الاحتجاجات الإسرائيلية وملامح معركة فاصلة

ورقة سياسات / أمير مخول

في 18 تموز/يوليو أعلن 161 طيارا حربيا التوقف عن الامتثال للخدمة في الاحتياط، وهي في جانب منها الزامية وفي غالبيتها طوعية وتصل عدد ايام الخدمة في الاحتياط الى 54 يوما في السنة، يضاف إليهم آلاف الجنود في الاحتياط ومعظمهم من الضباط ومن مختلف وحدات الجيش وقوات النخبة. من جهته، أكد نتنياهو بأن من يحكم البلاد هو الحكومة وليس الطيارين ، وأن الدولة تتدبر أمرها من دون هؤلاء لكنها “لا تتدبر أمرها من دون حكومة”.

تقدير:

اتسعت ظاهرة رفض الامتثال للخدمة في الاحتياط لدرجة فشلت الحكومة برئيسها ووزير الأمن وقيادة الجيش ورئاسة قائد الأركان وحتى رؤساء المعارضة في ثني هذه الشريحة الواسعة من أكثر الجنود خبرة وتمرّسا في العمليات الحربية عن موقفهم والعدول عن موقفهم الشخصي والجماعي على السواء. لتؤكد معظم التقديرات الأمنية بأن لُحمة الجيش قد تعرضت لضربة قاسية، وتتضارب التقديرات العسكرية في مدى الضرر الذي تلحقه ظاهرة رفض الامتثال لجاهزية الجيش وتدريباته ومخططاته للمدى القريب، والضرر اللاحق في هيبة اسرائيل وقوتها الردعية. تستحضر المؤسسة الأمنية التوترات على الجبهة الشمالية والغارة على محيط العاصمة السورية دمشق بعد منتصف ليل 18 الجاري، تبريرات للحملة الساعية إلى تحجيم ظاهرة الرفض.
يمثل تمرد أوساط واسعة من الجيش على الحكومة المتقدمة نحو التشريعات القانونية ظاهرة غير مسبوقة من حيث سعتها، مما تعتبره الحكومة تسييسا للجيش وتعتبره حركة الاحتجاج إساءة استخدام من قبل قادة الجيش والحكومة ووزير الأمن. وهي سمات تبدو وكأنها معركة فاصلة لكون كل طرف يسعى الى استخدام كل ما في جعبته من أدوات تأثير سياسي واقتصادي وأمني وشعبي ودولاتي. كما تشير مطالبة الرئيس الامريكي بايدن من نتنياهو بوقف التشريعات “فورا” الى اهمية اللحظة داخليا والى المسعى الأمريكي إقليميا، وهذا لا يعني أنها قد حسمت.

الانطلاقة المتجددة لحركة الاحتجاج مشحونة بالحضور الشبابي الطاغي في الايام الاخيرة، وفي أعقاب مواصلة الحكومة للتشريعات التي تمس بوضعية الجهاز القضائي، والمتزامنة مع زيارة رئيس الدولة هرتسوغ الى واشنطن، بالتدخل الأمريكي العلني والضاغط على نتنياهو، بما فيها إغلاق الطرقات ومحاور السير وتعطيل حركة القطارات والمواصلات واقتحام البورصة، والقرار بسحب جماعي للمدخرات من البنوك وإضراب المستشفيات وعدم توقف الاحتجاجات، أعمالا فيها مركبات من العصيان المدني السلمي وغير العنيف. وتشير الى الثقة التي عادت لتتمتع بها حركة الاحتجاج في هذه المعركة التي تعتبرها فاصلة على شكل الدولة والمجتمع الاسرائيليين، وحول طبيعة الصهيونية الراهنة.

تطور نوعي ، تحذيرات المفكرين:

انطلقت اصوات من كبار المفكرين الاسرائيليين تحذر من هيمنة قيادات الصهيونية الدينية الفاشية والمسيانية المتحالفة مع نتنياهو وذات السطوة عليه، على طبيعة اسرائيل، لدرجة اعتبر فيها أحد أهم الفلاسفة الحاليين يوفال نوح هراري بأن اسرائيل على شفى التحول جوهريا الى “الدولة اللاسامية الأولى في العالم” كونها ستدفع العلمانيين الى هجرها بسبب عقيدتهم اليهودية التي لا تحتملها الدولة”، وتشاركه في التقدير الباحثة في التاريخ اليهودي وعالمة الاجتماع أنيتا شابيرا محذرة من هيمنة التيار المسياني على الحكم وسحق التيار العلماني، الذي لن تكون امامه خيارات سوى ترك البلاد والقطيعة مع اليهودية ومع اللغة العبرية. بينما يؤكد مناحيم لازار الخبير في تيار الصهيونية الدينية الى انه، ابتداء من حزب المفدال الذي أقيم في العام 1956 والذي مثّل التيار الوسطي وكل شرائح هذا التيار، وصولا الى حزب الصهيونية الدينية الحالي برئاسة سموتريتش فإن هذا الحزب لا يمثل أكثر من ربع التيار الصهيوني- ديني، بينما غالبية هذا التيار تشعر أنها باتت من دون حزب يمثلها وفي حالة ضياع واغتراب. وتأتي التحذيرات من “الخراب الثالث” [على غرار خراب الهيكل الاول والثاني] باعتبار ان الكوارث الانسانية تأتي بسبب فعل قائم على حسابات شخصية كما ينهي هراري، وعلى مصير يشبه مصير الصليبيين في فلسطين كما تروي شابيرا مقتبسة الاستاذ الفلسطيني رشيد الخالدي. كما وتربط تاريخيا بين احتلال 1967 والتحول الأعمق في طبيعة تيار الصهيونية الدينية.

هذه الصرخات تؤكد مصيرية اللحظة، فإما اليأس والانهيار والتفكك وإما استعادة التيار الصهيوني المركزي لزمام الامور. في حين ترى حركة الاحتجاج ايضا انها بلغت لحظة فارقة تستخدم فيها كل مواطن قوتها وتحالفها مع الدولة العميقة ومع جماهير الشعب. في حين تسعى التيارات الأكثر تشددا وتزمتا في الحكومة إلى التسريع في استباق الانهيار وإنجاز ما يمكن إنجازه من تشريعات ومن تنفيذ جدول أعمالها السياسي وحصريا على الساحة الفلسطينية سواء في الضفة الغربية أم في مناطق 48، وإتمام مهمة انقلاب النخب الحاكمة والممسكة بمقاليد الدولة ومنظوماتها.

تراجع دور مرجل الصهر:

تَعطُّل بوتقة الصهر اليهودية وهي من أهم مقومات المشروع الصهيوني بتحويل كل يهودي في العالم يطأ أرض فلسطين التاريخية الى اسرائيلي بمفهوم الانتماء والولاء للأرض والشعب وقيم الصهيونية، ليشكل الجيش تاريخيا الحيز التي يتم فيه تطبيق بوتقة الصهر لليهود القادمين من مختلف أرجاء العالم. هذا التعطل بدأ ينتج عنه استفاقة قوية للهويات المتناحرة، على شاكلة شرقيين واشكناز، حريديم وصهيو-دينيين وعلمانيين، الخ، وهناك حملة مكثفة من قبل مركبات الحكومة لتأليب مؤيديهم الى التصدي شعبيا لحركة الاحتجاج الامر الذي وجد تعبيرا عنه في اعمال دهس المتظاهرين واعتداءات عنيفة عليهم وصولا الى إغلاق البلدات والكيبوتسات في الجليل والمركز والنقب ومعظم سكانها من اليهود الأشكناز والتي تدعم حركة الاحتجاج ولها دور فعال فيها، بينما من يقوم بذلك هم سكان ما يسمى “مدن التطوير” ومعظم سكانها من الشرقيين المتدينين و المؤيدين للحكومة. كما قررت احزاب الائتلاف الحاكم تنظيم مظاهرة مليونية دعما للحكومة وتشريعاتها، ومن المشكوك فيه تماما ان تصل الى هذا العدد او قريبا منه، وعادة ما تستعيض عن قلة العدد بالعنف المفرط وأعمال التخريب للممتلكات العامة والاعتداءات بخلاف حركة الاحتجاج، في حين أن جزءا أساسيا من جمهور اليمين سيحضر من مستوطنات المناطق المحتلة عام 1967 ومن التنظيمات الارهابية العاملة فيها وميليشيات تعمل داخل مناطق 48، وهددوا بالاعتداء على أي فلسطيني يصادفونه خلال مظاهرتهم. هنا تبدو مصيرية اللحظة وقد تدفع نحو اعتداءات وصدامات تصل حد الاغتيال السياسي.

في الخلاصة:

من الواضح أن استفاقة الاحتجاجات وتعاظمها تحاصر نتنياهو وحكومته كما لم تكن يوما ويفقد فيها السيطرة فيما يخص ظاهرة رفض الخدمة العسكرية في قوات الاحتياط وأثر ذلك على اللحمة الداخلية وعلى الجهوزية وعلى وحدة المجتمع وعلى فاعلية الحكومة.
الأمور تتجه نحو حسم غير واضح المعالم في الصراع ما بين قوة الشارع وقوة الغالبية البرلمانية الانية، بقدر ما قد توفر فرصا لكنها تحمل في طياتها مخاطر أيضا، فهي فرصة لحركة الاحتجاج وتعطيل حركة الدولة وإحداث شرخ عميق في الائتلاف الحاكم تدعمه الضغوطات الأمريكية، في حين تريد الحركة فرض انتخابات جديدة، بينما الموقف الأمريكي قد يدفع باحتمالية تغيير تركيبة الائتلاف أو حتى وقف التشريعات، وهذا الموقف اعلنه ايضا بيني غانتش رئيس المعسكر الرسمي والاكثر احتمالية لتشكيل حكومة بديلة وذلك في خطابه مساء الاربعاء 19 تموز/يوليو.

فقدان قيادة تيار الصهيونية الدينية لمواقعها في الحكم، يمكن ان يفضي الى تسارع نحو انجاز التشريعات من ناحية وتطبيق جدول أعمالها وأولوياتها التي في معظمها تتعلق بمقاليد القوة التي يتحكم بها تجاه الشعب الفلسطيني في كل فلسطين التاريخية.
وفي تقديرنا أن هذا هو التحدي الرئيسي لقيادات الشعب الفلسطيني وحصريا في المناطق المحتلة عام 67 وداخل اسرائيل، فالتحديات الناتجة عن الصراع الإسرائيلي الداخلي خطرة، تملي جاهزية فلسطينية من نوع جديد. وفي مقدمتها مغادرة مربع الأوهام التي تقول ان انتصار الاحتجاج وتغيير التحالف الحكومي في اسرائيل يمكن أن يضمن تحسنا ملموسا مبنيا على العدالة في وضعية الفلسطينيين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.