سقوط “الصبر الاستراتيجي”: هل باتت إيران أقرب إلى القنبلة النووية؟

د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات
ورقة سياسات

ملخص تنفيذي:

– كشفت المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل عن حاجة إيران إلى تطوير استراتيجيات الأمن والدفاع وسدّ الفجوة في قدرات الردع بين الطرفين.
– مقابل تعليق العمل بنظرية “الصبر الاستراتيجي”، قررت طهران عقب الردّ الإسرائيلي “المزعوم ” في أصفهان وقف مسار التصعيد والتلويح بخيارات ردّ استراتيجي.
-استنتجت طهران وجود جبهة ردع غربية سياسية وعسكرية جاهزة لحماية إسرائيل وإدانة الموقف الإيراني، ما يفرض إعادة قراءة لاستراتيجيات الردع لحماية إيران
– جرى التلميح بخيار فتح كافة الجبهات التي تسيطر عليها الفصائل الموالية لإيران في المنطقة ليكون الردّ خلال ثوان على أي هجوم إسرائيلي.
– رغم تحفّظ إيران رسميّا عن التعبير عن أي طموحات لاقتناء القنبلة النووية، فإن مصادر في طهران بدأت تسرّب احتمال الذهاب باتجاه هذا الخيار، خصوصا بعدما كشفته الوكالة الدولية للطاقة الذرية من أن إيران باتت “على بعد أسابيع وليس أشهرا” من امتلاك المواد الكافية لتطوير قنبلة نووية.

تقديم:

في ليلة 13-14 أبريل 2023 أطلقت إيران مئات من المسيّرات إضافة إلى عشرات من الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز باتجاه إسرائيل. جاء هذا الهجوم ردّا على قيام إسرائيل بقصف القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من نفس الشهر. استغرقت رحلة الهجوم حوالي 7 ساعات، ما وفّر الوقت اللازم للاستعداد للتعامل مع هذا الهجوم.
قامت مقاتلات وأنظمة الحماية الصاروخية الإسرائيلية بصدّ الهجوم مدعومة بدفاعات أميركية وبريطانية وفرنسية. وفيما أعلنت إسرائيل إسقاط كافة المقذوفات قبل وصولها إلى أجوائها، سُجل سقوط بعضها على بعض الأهداف منها مطار “رامون” جنوب صحراء النقب. خلط الحدث الأوراق في الشرق الأوسط لكنه أيضا أعاد ترتيب أولويات وخيارات إيران في مسائل الأمن والدفاع.

الصدام المباشر: الحدث ورواياته.

تراوح تقييم الهجوم الإيراني بين قراءة لطهران وحلفائها في المنطقة تعتبر الحدث سابقة تؤسّس لموازين ردع جديدة، ورواية إسرائيلية غربية تتحدث عن فشل هذا الهجوم في تحقيق أغراضه، وعن قدرات إسرائيل التسليحية العالية في ردّ هجوم واسع بهذا الحجم مقابل انكشاف انخفاض مستوى الأسلحة الإيرانية، وعن عدم امتلاك ندّية في أي مواجهة مباشرة بين الطرفين. وفيما رأت الرواية الإيرانية بأن منظومة دفاعات دولية إقليمية ساهمت في صدّ الهجوم الإيراني، فإن طهران اكتشفت جاهزية هذه المنظومات لحماية إسرائيل، واستنتجت ضرورة أخذ الأمر في الحسبان في الصراع بين إيران وإسرائيل.
في 19 أبريل، أي بعد أقل من اسبوع على الهجوم الإيراني، تعرّضت قاعدة عسكرية إيرانية في منطقة أصفهان وسط إيران إلى هجوم يُعتقد أن إسرائيل كانت وراؤه. لم تعترف إسرائيل رسميا بالهجوم، غير أن وزير الأمن الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، كتب متهكما على منصة X (تويتر سابقا) كلمة “مسخرة” اعتراضا على مستوى الهجوم، ما فضح اعترافا شبه رسمي من عضو في حكومة بنيامين نتنياهو بأن إسرائيل قد نفّذت هجوم أصفهان. وقد تتالت تقارير صحفية إسرائيلية وغربية تكشف تفاصيل العملية الإسرائيلية لجهة استخدام صاروخ واحد أطلق من مسيّرة إسرائيلية.
تعتقد تحليلات أميركية أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في واشنطن نجحت في الضغط على الحكومة الإسرائيلية للحدّ من حجم ومستوى الرد الإسرائيلي. وقد ساهمت عواصم أوروبية في هذه الضغوط، بما في ذلك من خلال زيارة كل من وزيرة خارجية ألمانيا، أنالينا بربوك، ووزير خارجية بريطانيا، ديفيد كاميرون، إلى إسرائيل. وقد أعلن كاميرون من هناك أن “إسرائيل اتّخذت قرار الردّ وسيكون الردّ ذكيا ومحدودا”، ما أعطى انطباعا عما وصلت إليه التفاهمات الغربية الإسرائيلية بشأن هذا الردّ.

سقوط “الصبر الاستراتيجي”

تمسكّت إيران خلال العقود الأخيرة بـ “الصبر الاستراتيجي” وفق خيار دافع عنه مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي. وقد ظهر صمود هذه الاستراتيجية على الرغم من قيام إسرائيل بتنفيذ عمليات تخريب واغتيال داخل الأراضي الإيرانية وبتنفيذ عمليات اغتيال طالت مسؤولين كبار في الحرس الثوري يعملون في سوريا. وفرضت طهران هذه الاستراتيجية على حزب الله في لبنان من خلال ضبط مستوى هجماته على الحدود مع إسرائيل على الرغم من تكبّد الحزب خسائر نوعية منذ بداية تدخله الداعم لغزّة في 8 اكتوبر 2023. ووفق هذه الاستراتيجية ضبطت إيران الفصائل الموالية لها في العراق إلى درجة إعلان هذه الفصائل وقف هجماتها ضد أهداف أميركية في فبراير 2024.
وقد اعتبر تخلي إيران عن سياسة “الصبر الاستراتيجي” تطوّرا لافتا له ظروفه وحيثياته. غير أن متابعين للشؤون الإيرانية رصدوا تصدّعا في عملية اتّخاذ القرار لجهة عدم تمكّن حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي والوزارات المعنية، لا سيما وزارة الخارجية، من التأثير على قرار اتّخذه خامنئي ودوائر القيادة في الحرس الثوري. ويأتي قرار الردّ الإيراني في 13 أبريل مخالفا لمسار إيراني معتمد في عدم التعامل مباشرة مع الأخطار الإسرائيلية والاستمرار في الردّ من خلال الوكلاء. وعلى الرغم من أن هذا التحوّل استند على واقع أن قصف القنصلية الإيرانية في دمشق يعتبر انتهاكا للسيادة الإيرانية، فإن إسرائيل سبق أن انتهكت السيادة الإيرانية حين نفذت عمليات طالت مفاعل نووي والاستيلاء على أرشيف البرنامج النووي واغتيال شخصيات قيادية منها محسن فخري زاده الذي يعتبر “أبو القنبلة النووية الإيرانية” من دون أن يقابل ذلك بردّ إيراني مباشر ضد إسرائيل.

البحث عن استراتيجيات بديلة:

بعد هجوم إيران الانتقامي ضد إسرائيل والردً الإسرائيلي، تمّ رصد مجموعة من ردود الفعل الإيرانية التي تعبّر عن إدراك طهران لواقع التفاوت في مستوى قدراتها مع إسرائيل، خصوصا إذا ما أُخذ في الحسبان حجم التدخّل الأميركي الغربي الذي منع إسرائيل من شنّ هجوم أوسع. وقد جاء ردّ الفعل الإيراني وفق ثلاثة عناوين:
1-تبرير الهجوم الإيراني ونتائجه.
2-نفيّ الهجوم الإسرائيلي المضاد والتقليل من أضراره.
3-التلويح بالذهاب نحو إنتاج القنبلة النووية.
وتعبّر هذه العناوين عن نفسها وفق المواقف والتصريحات التالية:
في 21 أبريل 2024 قال المرشد علي خامنئي، عند استقباله لعدد من كبار القادة العسكريين: “أن “مسألة عدد الصواريخ التي أُطلقت أو الصواريخ التي أصابت الهدف والتي يركز عليها الجانب الآخر، هي مسألة ثانوية وفرعيّة”. وشدد على أن “القضية الأساسية هي تجلّي قوة الإرادة لدى الشعب الإيراني والقوات المسلحة على الساحة الدولية، وهذا هو دليل انزعاج الطرف الآخر”. وقد فُسّر هذا التصريح بأنه يقدم مطالعة، من أعلى السلطة في البلاد، تبرر محدودية النتائج العسكرية التي حققها الهجوم الإيراني، وتعظّم من الأهداف السياسية للهجوم.
في 20 أبريل 2024، أي غداة هجوم أصفهان، قال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في مقابلة مع شبكة NBC الأمريكية في نيويورك، إن المسيرات التي استخدمت في الهجوم على مدينة أصفهان الإيرانية تشبه “ألعاب الأطفال”. وقلّل الوزير الإيراني من أهمية الهجوم، مؤكدًا أنه لن يكون هناك ردّ إيراني انتقامي ما لم يتم استهداف “مصالح” طهران. أضاف أن الأمر كان عبارة عن “طائرتين أو 3 طائرات دون طيار، تلك التي يلعب بها الأطفال في إيران”. وتابع: “طالما أنّه لا توجد مغامرة جديدة (هجوم عسكري) من قبل النظام الإسرائيلي ضدّ مصالح إيران، فلن نرد”. وقد فُسّر هذا الموقف بمثابة قرار بعدم الرد من قبل إيران، ووقف التصعيد في مستويات الردّ الناري بين البلدين.

التلويح بالخيار النووي:

على الرغم من محافظة المنابر السياسية والعسكرية الإيرانية على مستوى عال من التهديد والوعيد، غير أن مواقف أخرى لافتة كشفت عن تولّد قناعات داخل الدوائر العسكرية بأن مستوى الردع الدي تمتلكه إيران ليس كافيا، بالأسلوب والمستوى الذي ظهر في الردّ الإيراني، وأن البلاد تحتاج إلى استراتيجية وتكتيكات أخرى.
ويمثّل موقف عبد اللهيان في تأكيد عدم الردّ على إسرائيل ونفيّ تورطها في هجوم أصفهان تحوّلا متناقضا مع تهديدات الرئيس إبراهيم رئيسي الذي توعّد في 16 أبريل، أي قبل 3 أيام على هجوم أصفهان، برد “سيكون قاسيا على أي تحرك يستهدف مصالحها” وتهديدات لنائب وزير الخارجية للشؤون السياسية علي باقري كني في اليوم نفسه من أن “بلاده ستردّ في ثوان معدودة على أي ردّ إسرائيلي.
وإذا ما لوّح باقري كني، وفق تصريحه، بتحريك قوى نارية أقرب جغرافيا إلى إسرائيل يمكن أن يكون مصدرها لبنان أو سوريا، فإن مواقف أخرى ذهبت أبعد من تكتيك استخدام الفصائل الموالية لإيران في المنطقة لتشكل مع إيران نفسها قوى نارية واحدة متعددة الجبهات، باتجاه التلويح بالذهاب العلني نحو الخيار النووي.
فعشية الرد الإسرائيلي المزعوم في أصفهان، حذّر قائد هيئة حماية المنشآت النووية الإيرانية العميد أحمد حق طلب في 18 أبريل، أنّه “من الممكن مراجعة سياستنا النووية إذا حاولت إسرائيل ضرب منشآتنا”. لم يكن التحذير الإيراني هو الأول من نوعه خلال السنوات الأخيرة في بلد يؤكد على سلمية برنامجه المدني وعلى فتوى للمرشد علي خامنئي تحرّم استخدام البرنامج لأغراض عسكرية. سبق لوزير الخارجية الإيراني السابق، المستشار السياسي للمرشد، كمال خرازي، أن أكد في 17 يوليو 2022 أن لبلاده “القدرات الفنية” لصناعة قنبلة نووية، الا أنه “لا قرار لدينا بذلك”.
أتت التلميحات السابقة لترفد مواقف مستجدّة بعد التوتر الأخير عبر عنها، إضافة للعميد حق طلب، مصدر برلماني ما عبّر عن مسار إيراني يمكن انتهاجه. ففي 22 أبريل، كتب جواد كريمي قدوسي، عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني على منصة (X) منشورا قال فيه إن بلاده “يمكنها القيام بأول اختبار نووي خلال أسبوع واحد، إذا صدر إذن بذلك”، في إشارة إلى فتوى المرشد. غير أن صحيفة “فاردا نيوز” الإيرانية انتقدت تصريح قدوسي واعتبرته محرجا للدولة ولا يعبّر عن الموقف الرسمي. وقبل ذلك في 10 أبريل قال محمود رضا آقا ميري، أستاذ الهندسة النووية وعميد جامعة شهيد بهشتي: “وفقا لفتوى المرشد، يحظر دينيا بناء القنبلة النووية. ومع ذلك، إذا تغيرت وجهة نظره وفتواه، فنحن قادرون على بناء القنبلة النووية”.

فشل الاتفاق النووي:

لم يعد التلويح بالقنبلة النووية الإيرانية سلوكاً إيرانيا تقليديا. فقد أعلن مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، في 24 أبريل 2024 بأن إيران باتت “على بعد أسابيع وليس أشهرا” من امتلاك المواد الكافية لتطوير قنبلة نووية. وأعرب غروسي عن قلقه من اقتراب طهران لهذا المستوى، لكنه أضاف أن “هذا لا يعني أن إيران تملك أو ستملك سلاحاً نووياً في غضون تلك الفترة الزمنية”، لافتاً إلى أن “الرأس الحربي النووي الفعال يتطلب أشياء إضافية كثيرة بمعزل عن امتلاك المواد الانشطارية الكافية”. وردت صحيفة “مشرق نيوز” الناطقة بلسان الحرس الثوري الإيراني منتقدة تصريحات غروسني، لكنها أكدت أن “العقيدة النووية الإيرانية واضحة وشفافة تماما، ولكن إيران ستستخدم جميع قدراتها في المجال النووي لتحقيق أحدث التقنيات”.
حريّ التذكير بأن إيران التزمت، بموجب اتفاق فيينا المتعلّق ببرنامجها النووي والمبرم عام 2015، بتخصيب اليورانيوم بنسبة 3.67 بالمئة. وبعد انسحاب الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق عام 2018، رفعت إيران تدريجيا من نسب التخصيب إلى أن وصلت حاليا إلى 60 بالمئة بما بفوق ما تحتاجه الأغراض المدنية للبرنامج. وقد اكتشف مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فبراير 2023 أثار تخصيب في منشأة فوردو بنسبة 84 بالمئة اعتبرتها إيران حادثا غير مقصود. مع العلم أن صناعة قنبلة نووية يحتاج إلى نسبة تخصيب تصل إلى 90 بالمئة.

خلاصة واستنتاجات:

**قامت طهران بتقييم توازنها الاستراتيجي بعد قرار التخلي عن “الصبر الاستراتيجي” والذهاب إلى المواجهة المباشرة مع إسرائيل. وقد اصطدم الهجوم الإيراني بدفاعات إسرائيلية حديثة مدعوما بدفاعات أميركية بريطانية فرنسية.
**أسفر الهجوم على مدينة أصفهان، والذي قالت تقارير إن إسرائيل تقف وراءه، عن تصاعد مخاوف من صدام شامل متجدد بين الطرفين. وكشف الهجوم تدخلا أميركيا للضغط على حكومة نتنياهو لجعل الردّ محدودا، فيما آثرت طهران التقليل من أهمية هذا الرد وتجاهل إمكانية كونه إسرائيليا.
**تذهب بعض المواقف في إيران إلى التلويح بخيار القنبلة النووية وامتلاك سلاح الدمار الشامل لردم الفجوة بين قدراتها العسكرية وقدرات خصومها وفي مقدمهم إسرائيل. وهو أمر تعترف الوكالة الدولية للطاقة الذرية باحتمال حدوثه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.