تركيا تعيد تموضعها في مرحلة ما بعد ترامب

يرث الرئيس الأمريكي المنتخب اوزارا ثقيلة من المشاكل الداخلية، وانقساما حادا في البلاد، وتفاقم الوضع الصحي الناجم عن وباء كورونا واستمرار الازمة والركود الاقتصادي. ولا يقل الوضع صعوبة وتعقيدا في الملفات الخارجية، ومن المتوقع أن تشكل الخلافات المتزايدة مع تركيا أحد أهم الملفات التي يتعين على الرئيس التعامل معها فور دخوله البيت الأبيض في العشرين من يناير القادم. باتت تركيا مصدر قلق وتوتر في شرق المتوسط، ودول القوقاز وليبيا والعراق وسوريا، فقد جمع الرئيس التركي أردوغان عددا من أوراق القوة التي تمكنه من المساومة والمناورة بها مع من المراكز المتناقضة والمتخاصمة، من الصين وروسيا شرقا الى أوروبا وامريكا غربا، في محاولة لتامين مصالح بلاده واحلامه الإمبراطورية التوسعية، وهي اليات تقليدية في لعبة القوة والسيطرة والتبديل الدائم في تعريف المجال الحيوي للأمن القومي لبلاده. كيف ستتعامل إدارة الرئيس المنتخب جو بايدن مع تركيا؟

قضايا الخلاف:

على عكس الرئيس ترامب الذي ربطته” علاقة صداقة مع الرئيس التركي، لم يخف الرئيس المنتخب جو بايدن مواقفه العدائية لأردوغان وسياساته الداخلية والخارجية، فالرئيس المقبل، سبق وأشار لأردوغان بصفته داعم قوي للإرهاب الإسلامي كما أسماه، وفي عام 2014 اتهمه صراحة بانه كان وراء صعود داعش في المنطقة، ووصفه قيادته بالاستبدادية، ودعا لمراجعة احتفاظ الولايات المتحدة بأسلحة نووية داخل قواعدها في تركيا. وبما يتجاوز المواقف والتصريحات التي عبر عنها الرئيس المنتخب وراس الدبلوماسية الامريكية القادم انتوني بلينكن، ثمة خلافات جوهرية طفت على السطح بين البلدين في السنوات الأخيرة، أبرزها:

– أزمة الصواريخ الروسية S400
في عام 2017، عقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صفقة قيمتها 2.5 مليار دولار مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لشراء نظام متطور للصواريخ S-400.
وهو نظام صواريخ أرض-جو متنقل، تقول الولايات المتحدة أنه يشكل خطرًا على حلف شمال الأطلسي وقد يمنح موسكو قدرة على مراقبة العلميات العسكرية للناتو بالإضافة لطائراتها الأكثر تكلفة على الاطلاق F-35، وعلى الرغم من تحذيرات الولايات المتحدة وحلفاء آخرين في الناتو، إلا أن تركيا مضت في الصفقة، واستلمت أول أربع بطاريات صواريخ في يوليو 2019. وبعد أسبوع، قامت الولايات المتحدة بطرد تركيا من برنامج طائرات F-35 كرد أولي، وبعد نشر تقارير عن تجارب حية للصواريخ الروسية داخل الأراضي التركية، فرضت ادارة الرئيس ترامب عقوبات جديدة على تركيا لم يكشف فحواها بالتفصيل حتى اللحظة إلا أنها زادت من حدة التوتر بين البلدين. ومن غير المتوقع ان تتساهل إدارة بايدن مع تركيا في هذا الموضوع خاصة وان البرنامج الانتخابي للرئيس الديمقراطي بات يعتبر روسيا أكثر خطورة من الصين على الامن القومي الأمريكي، ولا ينتظر من الإدارة الجديدة التساهل مع تكتيكات انقرة في اللعب على المحاور، وفي ذات الوقت الاستمرار في حلف الأطلسي، والبقاء في برامج التعاون العسكري المتطور مع البنتاغون.

– الملف السوري:

لن يختلف موقف الإدارة الديمقراطية مع إدارة ترامب الراحلة في الموقف من الوضع في سوريا، والافتراق الأهم مع تركيا، يكمن في التمسك بدعم “قوات سوريا الديمقراطية”، والتي تتهمها أنقرة بأنها الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المصنف على قوائم الارهاب التركية خاصة وان وزير الخارجية القادم بلينكن كان من أبرز مهندسي العلاقة مع الاكراد في إدارة الرئيس أوباما، ويعتبر من أكثر المدافعين عن التدخل الأمريكي في سوريا. كما يسجل على بايدن هجومه على إدارة ترامب حين شرعت في اخراج القوات الأمريكية من سوريا، وصرح أكثر من مرة أنه” لن يتخلى عن الأكراد أبدا”. باستثناء العقدة الكردية في العلاقة مع انقرة، فان العديد من الساسة والكتاب الأمريكيين يرون أن بايدن كان أحد المتشككين الرئيسيين في إدارة أوباما بشأن ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة في سورية غير المساعدات الإنسانية، وكان دائماً يعارض تزويد المعارضة بالسلاح ورفض إرسال قوات أمريكية إلى سورية. ومع ترجيح تفعيل الإدارة الجديدة لمبدأ ترميم العلاقة مع الحلفاء في إدارة الازمات الدولية المختلفة، فان بابا قد يفتح مع تركيا حول الازمة السورية، بالاستعانة بالمجتمع الدولي، والابتعاد عن التفرد في إدارة هذه الازمة.

– أزمة شرق المتوسط

التقديرات تشير ان النزاع المفتوح بين تركيا وحلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين حول حقول الغاز المكتشفة في شرق البحر المتوسط قد تكون من القضايا الرئيسية في الخلاف بين انقرة وساكن البيت الأبيض الجديد. من أولويات السياسة الخارجية لإدارة بايدن يقع ترميم العلاقة والتحالف بين طرفي المتوسط كمدخل للعمل المشترك في الازمات الدولية، ولان هذه القضية تعد من اساسات الامن القومي التركي تحضيرا لدورها ومكانتها مع انتهاء اتفاقات لوزان للعام 1920 والتي رسمت العقوبات على تركيا لمدة مئة عام بعد هزيمتها في الحرب الكونية الاولى ، فان قضية غاز المتوسط، ستظل عنوانا رئيسا لاستراتيجية التموضع التركية في الخارطة الدولية. وفي سبيل ما تفترضه تركيا حقوقا ثابته، فان احتمالات تصعيد النزاع بأشكاله المختلفة يبقى ماثلا للعيان.

مؤشرات الاستدارة التركية:

بعد تأخر ملحوظ في تهنئة القيادة التركية بفوز المرشح الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الرئاسية ، وفي مؤشر لافت ، خفف أردوغان ،من لهجته التي غالبا ما استخدم عبارات قاسية لمهاجمة مواقف واشنطن ، حيث شدد في حديث له منتصف ديسمبر على “العلاقات السياسية والاقتصادية العميقة الجذور لتركيا مع كل الولايات المتحدة” ، معتبرا أن: “لا توجد قضية لا يمكن حلها من خلال الحوار والتعاون” .ويمكن ملاحظة بدء الاستدارة السياسية التركية استعدادا لاستقبال إدارة جديدة في واشنطن وغياب حليف الشعبوية اليمينية دونالد ترامب من المشهد من خلال المؤشرات التالية :

– تهدئة مع تل أبيب: من بوابة أذربيجان

لم يتأخر أردوغان كثيرا، ليبدأ استدارة على مواقفه الشعبوية من إسرائيل وتصعيده اللفظي ضد سياساتها في المناطق الفلسطينية المحتلة، من بوابة إعادة السفير التركي لتل ابيب، في محاولة لتقليص الهوة مع واشنطن وادارتها الجديدة. فالمشتركات مع إسرائيل كثيرة ليس اقلها، المواقف المتقاربة في ازمة اذربيجان مع أرمينيا، والرسالة غير البريئة لأردوغان في ابيات الشعر التي يتحدث فيها عن حق الاذر التركمان في جزء من الأراضي الإيرانية التاريخية، وهي الرسالة التي التقطتها تل ابيب، وعواصم أخرى، والتي تقول بان تركيا تملك أوراقا مهمة للعب في الازمة المفتوحة بين إيران والعالم حول ملفها النووي وطموحاتها التوسعية. فالتوتر في علاقة انقرة بطهران كان لا يخفى افتعاله وقصديته، رغم التطور الكبير في علاقاتهما التجارية طيلة سنوات الحصار الطويل المفروض على إيران، ومصالحهما الاستراتيجية المشتركة في العداء للقومية الكردية وطموحاتها في بناء دولة كبرى مستقلة على جزء غني بالنفط من غرب إيران، وشرق تركيا وشمال سوريا والعراق.

تهدئة مع السعودية والبحرين ومصر

ساد العلاقات التركية مع الدول الخليجية الكبرى ومصر توترا ملحوظا في العقد الأخير، بسبب السياسة العدوانية والطموحات التوسعية المعلنة في العالم العربي، في تذكير صريح بالأحلام الإمبراطورية العثمانية، وسياسة تحاصر الدول العربية الكبرى، من العراق الى ليبيا مرورا بالصومال والسعي لاستعادة دور قيادي للعالم الإسلامي السني، في تهديد صريح لمكانة تاريخية للملكة السعودية وادارتها للاماكن المقدسة. دون سابق انذار ، اعلن أردوغان ان بلاده تتفهم المخاطر والقلق الأمني لمصر في حدودها الغربية مع ليبيا ، ودفع بعملائه في الغرب الليبي للدخول في مفاوضات مع اشقائهم لنزع فتيل البارود المتفجر في سرت والجفرة .وتغيرت فجأة اللغة العدوانية تجاه السعودية بعد توتر شديد في اعقاب حادثة الصحفي جمال الخاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول ، والحملة الواسعة لسحب الاستثمارت السعودية من تركيا ومقاطعة بضائعها . تغيرت اللغة التحريضية التركية ضد المملكة ، وأجرى أردوغان مكالمة هاتفية نادرة مع الملك سلمان لشكره على مساعدة على مساعدات المملكة لضحايا زلزال ازمير، كما اجرى اتصالا مع ملك البحرين لتقديم التعازي في وفاة رئيس الوزراء.

خلاصة:

كل التقديرات الأولية تشير ان إدارة الرئيس بايدن ستأخذ في الاعتبار عددا من العوامل في مقارباتها للعلاقة مع أنقرة، في مقدمتها، الموقع الجيوسياسي لتركيا الذي يمتد نفوذا وبعدا قوميا ولغويا في ثلاث قارات. في مجال الدفاع، لاتزال تركيا تمثل شريكا مهما للولايات المتحدة في المنطقة، بجيش حديث وصناعة دفاعية مستقلة ومزدهرة. بالإضافة لدورها الاقليمي وتأثيرها على العالم العربي والاسلامي، والقضية الفلسطينية، ودورها في ملفات النفوذ الإيراني والروسي المتنامي في الشرق الأوسط. وفي سعي الإدارة الجديدة لإعادة صياغة تصورها لمستقبل حلف الناتو، أو المقاربة الجديدة للعودة لاتفاق الدول الخمس الكبرى مع إيران الذي اوقفه ترامب عام 2018، بما يعني وقف الطموحات الإيرانية في المجال النووي مقابل انهاء المقاطعة والحصار، أو مواجهة الطموحات الروسية في الأوراسيا والبحر الأسود والبلقان، وكلها ملفات تدرك واشنطن وساكن بيتها الأبيض الجديد ان لتركيا دورا محوريا يجب ان يؤخذ بالاعتبار، باتجاه تهدئة التوتر وتدوير الزوايا في علاقتهما المستقبلية. وتدرك القيادة الجديدة لمجلس الامن القومي والخارجية في واشنطن أن الافراط في الضغط على أنقرة سيدفعها إلى زيادة توطيد العلاقات مع خصوم الولايات المتحدة، إيران وروسيا والصين. وعلى المقلب الاخر فان لأنقرة مصلحة مباشرة بعد توتر علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي وفي العالم العربي وإيران انها بحاجة لتقديم بعض التنازلات، وتفهم اعتبارات الإدارة الجديدة في ملفات العلاقات الدولية المختلفة، تجنبا لمزيد من العقوبات والعزلة الدولية، سيما وان الازمة الاقتصادية التركية، مع استمرار الركود العالمي ووباء كورونا، تحتاج الى مقاربات جديدة في علاقاتها الخارجية وفي المركز منها مع واشنطن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.