية لغتان رسميتان وينقسم السكان بشكل أساسي بين العفر في الشمال ولهم امتداد في كل من أثيوبيا وأريتريا، بينما يتواجد العيسى وقبائل أخرى تتحدث الصومالية في مناطق العاصمة والمناطق الجنوبية، وتعتبر قبائل عيسى صاحبة السلطة على الحكم والثروة منذ الاستقلال الى اليوم.

العفر، كرد أفريقيا:

يعتبر العفر مجتمعا عابرا للحدود ، يتوزعون في أجزاء من إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي وتتناقض المصادر المختلفة حول العدد الحقيقي للعفر بين ثلاثة ملايين الى سبعة ملايين لكن بعض الكتابات الاكاديمية تشير الى ان عددهم يصل الى أربعة ملايين نسمة، ويعيد الدكتور مكنون جمال الدين الشامي الاستاذ في جامعة بركبيك اللندنية  هذا الغموض والتناقض الى حرض الحكومات الاثيوبية المتعاقبة على إخفاء الاعداد الحقيقية للعفر. فيما تشير المصادر الرسمية الاثيوبية ان قبائل العفر في البلاد عددهم 2007)) بنحو 1.3 مليون في إثيوبيا، بينما تقول إحصاءات منظمات العفر في المنفى انهم يقتربون من المليوني نسمة،وتقدر المصادر الدولية ان عدد العفر في ارتريا لا يتجاوز ستمائة ألف نسمة ويسكنون المناطق الساحلية الغنية بالبوتاس بين مينائي عصب ومصوع، اما في جيبوتي فهم قرابة ال 420ألف نسمة. يعتنق العفر الاسلام السني على المذهب الحنفي ويتكلمون العربية والعفرية. وتقول المصادر التاريخية ان السلطة المؤثرة بينهم في الدول الثلاث تعود الى سلاطين لهم نفوذ على قبائلهم يفوق الانتماءات الأخرى، وتعتبر سلطنة أوسا أكثر سلطنات العفر نفوذا وذلك للثقل السياسي الذي كان يتمتع به السلطان علي مرح، ولاحقا بعد رحيله تولى أبناؤه دورا سياسيا مشابه في السلطنة، وفي السنوات الماضية أجمعت غالبية الفصائل العفرية السياسية والاجتماعية على حنفري مرح ابن السلطان علي والمقيم في الولايات المتحدة زعيما يحظى بالإجماع.  وتعتبر مناطق العفر الأصعب في تضاريسها ومناخها الحار مقارنة ببقية بلدان القرن الافريقي، لكن في ذات الوقت تتحدث تقارير دولية عن أن مناطق العفر الواقعة بين ارتريا واثيوبيا بالتحديد تحتوي على ثروات طبيعية ضخمة أهمها البوتاس وتستثمر فيه شركة دنكاليا الإسرائيلية، عدا عن موقعها الاستراتيجي على سواحل البحر الأحمر، كما ان منطقة شمال عصب تشهد عمليات تنقيب عن الغاز من شركة كندية قبالة الميناء. تعتبر الجغرافيا العفرية منطقة صراع دائم بين القوى الاستعمارية القديمة وأخرى قبلية، وبعد الاستقلال باتت ارضهم مسرحا للصراعات الحدودية بين الدول الثلاث، ارتريا واثيوبيا وجيبوتي.  ويعد العفر من أكثر الشعوب تضررا من استقلال إريتريا مطلع التسعينات ، حيث كان ترسيم الحدود سببا رئيسيا للصراعات الدموية  في المنطقة والتي كان العفر في صلبها وأكثر من دفع ثمن تلك النزاعات بسبب انتشارهم على طرفي الحدود، وطرحت  فكرة إجراء استفتاء للعفر من قبل فصائلهم السياسية يحددون فيه مستقبلهم اسوة بالاستفتاء على استقلال ارتريا ، لكن الظروف السياسية في المنطقة حالت دون تجسيد الفكرة على ارض الواقع ، ولم تجد طرفا دوليا او إقليميا يتبنى هذا الطموح المشروع ، وهو ما أدى لانطلاق حركات متمردة، ابرزها جبهة التحرير العفرية والتي كان هدفها إقامة دولة عفرية إسلامية مستقلة ، وخلال الحرب الحدودية بين إريتريا وأثيوبيا استغلت كل من الدولتين العفر في تلك الحرب، فقد قامت إثيوبيا بدعم ”الاتحاد الثوري الديمقراطي العفري“، بينما قامت إريتريا بدعم ”منظمة الشعب العفري الديمقراطية في إثيوبيا“، ورغم توقف الحرب بين البلدين بعد عام 2000 إلا أن الشعوب العفرية بقيت مهمشة على جانبي  الحدود المشتركة مع اثيوبيا وجيبوتي ، وسط غياب للتنمية وخدمات التعليم والصحة والبنية التحتية.

ظل الجيبوتيون العفر الذي يشكلون نحو نصف سكان البلاد، حتى مرحلة الاستقلال عن فرنسا يتمتعون بالنصيب الاكبر من الثروة والتمثيل والنفود السياسي. لكن الامور انقلبت بعد الاستقلال الشكلي ، حيث أجبر الرئيس حسن جوليد العديد من قادة العفر على الخروج من الحكومة والإدارة والجيش، وشكل حكومة استبدادية أصبح يسيطر عليها أنصار قبائل عيسى، وفي عام 1981  تم حظر حزب الثورة الشعبية بحجة أنه جماعة إثنية عفرية، ما كان سببا باشتعال تمرد عفري مسلح ،  دعا إلى توزيع أكثر إنصافاً للموارد، تركز التمرد في المناطق الشمالية من البلاد أواخر عام 1991، وسرعان ما سيطر على جزء كبير من البلد، ما أجبر جوليد على تقديم دستور تعددي عام 1992، وفي السنة التالية جرت أول انتخابات رئاسية فاز بها جوليد مجددا بولاية رابعة، على الرغم من مقاطعة غالبية أطياف المعارضة، وهو ما أدى لاستمرار الحرب الأهلية، حيث قتل العشرات عام 1993 وأصبح العفر أهدافا رئيسية للجيش لوأد التمرد ، وطوال تلك الفترة فشلت قوات الرئيس الجيبوتي بالقضاء على المتمردين، رغم استمرار عمليات القتل واغتصاب النساء والتعذيب واعتقال المدنيين بحسب المعارضة ، وسط رفض تام من الحكومة الجيبوتية لإجراء أي حوار سياسي مع الزعماء العفريين، ما دفع بفرنسا لتجميد معوناتها المالية،  وفقدان الدعم السياسي من دول الجوار. رضخت الحكومة الجيبوتية للضغوط السياسية والاقتصادية، بتوقيع اتفاقية سلام مع المتمردين العفر في كانون الأول/ديسمبر 1994 التي أنهت العمليات القتالية بعد صفقة تقاسم السلطة بين الجبهة والحكومة.  ورغم هذا الاتفاق إلا أن المتشددين العفر استمروا بمقاومة الحكومة الجيبوتية حتى عام 2000، أي بعد سنة واحدة من وصول الرئيس إسماعيل عمر جيله إلى السلطة، الذي رعى مفاوضات جديدة تم على أثرها التوقيع على اتفاق سلام نهائي في عام 2001، كرس عمر جيله رئيسا بنسبة 100 ٪ في الانتخابات اللاحقة.

دولة برسم الايجار:

رغم الموقع الاستراتيجي لجيبوتي إلا أنها تعتبر من بين أفقر البلدان الأفريقية وتعاني من ارتفاع معدلات البطالة والغلاء الفاحش للسلع والخدمات وافتقار للبنى التحتية. مع وصول إسماعيل عمر غيلة لسدة الرئاسة، عمل على تأجير الأراضي والموانئ وقواعد عسكرية للدول الأجنبية كوسيلة للحصول على دعم النمو الاقتصادي. باتت جيبوتي اليوم التي لا تزيد مساحتها عن ثلاثة وعشرين ألف كلم ٢ تستضيف قواعد أجنبية لثمانية بلدان ست منها قواعد عسكرية دائمة، هي فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة واليابان والسعودية والصين، فيما تقدر المصادر إيرادات القواعد الأجنبية بما يتراوح بين مائتين وثلاثمائة مليون دولار سنويا، عدا عن مساهمة تلك الدول بتقديم المساعدات الانسانية وتحسين البنية التحتية وتطوير الموانئ للدولة الساحلية. لم تتأخر جيبوتي في استثمار موقعها لتحقيق مكاسب اقتصادية ومزايا تجارية، فقد مولت الصين خطا للسكك الحديدية بين أديس أبابا والموانئ الجيبوتية بكلفة2.3 مليار دولار، إضافة لشبكة مياه بلغت تكلفتها نحو ثلاثمائة مليون دولار. الطموح الجيبوتي الذي يفوق طاقتها وامكانياتها أدى الى اغراق البلاد بالديون، إذ يشكك الخبراء بقدرتها على السداد. فالصين توغلت في الاقتصادي قبل العسكري، وتشير المصادر الى ان الدين الصيني يصل إلى1.4  مليار دولار بما يعادل 88 بالمئة من الدين الخارجي. وتبرر الصين تواجدها العسكري في جيبوتي بأهداف حماية مصالحها التجارية ومكافحة عمليات القرصنة في المنطقة، حيث تصل تجارة الصين في افريقيا الى نحو 200 مليار دولار سنويا. وتعتبر بكين هذه المنطقة المطلة على البحر الأحمر ومضيق باب المندب من اهم المنافذ البحرية الدولية، إذ يعبره نحو 20 بالمئة من التجارة العالمية.

يضاف الى ذلك، إلا أن التمدد والهيمنة الصينية على مقدرات جيبوتي أشعل أضواء الخطر في العواصم الغربية وخاصة في واشنطن التي بات جنود الصين على بعد ستة أميال من قاعدتها العسكرية التي تضم نحو أربعة آلاف جندي أمريكي.

 بعد اندلاع الحرب الحدودية الإثيوبية-الإريترية عام 1998، فقدت إثيوبيا الطريق الى ميناء عصب الإريتري، ما دفعها لإقامة علاقات سياسية واقتصادية وثيقة مع جيبوتي بدافع المصالح المتبادلة. ومنذ ذلك الحين اعتمدت أديس أبابا على الموانئ الجيبوتية في تجارتها الخارجية، بالمقابل اعتمدت جيبوتي على أثيوبيا في وارداتها من المياه العذبة والكهرباء، وتقدر المصادر الرسمية في جيبوتي حجم عائدات تجارتها مع أديس ابابا بنحو مليار دولار سنويا، وهو ما يعادل نحو 60 بالمئة من الدخل الإجمالي للبلاد، ومع ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي في اثيوبيا، عملت في السنوات الأخيرة على محاولة الخروج من دائرة اعتمادها المطلق على الموانئ الجيبوتية ، بالبحث عن منافذ أخرى لتجارتها عبر الصومال والسودان وأرض الصومال ، إلا أن تلك المنافذ لم تشكل بديلا حقيقيا ، نظرا لحالة الفوضى وعدم الاستقرار في تلك الدول.

الأزمة الجيبوتية الإماراتية:

تنبهت الامارات المتحدة مبكرا لأهمية القرن الأفريقي وموقعه الاستراتيجي في التجارة الدولية، وللأمن القومي في الخليج.  في تسعينات القرن الماضي بدأت الامارات  عبر شركة موانئ دبي العالمية ببناء ميناء دورالي في جيبوتي، وعملت على تطوير المرافق والمعدات المشغلة له، كما ساعدت في تمويل الطرق والبنى التحتية الأخرى في البلاد، ورغم أن جيبوتي باتت تستضيف لاحقا ست  قواعد اجنبية  علي أراضيها إلا أنها رفضت طلبات أبوظبي لتأمين استثماراتها عسكريا في منطقة مضطربة ، وعزت المصادر أن السبب يعود لعلاقات الإمارات مع إرتريا وتحريض من أطراف خارجية، وهو ما دفع أبوظبي للبحث عن بدائل ،  فعقدت اتفاقية مع أسمرة لإنشاء قاعدة عسكرية في ميناء عصب عام 2015، ثم في السنة التالية حصلت شركة موانئ دبي على امتياز لمدة ثلاثين عاما لتشغيل ميناء بربرة في أرض الصومال، وهو ما أنذر بكسر احتكار جيبوتي  للبضائع الإثيوبية. سيما وأن أديس أبابا حصلت على حصة 19% في الميناء في وقت سابق من هذا العام. وهو ما قد يتسبب في خسارة جيبوتي مئات الملايين من رسوم العبور، ويبدو أن تحركات الامارات دفعت جيبوتي الى الاستيلاء على ميناء دورالي بشكل كامل وألغت امتياز شركة موانئ دبي العالمية لتشغيله.  أدى النزاع المفتوح الى لجوء الامارات لتقديم شكوى قضائية في محكمة لندن العليا للتحكيم الدولي التي قضت مطلع الشهر الحالي بأن عقد الامتياز بين جيبوتي وشركة موانئ دبي العالمية “ساري المفعول وملزم” لحكومة جيبوتي، إلا أن الحكومة في جيبوتي رفضت الاعتراف بقرار المحكمة.

العلاقات الجيبوتية الإرترية:

اتسمت العلاقة بين إريتريا وجيبوتي بتاريخ طويل من الاضطرابات والتوترات التي لم تحل بعد، ومن الممكن أن تتفجر مرة أخرى، ويعد أبرزها الأزمة الحدودية بين البلدين التي نشبت عام 2008، والتي تم احتوائها بعد وساطة قطرية حينها، حيث قامت الدوحة بنشر 450 من جنودها في المنطقة المتنازع عليها، إلا أن تلك الأزمة عادت للاشتعال مجددا بعد أن سحبت قطر جنودها من المنطقة على خلفية الصراع مع بقية دول الخليج ووقوف اسمرة الى جانب الدول التي تقاطع الدوحة. ولعل توقيع اتفاقيات السلام بين اسمرة وادريس أبابا، بما يعني أيضا فتح مينائي عصب ومصوع امام التجارة الاثيوبية الخارجية، من شأنه توجيه ضربة لاستئثار جيبوتي بهذا الدور لأكثر من عقدين، الامر الذي يفسر حملة التحريض والعداء التي تقودها حكومة إسماعيل غيلة ضد ارتريا في المحافل الدولية. ويرى مراقبون ان دور ” دولة للإيجار ” ربما تشكل حصان طروادة للعبث بمسيرة السلام التي يقودها رئيس الحكومة الاثيوبية ابي احمد، وسعية لتطبيع العلاقات الثنائية في القرن الافريقي، خاصة بعد نجاحه في ضم حكومة الصومال الى المصالحة الثلاثية. وستجد كل الأطراف المتضررة من الالتفاتة الاماراتية – السعودية الى القرن الافريقي لتأمين خاصرتها الغربية امام المخاطر الخارجية الفرصة لتخريب هذه الجهود وتعطيلها من البوابة الجيبوتية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.