ما بعد الكورونا : ملامح تغيير على دور الدولة

ملخص تنفيذي :

يعلمنا التاريخ، ان الازمات الكبرى، حروبا وجوائح وبائية، تعيد صياغة طبائع الاقتصاد والاجتماع والسياسة. فالمجتمعات البشرية تدخل بعد المنعطفات التاريخية الكبرى في مراحل مستجدة وتغيرات جوهرية في البنى الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وما يستتبعها من بنى قانونية وتشريعية لتأطير وضمان التطبيق وحماية للمجتمعات من التصدع والفوضى. يتفق الخبراء، أن ازمة الكورونا رغم تقاطعها مع السمات الابرز للكوارث السابقة الا انها تختلف في طبيعة العصر وأزمة الإنتاج الذي وصل ذروته ولم يحتمل التطوير بالوسائل والاليات القديمة، كما لم تعد المعالجات والحلول التقليدية التي اتبعها النظام الاقتصادي العالمي في اعقاب ازمة الديون المالية سنة 2008 بقادرة على احداث التعافي المطلوب. فالركود والانكماش الاقتصادي الذي كان متوقعا، جاء انتشار الوباء ليسرع من وتيرته ، مع التباطؤ الكبير في الإنتاج والاستهلاك واختلال عمل اليات شبكات التوريد والتزويد . ومما زاد الطين بلة ، ان النظام النيوليبرالي او ما سمي بالعولمة المتوحشة عمق هوة الفوارق الطبقية، وزاد من مستويات الفقر والبطالة ومعها تضاءل الوزن النسبي للطبقات الوسطى.

بعد كورونا: تعديل في دور الدولة

عززت الحرب العالمية الأولى وما تلاها من ازمة وبائية كارثية ، من دور المرأة في الاقتصاد والمجتمع وأرست البنية القانونية لإنهاء العبودية ونظام السخرة في العمل. وبعد الحرب العالمية الثانية تعزز دور النقابات العمالية وتبني سياسات العمالة الدائمة ومعها القوانين الناظمة للعمل والتوظيف، وفرض ذلك تغييرا في دور الدولة في عموم أوروبا ، بإنشاء دولة الرعاية الاجتماعية في اعقابها، وما عرف بالتسوية التاريخية بين أرباب العمل والعاملين، وضمان الحقوق في الصحة والتعليم والمسكن والمواصلات.

شهد مطلع السبعينات من القرن الماضي بداية الردة على كل هذه المكتسبات وتقويض مكانة ودور النقابات والتراجع المتزايد في دور والتزامات الدولة تجاه المجتمع، وتميزت بتقليص دور الدولة لصالح القطاع الخاص وتضخم ادواره في ادارة الاقتصاد وتوسعه ليشمل بعض القطاعات الاساسية التي كانت جزءً اساسيا من دور الدولة ملكية وادارة، وهي المرحلة التي عرفت بالتاتشرية والريغانية والنيوليبرالية. توجت هذه المرحلة بالتوسع في بيع الأصول الثابتة لملكية الدولة وتركت اليات اقتصاد السوق الحر ومعيار الربحية تتحكم في المسار الاقتصادي والاجتماعي، ومارس صندوق النقد الدولي سياسة العصا والجزرة مع الدول النامية للدخول في برنامج الخصخصة وتخفيض النفقات الحكومية ورفع الدعم عن السلع والخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والمواصلات. ففي الازمة المالية الكبرى عام الفين وثمانية ودخول العالم في مرحلة الكساد الاقتصادي، منذ تلك الحقبة، بدا العالم مكشوفا على حقائق رهيبة، تمثل باتساع الفجوة الاجتماعية الاقتصادية، حين امتلك 1 بالمئة من العالم ما يعادل ملكية ثلث البشرية. كما ظهر جليا ليس تخلي الدولة عن مسؤولياتها الاجتماعية والاقتصادية وحسب، وانما بات النظام بمجمله الذي توجهه الاحتكارات الكبرى والشركات المالية عائقا رئيسيا امام تطوير الإنتاج والاستغلال الأفضل للاكتشافات العلمية ومخرجات الثورة الرقمية والتقنية. الرد الأبرز على ازمة الركود والكساد العالمي جاء على صيغة شعبويات يمينية ويسارية، أسست خطابها على انتقاد اليات عمل مؤسسات الدولة، وتحديها لتقاليد الديمقراطية البرلمانية، كما حدث مع بوريس جونسون رئيس الحكومة البريطانية بتعطيله للبرلمان من اجل تمرير صفقة الخروج من الاتحاد الأوروبي، او خطاب الرئيس الهنغاري فكتور اوربان، العنصري تجاه اللاجئين ، او صراع الرئيس الأمريكي ترامب مع الكونغرس حول اعتمادات بناء السور العازل مع المكسيك . انتعش خطاب الاحزاب والحركات الشعبوية على وقع الاستقطاب السياسي الحاد في المجتمعات الغربية وخارجها. طالب الشعبويون بالانكفاء داخل حدود الدولة الوطنية واغلاقها دون “الغرباء”، واتهامهم بالتسبب في انتشار الوباء في أيامه الأولى كما حصل في ايطاليا. وعلى الرغم من ان الفيروس الذي انتشر في القارات الخمس مخترقا الحدود والقوميات والاجناس ، الا ان سياسات الانكفاء والاغلاق والتشكيك في جدوى العولمة ظل هو السائد في المرحلة الحالية ، ولازال الخطاب الشعبوي يتغذى على وقع الازمة. لكن تبدو غالبية الحكومات مضطرة تحت الضغوط لبعض السياسات الضرورية والعاجلة مثل وضع اليد الحكومية على بعض القطاعات الحيوية وخاصة الصحة، أو التعويض المالي للقطاعات المتضررة من السياسات الصارمة في الاغلاق والتباعد الاجتماعي . قد تبدو هذه الإجراءات ، عارضة او مؤقته ، لكن كل التجارب التاريخية المشابهة دللت ان المكتسبات التي يحققها المجتمع يصعب التراجع عنها.

من السمات الجديدة التي رافقت الازمة، تمكن الحكومات من التوسع في إجراءات الرقابة على المجتمع وتقنين الحريات الفردية، وتمرير القرارات التي تمكن الحكومات من اتخاذ الإجراءات الطارئة بما فيها استخدام الجيش، دون العودة الى البرلمانات أو اليات التشريع التقليدية. وهناك تخوفات مشروعة من ان تتحول هذه الإجراءات الطارئة الى أنماط طبيعية في الإدارة والحكم.
من النتائج المباشرة للازمة أيضا ، ما يتعلق بمستقبل الاتحاد الأوروبي ، فالحكومات الشعبوية اليمينية في أوروبا ، سيتوقف مستقبل خطابها على الإجراءات التي سيقوم بها الاتحاد ، بعد المؤشرات السلبية على دوره خاصة في المرحلة الاولى للجائحة ، تجاه الكارثة التي تعرضت لها كل من اسبانيا وإيطاليا . لكن تحولا طرأ على الموقف الأوروبي الجماعي، بعد تبني الرؤساء آلية جديدة للتخفيف من التداعيات الاقتصادية الناجمة عن الوباء وبما يعزز تماسك الاتحاد ودعم الوحدة الأوروبية . وإذا خرج الأوروبيون من الأزمة بعد تخصيص نحو 500 مليار يورو كمساعدة عاجلة ، وانشاء صندوق دائم لدعم إجراءات التعافي وإنقاذ الاقتصادات المتعثرة بقيمة تريليون يورو، فان جبهة المتشككين بجدوى الاتحاد الأوروبي ستتصدع وفي المقدمة بريطانيا . ولهذا قد تشكل الإجراءات العاجلة التي قادتها المانيا لمواجهة الازمة بداية حقبة جديدة لمستقبل أوروبا الموحدة .

جاءت الجائحة الوبائية الكونية، لتعيد الأسئلة الكبرى حول دور الدولة التدخلي في الاقتصاد، خاصة إجراءات الطوارئ التي شكلت مخالفة لقوانين السوق الحر، ولا نبالغ في القول ان ذلك سيكون من ثوابت مرحلة ما بعد الكورونا. والمثال الأبرز على هذا الدور المستجد يتركز في توسيع اليات الدعم للأبحاث العلمية والصناعات الدوائية والصحية. والتوسع في البرامج التعليمية الخاصة بتأهيل الممرضين والاطباء. والسياسات التي ستتعرض للمراجعة ما تتصل باحتكارات صناعة الادوية والخدمات الصحية. قدرت مجلة الإيكونوميست أن مقدمي الرعاية الصحية في الولايات المتحدة يحققون أرباحا قدرها 65 مليار دولار سنويا، ويكفي هذا لإنتاج ما مجموعه 1.3 مليون جهاز تنفس اصطناعي لوحدات العناية المركزة بسعر 000 50 دولار للقطعة الواحدة، أو لتمويل إقامة الملايين من الأشخاص في المستشفيات من اولئك الذين يحتاجون إلى علاج عاجل من COVID-19.

ثمة نزعة واسعة لدى العديد من السياسيين والمفكرين ، على مختلف خلفياتهم الفكرية والسياسية ، تتراوح بين المطالبة بفرض الدولة لسيطرتها الكاملة على القطاع الصحي كاملا وتوفيره للمواطنين مجانا، وبين تشجيع الدولة على فرض ضرائب عالية على احتكارات الأدوية ووسطاء الرعاية الصحية. وتذهب بعض المطالبات الى إعادة النظر الحكومية في عقود الإمداد الطبي، ومنع القطاع الخاص من التربح على حساب الازمات. ستجبر الحكومات على اتباع طرق مختلفة للتفكير الجدي في اعادة التوازن للقطاعات الاقتصادية المختلفة، بما يخدم تطوير الاستهلاك واستقرار المجتمعات وسلامها واستقرارها. ولن تكون قطاعات أخرى ينتظرها الإفلاس او التراجع بمنأى عن رياح التغيير القادمة، مثل شركات الطيران والسكك الحديدية والاتصالات وخصوصا الشركات المزودة لخدمة الانترنت التي يعتقد العديد من الخبراء بانها اصبحت حاجة اساسية كالغذاء والدواء والمسكن. بعض التقديرات المتطيرة تعتقد بان العولمة النيوليبرالية انتهت وان المنظومات الاقتصادية الجماعية افل نجمها ، لكن القراءة المقترحة للواقع تشير ان التنظير للاقتصاد الطبيعي او الكفاية الذاتية ليس حلا للازمة الكونية ، وانما ستعود الدول الى أفكار خلاقة وذات فائدة مشتركة قوامها ان ليس لدولة بمفردها الاكتفاء ذاتيا ، وان التعاون الاقتصادي على أسس جديدة واكثر عدالة هو الحل الواقعي ، والمفيد في هذا السياق ما قالته نائبة رئيس البرلمان الاوروبي فيرا جوروفا ، بأن على اوروبا ان تعتمد على نفسها بالصناعات والتجهيزات الطبية بدل “الاعتماد المَرَضي على الصين والهند “. قد يكون ذلك حلا مؤقتا لازمة المعدات الصحية والصناعة الدوائية ، لكن هذه الدول ستجد ان هذا الاقتراح لا يمكنه الاستمرار على المدى الطويل . فقد تمكنت الصين وخلال اقل من شهر من انتاج أربعة مليارات كمامة ، وكشف النقاب ان بريطانيا تستورد نحو 70 بالمئة من دواء الباراسيتامول من الصين بأسعار لا تضاهى .

توسيع دور الحكومات المحلية

يقترح عدد من خبراء الاقتصاد بان التدابير الاقتصادية والمالية التقليدية وحدها لا تكفي لمعالجة الكارثة الاقتصادية المحدقة ، إذ تبرز الحاجة أيضا إلى تدخلات اساسية من الدولة في الإسكان والمرافق العامة، لمساندة الملايين من الناس الذين سيخسرون اعمالهم نتيجة الازمة، وبالتالي يتوجب على الدولة ان تتدخل بقوانين تنظيمية لوضع سقف للإيجارات، ورفع الحد الأدنى للأجور لتخفيف الضغوط على ميزانيات الأسر، وتشديد الرقابة على الإيجارات وارباح الشركات من عقودها مع الدولة كما حصل بعد الحرب العالمية الثانية.
لعل مخاطر التفكك الاجتماعي والانهيار الاقتصادي إذا ما طالت الازمة الناجمة عن انتشار الفيروس، تدفع الحكومات الى البحث عن وسائل وادوات اقتصادية تخفف من وقع الازمة في حدود الممكن. بالاستفادة من دروس التضامن والابتكار في الازمات الشبيهة. وذلك بالتخفيف من مركزية الدولة لصالح توسيع أدوار الحكومات المحلية وفق الحاجات الواقعية بما فيها الاستفادة القصوى من الموارد ووضع خططها الاجتماعية والاقتصادية المحلية والتنسيق المتوازن مع التنمية الكلية للدولة. يساعد ذلك على تصميم سلاسل توريد محلية اقوى ومستدامة، والتوسع في الاعتماد على التشاركية المجتمعية للرعاية الخاصة بالمسنين او المعاقين، مع التقدير بان توسعا افقيا كبيرا يتمثل في تحول العديد من المهن الى المنازل، بما يملي على السلطات المحلية تطوير منظومة كاملة من الخدمات المرافقة بما فيها أماكن الترفيه المحلية، ورعاية الأطفال، وأماكن الاستجمام والراحة الجماعية.

وإذا كانت خلاصة المرحلة الماضية تمثلت في تصدع الثقة بالمؤسسات السياسية والتي توجت بانتشار الشعبويات اليمينية واليسارية التي ركزت سهام نقدها وخطابها نحو فساد المؤسسات السياسية والاقتصادية والإعلامية ، فان العالم قد يخطو اليوم نحو نماذج توافقية، تعطي للناس دورا أكبر في تقرير مصيرهم والتصرف ونمط حياتهم وبمداخيلهم، وإعادة النظر في سلم الأولويات والضرورات لظروف وبيئة الاعمال الجديدة.

ومع التقدير بان توسعا في استخدامات الثورة التقنية الرقمية سيطرأ على العمل والتعليم والادارة، فان التغيير سيدخل على عمل البرلمانات وعلى طريقة العمل في ادارة النقاشات والمساءلة، وربما وهو الأهم، مساءلة فكرة التمثيل في البرلمان من خلال صندوق الاقتراع، وبالتالي شرعيات الحكم وتحققه بطرق جديدة. هنا تبرز فكرة الاستفتاء الشعبي الدوري على مشاريع القوانين والإجراءات والسياسات الحكومية القومية والمحلية بصورة أسرع وأكثر ديمقراطية. كشفت الازمة انه يمكن إدارة الحكومة ومناقشة الإجراءات ومشاريع القوانين في البرلمان عن بعد، باستخدام التقنية المتقدمة. وكشفت أيضا الحاجة الماسة الى توسيع دور وصلاحيات البرلمانات والحكومات المحلية ، وما يستتبع ذلك تنظيم للصيغ القانونية الناظمة للعلاقة بين المحليات والحكومة القومية .

سيتجه العالم بعد الجائحة ، الى دراسة واستلهام التجربة السويدية والألمانية في فلسفة الدولة ، بتحريم التداخل بين السياسة والمال ، فالدول التي تميزت أباحت هذه العلاقة ، هي التي تخلفت في معالجات اثار الوباء بكلفة كبيرة ، وظهر ذلك في التاثير الطاغي للقرارات والإجراءات ، على صانع القرار والمشرع ، فلم يكن غريبا ان يكون وزير الخارجية الأمريكي احد كبار المستثمرين في شركات النفط ، او المستشار الصحي في البيت الأبيض ممثلا لشركات الادوية او المقاتل ضد مشروع أوباما للرعاية الصحية الشاملة ممثلا لشركات التامين .كما ظهر القصور، عندما استنكف العديد من الشركات عن وضع امكانياتها الكاملة في ابحاث الوباء المستجد ، باشتراط الدعم المالي المسبق وضمانات شراء الحكومة لمنتجاتها ، فيما لم تكن هذه المشكلة ماثلة في فرنسا وألمانيا والصين على سبيل المثال لا الحصر التي تمول حكوماتها موازنات البحث العلمي .

الخلاصة :

تظهر التجربة التاريخية للازمات الوبائية او الحروب الكبرى الذي يقود الى الانكماش الاقتصادي الطويل “يقود حتما الى اعادة تقييم دور الدولة” . فالإجراءات التشريعية الطارئة لمعالجة اثار الازمة، باتت مكتسبات مستديمة واحتاجت الى سنوات لتعديلها او التراجع عنها. ولهذا فان المعالجات التي اضطرت اليها الحكومات في الازمة الحالية وضعت المقدمات الضرورية لتغيير في دور الدولة، لصالح طبيعة اكثر تدخلية في القطاعات الأساسية التي تتصل بحياة المواطن ، ودون ادنى شك فان أي من النماذج التي عرفها التاريخ حول الدولة سيكون قابلا لإعادة الإنتاج مرة أخرى ، خاصة مع التسارع الهائل في استخدامات تقنيات الذكاء الصناعي بصورة غير مسبوقة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.