جيرمي كوربين وحزب العمال على مفترق طرق
حمزة علي شاه
ينشغل العالم، بكل ما يتعلق بحزب العمال وزعيمة العجوز اليساري جيرمي كوربين، باعتباره أحد النماذج الناجحة التي تقف في مواجهة اليمين الشعبوي الذي يجتاح العالم في الأشهر الأخيرة. فهو الحزب الوسطي الوحيد الذي يحسب على الاشتراكية الدولية، والذي ينمو وتتسع عضويته، بخلاف كل أحزاب الاشتراكية الديمقراطية في القارة الاوروبية. فهو الأكبر أوروبيا، كما زادت نسبة الشباب في عضويته أقل من ثلاثين عاما ما يصل الى الأربعين بالمئة، في وقت تتراجع فيه شعبية الأحزاب الأوروبية المثيلة بصورة لافتة في الانتخابات الأخيرة، كما ان التقديرات واستطلاعات الرأي، تشير الى أن أحزاب اليمين الشعبوي ستجتاح البرلمان الأوروبي في انتخابات مايو \ أيار القادم. لهذا ينظر ديمقراطيو أوروبا الى حزب العمال البريطاني الذي ترشحه الاستطلاعات للوصول الى الحكم بعد أن قلص الفارق مع حزب المحافظين اليميني، ليكون رافعة استنهاض القوى الديمقراطية واليسارية الأوروبية ووقف الاجتياح اليميني للبرلمانات والبلديات.
. الجدل الكبير في بريطانيا حول مستقبل كوربين، مرده الى استطلاع حكومي للرأي نشر في الثاني من يناير \ك٢، واجري على أعضاء حزب العمال، أشار إلى أن ٨٠ بالمئة من المستطلعين قالوا بأنهم يؤيدون بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي ، في حين ظهر ان ٧٢ بالمئة يريدون من كوربين وضع ثقله خلف استفتاء جديد . هذا الاستطلاع اشعل هستيريا إعلامية في بريطانيا، وبعضها أشار أن ذلك يشكل صفعة قوية لحزب العمال وزعيمه، بسبب الموقف المتردد و المؤيد للانفصال تحت عنوان، احترام نتائج الاستفتاء السابق والذي قالت فيه الأغلبية البسيطة ٥٢ بالمئة انهم مع الخروج النهائي من الاتحاد الأوروبي.
ومما يزيد من القلق داخل الحزب، ان الاستطلاع يشير الى أن عدد أعضاء حزب العمال الذين يعتقدون أن أداء قيادة الحزب كان جيدا قد انخفض من ٨٠ بالمئة إلى ٦٠ بالمئة.
في كل الأحوال، يظهر الاستطلاع ان موضوع الخروج من الاتحاد الأوروبي مدى الانقسام الذي يعيشه المجتمع البريطاني، والذي لم يعد يقتصر على حزب المحافظين، بل أصبح اليوم مسالة خلافية داخل حزب العمال بموقفه المتردد والملتبس.
ومما تجدر الإشارة له أن هذا الخلاف والسخط الداخلي لا يعني تلقائيا انخفاض شعبية حزب العمال، فبحسب الاستطلاع، لا زال كوربين يستفيد من التأييد الساحق له داخل الحزب، وذلك بفضل الدعم الكبير الذي يحصل عليه من المجموعة الشابة التي تنتظم في إطار رديف، داعم له وهو” مومينتوم “، وفي الأغلب فإن الشباب في داخل الحزب هم الفئة المؤيدة لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، ومارسوا تأثيرا قويا في الشارع وداخل الحزب، ضد الخروج من الاتحاد.
لقد واجه كوربين الصعاب في مواجهة الأغلبية اليمينية البليرية داخل حزبه، و بقيادته وبدعم من الشباب قدم الحزب بهوية جديدة. قبل عامين فقط من الانتخابات العامة في عام ٢٠١٧ ، كان القيادي العجوز من جماعة الهامش اليساري ، بلا أي تأثير حقيقي ، لكنه تقدم للقيادة وحقق بفضل دعم الأجيال الشابة فوزا مذهلا على المنافسين ” آندي بورنهام ، يفيت كوبر وليز كيندال ، وهزم مرتين تحديات على زعامته تيارا يمينيا والنواة البليرية الصلبة .وتوج كوربين تقدمه الراسخ في الحزب بعد الهزيمة المهينة لزعيم الحزب السابق إد ميليباند في الانتخابات العامة عام ٢٠١٥ التي خسر فيها حزب العمال الانتخابات للمرة الرابعة على التوالي وحصل ٢٣٢مقعدًا فقط، وهو أدنى مستوى له منذ العام عام ١٩٨٣. ولكن في الانتخابات العامة عام ٢٠١٧، التي قادها كوربون ، حقق حزب العمال فوزا كبيرا بتجريد تيريزا ماي وحزبها المحافظ من الأغلبية الحاكمة بـ٢٦٢ مقعدًا.
.. منذ ذلك الحين، توسعت عضوية حزب العمال، والحديث يجري عن ٦٠٠ ألف عضو وارتفعت مصداقيته. كما أشارت استطلاعات الرأي المختلفة على مدار العام الفائت ٢٠١٨، إلى تقدم واضح لحزب العمال على المحافظين.
لهذه الأسباب يبدو الحديث الإعلامي عن أزمة كوربين مبالغ به، ومن الواضح أن لديه ثقة كبيرة بحزبه المتجدد وبهوية تشبهه فكرية وسياسية تشبهه الى حد كبير. ومع ذلك، ورغم ما يوصف بأنه أزمة له ولحزبه بعد استطلاعات مطلع العام، فانه يتمسك بإبقاء مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون حل، ويكتنفها الغموض الشديد.
متابعون قريبون من حزب العمال، يبررون هذا الغموض بأنه مناورة سياسية ذكية يمارسها ثعلب السياسة العجوز، فالتقدم باستراتيجية واضحة ومحددة، يشكل مخاطرة كبيرة انتخابيا وداخل الحزب. التقديرات تشير إلى أن ثلث مؤيدي حزب العمال كانوا مع الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء عام ٢٠١٦. وهكذا، فإن تغييرا في سياسة الحزب تتعارض مع مواقف ثلث مؤيديه و كتلته الانتخابية الصلبة، يعني انهم سيغادرون الحزب، وهؤلاء يتركزون تقليديا في مناطق الوسط “الميدلاند” والشمال. ولهذا كان على كوربين أن يوازن بين خلافات قاعدة الحزب في قضية جوهرية، وابقى على سياسة غامضة ، عنوانها احترام رأي الشعب في الاستفتاء ، ودفع الحكومة للتقدم بتصور عملي للخروج الآمن والسلس من الاتحاد الأوروبي ، منتظرا أن تتضح المعركة الداخلية في حزب المحافظين الذي ينشطر اليوم حول الموقف من صفقة الخروج من الاتحاد الأوروبي . في ذات الوقت حافظ كوربين على وحدة قطبي الحزب من المؤيدين للبقاء والداعين للخروج من الاتحاد الأوروبي ، وهم الذين حققوا معه النسبة الفارقة في انتخابات الماضية.
استراتيجية كوربين ؟
التقديرات تشير إلى أن كوربين سيتمسك بنتائج الاستفتاء السابق ، محافظا بثبات على نتائج الانتخابات العامة قبل عام ، وتوجهات مؤتمر الحزب في سبتمبر \أيلول الماضي . الأولوية هي، الوصول الى ” ١٠ داونينغ ستريت ” مقر الحكومة أولا، ثم العودة للتفاوض مع الاتحاد الأوروبي بشروط حزب العمال، بعدها يمكن اللجوء الى الاستفتاء الشعبي مرة أخرى.
في الواقع ، عندما تقدم “تيريزا ماي” خطة الخروج إلى البرلمان في يناير\ ك٢ ، فإن الاحتمال المرجح أن يجري التصويت على تلك الخطة ، وبالتالي الوصول الى اللحظة الحرجة التي ينتظرها كوربين وهي التصويت بالثقة على الحكومة ، ووضع رئيسة الحكومة وحزبها تحت ضغط كبير .فالمحافظون منقسمون اليوم بين جناح مؤيد للبقاء في الاتحاد الأوروبي ومعهم الحليف الرئيس الايرلندي الذي يؤمن غالبية حكومية بسيطة ، وبين تيار واسع يقوده بوريس جونسون وزير الخارجية الأسبق ، ويدافع بقوة عن فكرة الخروج مؤيدا من الحزب اليميني المتطرف( UKIP) . وبالتالي ، فإن تقدم حزب العمال بحجب الثقة عن الحكومة كما يعتزم بالفعل ، فان انصار البقاء في الاتحاد الاوروبي سيكونون أغلبية مطلقة في البرلمان ، وهو ما يفتح الباب لانتخابات مبكرة ، تعطي كل استطلاعات الرأي حزب العمال تفوقا على المحافظين.
من هنا يمكن فهم نهج كوربين المتدرج ، بأن يمتنع عن اتخاذ أي خطوة ، حتى يتم التصويت في البرلمان. لكن مصدر القلق الرئيس داخل حزب العمال، أن يؤدي الدفع نحو استفتاء جديد، قد يوقف فوضى المواقف داخل الحكومة من مسالة الخروج من الاتحاد الأوروبي لفترة وجيزة ، لكنه قد يبقي المحافظين في الحكم.
يبدو السيناريو واضحا في رأس كوربين، ولهذا لا يبدو أنه سيذعن للضغوطات الحزبية بضرورة إعلان موقف حاسم من مستقبل بريطانيا ، لكن ساعة الحقيقة قد اقتربت ، خاصة وان داعميه الرئيسيين داخل الحزب وهم الجيل الشاب هم من يقودون الحملة للبقاء في الاتحاد الأوروبي.