اليمن.. إتفاق ستوكهولم و آفاق الحلول

مركز تقدم للسياسات – لندن

حملت جولة المشاورات اليمنية الاخيرة في السويد انفراجه هامة في مسار الحلول للازمة الممتدة منذ أربعة أعوام، إذ أفلح الطرفان المتحاربان، الحكومة الشرعية اليمنية وجماعة أنصار الله الحوثية، بالجلوس على طاولة المفاوضات برعاية الامم المتحدة لأول مرة منذ عامين سعيا لجسر الفجوات وتدوير الزوايا الحادة وصولا لإتمام توافقات حول عدد من القضايا العالقة وهو ما كانت الاطراف قد فشلت في تحقيقه خلال جولات تفاوضية سابقة تعددت فيها الأمكنة والرعاة.
فبعد حراك دبلوماسي نشط للمبعوث الاممي الخاص الى اليمن مارتن غريفيث متنقلا بين عواصم عدة في المنطقة والعالم خلال الاسابيع التي أعقبت فشل الجولة التفاوضية في جنيف السويسرية في سبتمبر الماضي، نجح المبعوث الخاص بإقناع طرفي الصراع في اليمن بالحضور لجولة “مشاورات” جديدة في العاصمة السويدية ، سعيا للبحث في عدد من القضايا الانسانية و الامنية و الاقتصادية لأول مرة منذ جولة مشاورات الكويت عام 2016 و أملا بتهيئة المناخات الملائمة أمام الجهود الرامية للتوصل لحل شامل للأزمة  استنادا للمرجعيات الثلاث، مبادرة مجلس التعاون الخليجي و آليتها التنفيذية و نتائج الحوار الوطني و قرارات مجلس الامن بما فيها القرار 2216.
حضر الإنساني وغاب السياسي:
المبعوث الأممي استهل جولة المشاورات الجديدة بالإعلان عن أول إنجاز ملموس لها قبل أن تبدأ أعمالها فعليا إذ أعلن خلال الجلسة الافتتاحية لجولة المشاورات بحضور الطرفين وجها لوجه وتحت سقف واحد عن التوقيع على اتفاق لتبادل “السجناء والمحتجزين والمفقودين والمغيبين قسراً والأفراد الذين وضعوا قيد الإقامة الجبرية” بين الحكومة اليمنية الشرعية وجماعة الحوثيين وهو الاتفاق الذي جرت المفاوضات حوله قبيل انطلاق جولة المشاورات في السويد.
اتفاق ألقى بظلال خفيفة على مسار المشاورات وأثار مناخا إيجابيا بعث على التفاؤل، وإن بحذر، إزاء امكانية إحراز تقدم حقيقي وملموس يبنى عليه، للوصول لحل شامل على المدى المنظور.
في الجلسة الافتتاحية لجولة المشاورات الجديدة والتي استضافها قصر جوهانسبرغ التاريخي شمالي ستوكهولم، حدد المبعوث الاممي أجندة الجولة الجديدة بالبحث في الالية التنفيذية لاتفاق السجناء والمعتقلين وخفض التصعيد في أنحاء البلاد لاسيما في مدينة الحديدة ورفع الحصار عن مدينة تعز وتسهيل ايصال المساعدات الانسانية والبحث في قضية مطار صنعاء الى جانب البحث في قضايا اقتصادية تشمل البنك المركزي ورواتب الموظفين.
وبالرغم من أن تصور المبعوث الاممي هذه الجولة الجديدة لم يشمل الخوض في قضايا الحل السياسي الا أن المبعوث الخاص أشار أن جولة المشاورات هذه تمثل “فرصة حاسمة لإعطاء زخم لعملية السلام وللتحرك نحو اتفاق شامل يستند إلى المرجعيات الثلاث” وتمهد الطريق “لتحقيق تقدم جدي في إطار للمفاوضات يحدد معالم اتفاق السلام واستئناف الانتقال السياسي”.
الاتفاق والمعوقات:
أسبوعان من جلسات التفاوض التي تفاوتت بين الجلسات المباشرة حينا وغير المباشرة أحيانا، بدى خلالها الطرفان جادان ومنضبطان وملتزمان بالإطار الذي وضعه المبعوث الخاص، أفضت للتوصل لاتفاق ستوكهولم والذي شمل ما يلي:
1. اتفاق حول مدينة الحديدة وموانئها، الحديدة والصليف وراس عيسى.
2. آلية تنفيذية لاتفاقية تبادل الاسرى
3. تفاهمات حول مدينة تعز
نصت الاتفاقية حول مدينة الحديدة على وقف فوري لإطلاق النار يدخل حيز التنفيذ منتصف ليل السابع عشر من ديسمبر في محافظة الحديدة وموانئها الثلاثة، الحديدة والصليف وراس عيسى الخاضعة لسيطرة الميليشيات الحوثية. كما نصت الاتفاقية على إعادة انتشار/ انسحاب جميع القوات من الموانئ الثلاثة الى “مواقع متفق عليها” خارجها والالتزام من الجانبين بعدم استقدام أي تعزيزات عسكرية جديدة الى المنطقة. تستكمل هذا الاجراءات خلال 21 يوما من دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ.
نصت الاتفاقية كذلك على تشكيل “لجنة تنسيق إعادة انتشار مشتركة” من الطرفين برئاسة الأمم المتحدة تراقب اتفاق وقف إطلاق النار وعمليات انسحاب القوات. حملت الاتفاقية قبولا “بدور قيادي” للأمم المتحدة في عمليات التفتيش في موانئ الحديدة الى جانب القاء مسؤولية أمن الحديدة و موانئها على عاتق “قوات أمن محلية”.
لم يكن حبر الاتفاق الموقع قد جفّ بعد حتى سارع الطرفان لتطيير تفسيراتهم لنصوص الاتفاق  وبنوده و التي تباينت و تضاربت، فبينما أكدت الحكومة اليمنية أن الإتفاق يشير في “محصلته” الى خروج الميليشيات الحوثية من المدينة و موانئها و تسلّم الحكومة مسؤولية أمن و إدارة المؤسسات “بشكل كامل” لتدار من قبل سلطات موانئ البحر الأحمر كما كانت عام 2014، أشار الطرف الحوثي الى أن بنود الإتفاق لا تشمل تسليم الموانئ بل “إعادة ترتيب الأوضاع” هناك مؤكدين أن “السلطات القائمة” هي الطرف الذي سيشرف على إدارة و أمن المدينة وموانئها.
لطالما أكدت الحكومة الشرعية على موقفها الثابت بضرورة تطبيق القرارات الأممية والتي نصت على انسحاب الحوثيين من المدن و إعادة مؤسسات الدولة و تسليم أسلحتهم، وقد اعتبر  البعض في الفريق الحكومي في بنود إتفاق الحديدة تناقضا مع القرار 2216 إلا أن وفد الحكومة اليمنية وفي خضم مرونته التي أبداها خلال المشاورات، أكد في أكثر مناسبة تغليب مصلحة اليمنيين و ضرورة إنهاء معاناتهم. موقف يبدو أنه لعب دورا أساسيا في إفساح المجال أمام التوصل لصيغ توافقية تمهد الطريق أمام حلول أشمل.
نجح المبعوث الخاص في تحييد ملف الأسرى والمعتقلين كملف إنساني بعيدا عن الحسابات السياسية لطرفي الصراع على الأرض إذ يشرف مكتب المبعوث الأممي على الاتفاق ويضمنه. ينص الاتفاق على إطلاق سراح جميع الأسرى و المعتقلين و المفقودين و المحتجزين تعسفيا والمخفيين قسراً (نحو 15 ألفا)  لدى جميع الاطراف و دون أي استثناءات أو شروط سعيا لحل هذا القضية بشكل “كامل و نهائي”.
مثّل الاتفاق أختراقا كبيرا في جدار إنعدام الثقة بين الطرفين المتحاربين واستعصاء التوصل لحلول بينهما منذ اندلاع الصراع ومهّد الطريق أمام أمكانية التوصل لتوافقات أوسع و أشمل لا تنحصر في القضايا الإنسانية فسحب بل تنحسب كذلك على القضايا الامنية وصولا للقضايا السياسية.
اما عقدة مطار صنعاء، فقد عكف الطرفان المتفاوضان خلال الأيام الأربعة الاولى للجلسات للبحث عن حلول ومخارج للأزمة العالقة منذ أعوام والتي تلقي بتداعيات إنسانية صعبة وثقيلة على المواطنين اليمنيين. قدمت الحكومة الشرعية اليمنية تصورها للحل عبر تسيير رحلات داخلية من مطار العاصمة الى مطاري عدن و سيؤن لتفتشيها هناك. مقترح سارع الوفد الحوثي لرفضه، مؤكدا تقدمه “بمقترح مضاد” بتوجه الطائرات الى الاردن أو مصر قبل توجهها الى مطار صنعاء. وبالرغم من محاولات فريق المبعوث الخاص تدوير بعض الزوايا في مواقف الطرفين “وتلطيف” توصيفات مطاري صنعاء و عدن في لغة الجانبين” كسيادي” هنا أو “داخلي” هناك و كذلك تخفيف صيغ بنود أي حل مأمول لهذا الملف إلا أن الدخان الأبيض لم يصعد هذه المرة من قاعات التفاوض حول مطار العاصمة بانتظار جولة أخرى علها تأتي بالحلول.
ضغط عسكري وتوافق دولي وإقليمي:
. عاملان أساسيان، عسكري ودبلوماسي، أسهما بتسريع عجلة الحلول:
أولا / الضغط العسكري والميداني للتحالف العربي وقوات الحكومة الشرعية:
تصاعدت خلال الفترة الماضية وتيرة العمليات العسكرية للتحالف العربي وقوات الحكومة اليمنية ضد ميلشيات الحوثي على كافة الجبهات إذ شهدت خريطة الميدان تحولات نوعية لصالح تحالف دعم الشرعية لاسيما على جبهات الساحل الغربي. فمنذ مطلع العام 2017 تقدمت القوات اليمنية مدعومة من التحالف بخطى ثابتة وبوتيرة متسارعة على هذه الجبهات واستعادت مساحات واسعة من قبضة ميلشيا الحوثي بدءا من إستعادة مدينة المخا ومينائها والتقدم المتواصل في معاقل الحوثيين بجبهات صعدة ومحاور أخرى وصولا لمدينة الحديدة الاستراتيجية وتطويقها من جهات ثلاث وقطع خطوط إمداد الميليشيات الحوثية هناك. تحولات عسكرية ألقت بتداعيات ثقيلة على ميليشيات الحوثي على الارض وعلى المشروع الإيراني برمته في البلاد ما حصر خياراتهم ودفع بهم للعودة للمسارات السياسة والجلوس على طاولة المفاوضات.
ثانيا / توافق إقليمي ودولي:
تبدو المواقف الاقليمية والدولية لاسيما السعودية – الاماراتية من جهة والامريكية -البريطانية من جهة أخرى عوامل أساسية لتسارع الجهود الرامية للتوصل لحل سياسي حقيقي وشامل استنادا للمرجعيات الثلاث. بدى الدور الإقليمي والدولي الفاعل المحيط بالمشاورات الأخيرة واضحا من خلال مؤشرات عدة ، تمثلت بداية بحضور سفراء السعودية والامارات العربية المتحدة وكذا سفراء اعضاء مجلس الامن الدائمين لدى اليمن لجولة المشاورات ولقاءاتهم مع الطرفين المتفاوضين ومحاولاتهم التقريب بين وجهات المواقف وتمهيد الطريق امام صيغ الانفراج والحل. بيان السفراء المشترك اعتبر المشاورات “خطوة أولى حاسمة” نحو إنهاء الصراع في اليمن والتعاطي مع ” حالة الطوارئ الإنسانية” والتصدي “للتدهور الحاد” في الاقتصاد الوطني.
ارتفع منسوب هذا الدور لاحقا مع قدوم عدد من وزراء خارجية الدول الاعضاء في مجلس الأمن كان أبرزهم وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت والذي أكد دعم بلاده لجهود الأمم المتحدة للتوصل لتسوية سياسية الى جانب الرسائل التي حملها حضور الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش للجلسة الختامية للجولة التشاورية.
يرى مراقبون أن الدبلوماسية البريطانية تلقي بدعمها الناعم والثقيل خلف مهمة المبعوث الأممي والدبلوماسي البريطاني السابق مارتن غريفيث سعيا لانجاحها. دعم ، عكسه مشروع القرار البريطاني في مجلس الأمن والذي يهدف لتدعيم إتفاق ستوكهولم وإسناد مهمة الأمم المتحدة في الإشراف وضمان تنفيذ بنوده.
إيرانيا ، وهو الطرف الفاعل في دعم المنقلبين على الشرعية من جماعة الحوثي ، غاب عن خطابهم التصريحات التصعيدية خلال جولة المشاورات في السويد ، كذلك بدت الأطراف المدعومة من إيران منضبطة على الارض و ملتزمة بالهدوء النسبي في الميدان خلال أيام المفاوضات. الخارجية الإيرانية رحبت بالاتفاق وأعربت  عن أملها بتنفيذه خلال الاطار الزمني المحدد. يأتي هذا الموقف منسجما مع دلالات تحوّل موازين القوى في الميدان و متماهيا مع المزاج الدولي المحيط بالملف اليمني و مشاوراته و الدعوات لإحداث اختراقات والتوصل لمخارج حقيقية من الحرب الدائرة.
الشرعيات.. وصفة للحل؟
بالرغم من أن إتفاق ستكهولم لم يلب كثيرا من مطالب الحكومة الشرعية  و شروطها للحل ، و لم يأت منسجما الى حد بعيد مع رؤيتها و تصورها للحل الذي لطالما رددته و تمترست وراءه ، إلا أن صيغ الاتفاق و روحه المشبعة بالتصور الدولى والأممي للحل تحمل معها دروسا من تجارب سابقة بأن لا حلول ممكنة لأزمات المنطقة وحروبها دون عودة مؤسسات الدولة و أجهزتها المختلفة  الى الحياة ، و بأن المخارج من حرائق المنطقة المتنقلة والفوضى غير الخلاقة ، يتمثل بتدعيم الشرعيات والدولة الوطنية ، وتثبيت سلطتها وتوسيع أدوارها لملء الفراغات و سد الثغرات التي تفتح أبواب الجحيم لتيارات الإرهاب والتطرف.
ويأمل المبعوث الأممي الخاص أن يمهد نجاح تنفيذ الاتفاقات على الأرض، الطريق للجلوس على طاولة المفاوضات مجددا بداية العام المقبل والبحث في قضايا الحل الشامل عبر استئناف مسار الانتقال السياسي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.