تتعدّد الصيغ ويبتعد الحل

(يوسي بيلين ومبادرة الكونفدرالية الاسرائيلية الفلسطينية)

أمير مخول

مدخل:

ان مبدأ الكونفدرالية برؤية مستقبلية قد يكون مناسبًا لحل القضية الفلسطينية، الا ان للكونفدرالية صيغاً وليس صيغة، والامر صحيح لكافة أشكال الحكم بما فيها النظام الدمقراطي والجمهوري وغير ذلك. قد تكون الصيغ متشابهة وقد تكون مختلفة وحتى متناقضة. الكونفدرالية في اساسها هي اتحاد بين دول تتوافق على نظام جامع لا يلغي سيادةَ أيٍّ منها، او رابطة مُلزِمة لكيانات سيادية تقوم بتحويل جزء من صلاحياتها للآليّة المشتركة، والتي بدورها تُدير المجالات المتفق عليها بشأن الكينونة المشتركة، وتقوم بتنسيق السياسات وتشكّل إطاراً جديدأ مكمّلاً للكيانات السيادية وليست بديلا عنها . كما أن الكونفدرالية لازمت تاريخياً مناطق وشعوب ومجموعات كانت تخوض صراعات أليمة فيما بينها وجاء الاطار التوافقي بعد أن خمدت نيران تلك الحروب وليس قبل ذلك. ويُسأل السؤال حول الحالة الفلسطينية والصراع الفلسطيني مع المشروع الصهيوني ودولة اسرائيل، فهل تتأسس الكونفدرالية على التسليم بما حققه المشروع الاستعماري الاستيطاني في فلسطين أم على نزعِه وتفكيكه كشرط مسبق. كما أنّ الشرط الاساس والمسبق للكونفدرالية في الحالة الفلسطينية هو انهاء الاحتلال وقيام دولة فلسطينية ذات سيادة، ومعترف بها دوليا، لتقرر حينها اذا ما كانت معنية برابطة كونفدرالية مع اسرائيل، فهذا جزء من حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. والى اي مدى تتجاوب المبادرة طي البحث مع متطلبات انهاء الاحتلال كشرط مسبق، أم نحن بصدد نوع جديد من الصيغ. كل ذلك في مسعى لقراءة مكوّنات المبادرة ومعاينة قابليتها للتطبيق. في حين يبقى سؤال اخر وهو هل على
الفلسطينيين الانشغال في الحلول وهم في وضع يبدو أنه لا يولّد حلولاً، وهل حقًّا اندثر حل الدولتين؟

بعضٌ من طبيعة الانشغالات بالحلول

الانشغال المكثف في صياغة تصوّرات لحلول تُنصف الشعب الفلسطيني ولحل عادل لقضية فلسطين، يعكس مساعيَ جديّة واجتهادات كبيرة وبالذات في قراءة الحالة الفلسطينية المتعثرة عن التحرير، والمعضلات التي تواجه حل الدولتين وهو الحل الاكثر اعتمادا دوليا وعربيا وحتى يمكن القول فلسطينياً، هذا رغم ما يتضمنه هذا الحل من غبنٍ للشعب الفلسطيني، لكن يبدو هو المتاح والأكثر احتمالية. بينما الانشغالات الصهيونية في هذه المسألة تعكس نوعا من الاعتراف بأنه على الرغم من قوة اسرائيل ونفوذها فإنها غير قادرة على حسم قضية فلسطين ولا على تجاوزها، مما قد ينعكس على جوهر اسرائيل وطبيعتها من وجهة النظر الصهيونية بما في ذلك تهديد طابعها الدمغرافي اليهودي او طابع نظام الحكم، وكذلك يواجه اسرائيل في توسيع نفوذها الاقليمي الاستراتيجي. كما وهناك قوى ترى بأن الحلّ هو شرط ضروري لاستدامة اسرائيل دولة يهودية دمقراطية ويرى افاقاً للحل وجدواه على الشعبين ولهذا التيار ينتمي يوسي بيلين. في المقابل لا يرى التيار المهيمن في اسرائيل في العقد الاخير ضرورةً للحلّ، بل هناك حاجة بنظره لادارة الصراع، وطوّر استراتيجياته العسكرية والأمنيّة والسياسية بناء على ذلك، وفي ظل احتوائه للمعارضة الاسرائيلية وفي ظل غياب حالة فلسطينية تهدد استراتيجياته.

من الخطأ وضع كل الاجتهادات الفلسطينية في تغليفة واحدة، بل هناك ما هو نتاج الفكر القائم على التحرير ونزع الاستعمار من كل فلسطين وتوفير الحل الأمثل لشعب فلسطين بتصحيح الغبن التاريخي، وهناك من ينطلق من استحالة إنهاء الاحتلال الاسرائيلي من العام 1967، وبالذات استحالة نزع الاستعمار الاستيطاني ومستوطناته وبنيته وهيمنته في القدس والضفة الغربية. كما وهناك اجتهادات ترى بضرورة الفصل الجوهري ما بين وضعيّتي الاقامة والمواطنة، بصفته عاملا مخترقا للانسدادات التي تواجه حل الدولتين، وهي نوع من التفتيش عن مخارج يعتمد المنطق المعياري، كما وهناك توجّه يرى بأنّ الأولوية هي في تدعيم الشعب الفلسطيني داخلياً واستعادة روح مشروعه التحرري من خلال تشخيص طبيعة الصراع ودونما الانشغال المكثّف بالحل النهائي في ظل الوضعية القائمة فلسطينياً وعربياً ودولياً، وبالأساس فلسطينياً، فمن شأن هذا التدعيم ان يوفّر للفلسطينيين القدرة على تغيير محصّلة المعادلات القائمة وتعزيز قدرات الشعب ونضالاته.
إنّ ما نحن بصدده عند نقاش هذه القضية الكبرى هو ليس ما هو المنطق السليم، ولا التوجه الحسابي ولا الحقوقي. فالاعلان الجازم بسقوط حل الدولتين قد يكون غير قابل للجزم، حتى وإن كانت الحقائق الاستعمارية على الارض تفرض ذاتها، وقد يكون صحيحا لو كانت الحالة الفلسطينية والعربية متماسكة وقوية لدرجة تفرض سقوط الأمر الواقع المهيمن حاليا. الا ان الاستنتاج ليس بالضرورة ان تكون اية صيغة حل اخر اكثر نفاداً، او الانطباع بأن أي حل اخر سيكون اكثر قابلية ويحمل افق تحقيقه. كل الحلول تتراوح ما بين الحل المنصف بناء على منطق الحقوق ويقابله الحل الممكن بناء على منطق التوازنات البنيوية بالمفهوم الدولي وليس الراهنة فحسب. وهناك رأي بضرورة عدم الخوض الفلسطيني في السعي لصياغة تصورات لحلول بديلة استراتيجية بل تعزيز مقومات قوة الشعب الفلسطيني التحررية منطلقين من محورية تغيير موازين القوى الأساسية، وسد الطريق امام اي احتمال لحسم اسرائيلي أحادي لمستقبل فلسطين وشعبها. او اعتبار قيمة اضافية لخطاب الدولة الواحدة كما عرّفه رائف زريق “بأنه يتيح اعادة صياغة القضية الفلسطينية، وفهم الواقع على ضوء ذلك، بالاضافة الى تزويد الفلسطينيين بخطاب واستراتيجية جديدة لمواصلة نضالهم. كما يوفّر خطاب الدولة الواحدة أدوات صياغة أفضل للقضية ولادراك الواقع الراهن بشكل أفضل من خلال النظرة المستقبلية”
توازن القوى الراهن لا يتيح أيّ حل عادل. والمقصود بتوازن القوى هو السيطرة الاحتلالية الصهيونية الاستعمارية العميقة على فلسطين وعلى كل مصير الشعب الفلسطيني، اضافة الى قوة اسرائيل الاستراتيجية العسكرية والاقتصادية والاسناد الامريكي الكامل، يعززها اختراق اسرائيل للعالم العربي، والتراجع المريب في التزام الكتلة العربية الفعلي بقضية فلسطين، وفي تشتت قوة العالم العربي وارتباط عدد كبير من بلدانه بتحالفات أمنية واستراتيجية واقتصادية مع اسرائيل متجاوزين قوة الضغط التي كان من الممكن ان تمارس عليها. فالطوق التاريخي حتى وان كان غير محكم والذي فرضه العرب على اسرائيل اختفى، وبات طوق اسرائيلي مع دول عربية على شعب فلسطين وقضية فلسطين. كما وهناك تسليم اسرائيلي أمني استراتيجي باستحالة وجود حالة تسمح لاسرائيل بالقضاء على قضية فلسطين، حتى اتفاقات التطبيع واتفاقات ابراهام وما ينتج عنها تؤكد ان استراتيجية تجاوز قضية فلسطين غير قابلة للتجاوز، على الرغم من قوة اسرائيل و”العصر الذهبي” عربيا والذي تتمتع به. إلا أنّ تغيير ميزان القوى لا يعني التعادل بالقوة، بل بالقدرة على منع الطرف المسيطر من تحقيق أهدافه او تعطيل مشاريعه لتجاوز الحالة الفلسطينية، أو ان تفرض عليه ثمنا غير قادرٍ سياسيّاً ان يتحمل عواقبه.

الكونفدرالية الاسرائيلية الفلسطينية – مبادرة يوسي بيلين وهبة الحسيني

على امتداد عامين، أعدّ يوسي بيلين الوزير الاسرائيلي السابق عن حزب العمل ولاحقاً رئيس حزب ميرتس وأحد مهندسي اتفاقيات أوسلو، مع المحامية الفلسطينية هبة الحسيني المستشارة القانونية للوفد الفلسطيني المفاوض في سنوات التسعين، ومعهما لفيف من المساهمين الآخرين من شخصيّاتٍ أكاديمية وأمنيّة، خطة تفصيلية لحل سلمي تقوم على مبدأ الكونفيدرالية من دولتين مستقلتين اسرائيل وفلسطين، على أن يتم تقديمها للأمين العام للأمم المتحدة ومسؤولين بالإدارة الأميركية، منهم نائبة وزير الخارجية ويندي شيرمان، وعضو مجلس الامن القومي لشؤون الشرق الاوسط وافريقيا بربارا ليف وهي من أهم الخبراء وأكثرهم تجربةً في الشؤون العربية والاسرائيلية، كما وأكد بيلين انه “تم اطلاع مسؤولين فلسطينيين واسرائيليين على مسوّدة الخطة”. كل ذلك دونما الإفصاح عن أسمائهم ومراكزهم.

لقد استعرض بيلين جوهر الخطة في مقابلة خصّ بها القنال السابعة المخصصة للمستوطنين، وسبقتها بيوم واحد تصريحاته وتصريحات هبة الحسيني لوكالة أسوشييتد برس 7 شباط 2022. تدعو الخطة إلى إقامة دولة فلسطين المستقلة في معظم المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967 في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، وستسمح الخطة لنحو 500 ألف مستوطن يهودي في الضفة الغربية المحتلة بالبقاء هناك، مع ضم مستوطنات كبيرة بالقرب من الحدود [حدود 1967] لإسرائيل في تبادل للأراضي، على أن تَمنح إسرائيل مناطق بنفس المساحة لدولة فلسطين. وسيتم منح المستوطنين الذين يعيشون في عمق الضفة الغربية خيار الانتقال الى اسرائيل أو أن يصبحوا سكانا يتمتعون بإقامة دائم في دولة فلسطين. وسيتم السماح لنفس العدد من اللاجئين الفلسطينيين في الدول المجاورة، بالانتقال إلى إسرائيل كمواطنين فلسطينيين مع امكانية إقامة دائمة في إسرائيل. وإن بقي نصف مليون مستوطن في الضفة فعندها يسمح لعدد مماثل من اللاجئين الفلسطينيين بالعودة الى دولة فلسطين وحمل جنسيتها وعندها بمستطاعهم الاقامة في دولة اسرائيل وليس المواطنة، وعمليا اذا بقي مائة الف مستوطن فيسمنح لنفس العدد من اللاجئين. اي ان عدد اللاجئين المتاح لهم بالحصول على اقامة في اسرائيل منوط في نهاية المطاف بإرادة المستوطنين وقرارهم.

كما تنص الخطة على أنه سيكون لإسرائيل وفلسطين حكومتان منفصلتان، لكنهما تنسّقان على أعلى المستويات بشأن الأمن والبنية التحتية والقضايا الأخرى التي تؤثر على كلا الشعبين. وفي القنال السابعة اكد بيلين بأنه “لن يتم اقتلاع مستوطن واحد”. تنص المبادرة كما صرح بيلين بأنّ حماية الحدود للدولة الكونفدارلية تكون بمسؤولية الجيش الاسرائيلي وسلاح الجو لتحمي حدود البلدين من اي عدو خارجي. في حال تطبيق المبادرة فذلك يعني نهاية الصراع والمَطالب.

ما يطرحة بيلين وما تطرحه الحسيني وبغض النظر عن نوايا المبادرين، فهو يُخضِع فعلياً، حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني لصيغة محددة، لا تؤدي بالضرورة الى كونفدرالية على اساس نديّ بل يُبقي السيطرة الاسرائيلية اليهودية. فهو لا يتحدث عن دولة فلسطينينة ذات سيادة ولا عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني بل عن دولة في سياق الكونفدرالية وحق تقيرير المصير ضمن الوضع القائم، وعملياً اعتبارا من اخر نقطة وصل اليها توسع وتعمق المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني. لا يتحدث حتى عن انسحاب اسرائيل من كل المناطاق المحتلة عام 1967. ثم اذا كان صيغة الكونفدرالية اطارا لحل جزء من مركبات الصراع فإن كل ما تطرحه الخطة المذكورة لا يخرج من التكافؤ بل من اللا – توازن الصارخ بين القوى على الارض، والحديث ليس عن منطق الامور بالمستوى النظري وأنما هناك نظام استعماري استيطاني احتلالي يسيطر على كل فلسطين، ولا تنحصر سيطرته بالجانب العسكري فحسب بل في كل مناحي الحياة المدنية والاقتصادية والتشغيلية والتجارية ومناهج التعليم وغيرها، وعلى كل خيرات البلاد. كما ويندرج هذا النظام ضمن معيار “الامم الغنية”، حسب مواصفات منظمة الدول المتطورة OECD، بينما الشعب الفلسطيني مُدْرَج ضمن الشعوب النامية. بناءً عليه لا اساس من التكافؤ او النديّة يمكن ضمانهما في الفجوة الهائلة في توازن القوى حتى في ظل اتفاق سلام.

مبادرة الكونفدرالية ومبادرة جنيف

تستند المبادرة بشكل كبير الى مبادرة جنيف من العام 2003، وهي خطة سلام مفصّلة وشاملة تم وضعها تم العمل عليها من قبل إسرائيليين وفلسطينيين بارزين، بقيادة بيلين نفسه، والتي اعتمدت أساسًا لها صيغة الرئيس الامريكي الاسبق كلينتون إطاراً للحل وهي الصيغة التي طرحها الرئيس الامريكي في شهر كانون أول 2000 قبل انتهاء ولايته وفي اعقاب اندلاع الانتفاضة الثانية ورفض الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات القبول بالتنازل عن حق العودة للاجئين وفي القدس والانصياع للإملاءات الاسرائيلية الامريكية.
بدورها، اعتبرت وثيقة جنيف أن القبول ببنودها يعني إنهاء الصراع والادعاءات والمَطالب أيًّا كانت، القائم على حدود متفق عليها على اساس حدود 1967 والابقاء على الكتل الاستيطانية مع اسرائيل مقابل تبادل اراضٍ، ودولة فلسطينية من دون جيش مقابل ترتيبات أمنية، والاعتراف المتبادل بين الدولتين بصفتهما الوطنيين القوميين كلٌّ لشعبه، وتقسيم القدس الشرقية بحيث تتبع الاحياء اليهودية الى اسرائيل والفلسطينية الى فلسطين مع ضمان حرية التنقل بالكامل لسكان المدينة ومنالية الاماكن المقدسة، كما تضمنت حلا نهائيا لمسألة اللاجئين على اساس الانتقال الى دولة فلسطين والتعويض ومنظومة إشراف دولية على تطبيق الحل.

هل المستوطنون أقوى من دولتهم؟

إنّ طرح المبادرة للمستوطنين بصفتهم طرفاً بحدّ ذاته، والاخذ بالاعتبار المشدَّد امكانية اعتراضهم على الحل، يعني منحهم وضعية خارج إطار اللاعب الاسرائيلي مقابل الفلسطينيين، بل ويضاف الى قوة دولة الاحتلال – اسرائيل في ميزان القوى المائل أصلا لصالحها وبشكل صارخ، ولذلك تنشغل الوثيقة بشكلٍ لافتٍ، في عدم التصادم مع المستوطنين، اي فعليا الاعتراف ضمنيًّا بامتياز للمستوطنين يضاهي “حق” تقرير مصيرهم ومصير دولتهم، وبما يناقض القانون الدولي. بينما تسعى هبة الحسيني الى الاعتراف بهذه المعضلة، لكنها تراهن على الاطار الشامل للحل والذي يجعلها مسألة قابلة للضبط. بل انها كما بيلين، لا تطرح حق اللاجئين بالعودة إلاّ مرهونًا بعدد المستوطنين في الضفة الغربية الذين سيكونون تحت السيادة الفلسطينية في يوم ما فيما لو تم تطبيق الخطة. يبرر بيلين محاججته وخطته بعدم اخلاء المستوطنات واجلاء المستوطنين بأنهم “يهيمنون على النظام السياسي في إسرائيل، ذلك الذي يرى في الضفة الغربية جزءا لا يتجزأ من إسرائيل” لكنه يدرك ان المجتمع الدولي يعتبر الاستيطان غير شرعي ومناف للقانون الدولي. وعليه بالامكان اعتبار هذا المسلك طريقاً التفافية على الشرعية الدولية.

وفقاً لتصريحات كلٍّ من بيلين والحسيني لأسوشيتدت برس وبيلين في القنال السابعة التابعة للمستوطنين، فإن الخطة تتطلّب المزيد من التنازلات الفلسطينية وهذا ما تؤكده الحسيني: “لانجاز إقامة الدولة وإحقاق الحق المنشود بتقرير المصير الذي نعمل عليه منذ 1948، علينا حقاً، ان نقدم بعض التنازلات” وتضيف من حيث نقطة الانطلاق ” “نحن نعكس العملية ونبدأ بالاعتراف” كمخرج نحو الحل. في حين لا يتجاهل بيلين الصعوبات كما صرح للمصدر نفسه، لكنه يشير الى أنه ” في حال تمّ تجاوُز التهديد بالمواجهات مع المستوطنين، فسيكون هذا محفّزًا لاولئك المعنيين بحل الدولتين، اذ أن صيغة الكونفدرالية ستجعل هذه المعضلة اكثر قابلية للحل واكثر مجدية”. وهو بذلك يؤكد ما معناه ان حل الدولتين غير ممكن لانه سيصطدم بالمستوطنين النصف مليون، في حين ان الكونفدرالية تتجاوز المشكلة. بينما يُخضِع حق تقرير المصير والدولة لمتطلبات الكونفدرالية التي بادر إليها. يبقى السؤال او التساؤل بأي ثمن فلسطيني سيكون ذلك، وهو ما يقبله الطرف الفلسطيني في المبادرة عند الحديث عن تبادلية التنازلات. حسب الحسيني فإن الاقتراح بالنسبة للمستوطنين”مثير للجدل الى حد كبير “، ولو توقفنا عند هذه الجملة فهي تأكيد من ناحية على الخلاف بهذا الشأن حتى بين اطراف الوثيقة، بل والقبول بها على مضض، كما انها لو تم تطبيقها فهناك من سيدفع ثمنها الا وهو الشعب الفلسطيني والقانون الدولي.

من نماذج الأمر الواقع المعاكس وهل المستوطنون أقوى من دولتهم؟!

في نظرة لعددٍ من المحطات التاريخية او المفصلية نجد ان مسألة المستوطنات او الانسحاب هي قرارات سيادية للدولة ولا تعلو عليها سلطة من داخلها. فقد تعاملت اسرائيل بعد حرب 1967 كأمرٍ واقع لا تراجع عنه مع الاستيطان في شبه جزيرة سيناء والذي تشكّل من كتلتين واحدة في رفح المصرية والتي كان الهدف من موقعها هو زرعها بالمستوطنات كي تعزل قطاع غزة عن سيناء، وهذه عقيدة صهيونية دائمة لفرض الحدود والامر الواقع بالاستيطان في كافة انحاء فلسطين وحصريا المناطق الحدودية في الشمال والجنوب والشرق. ضمّت الكتلة الاستيطانية يميت ثلاث عشرة مستوطنة اكبرها مدينة يميت، اما الكتلة الثانية فكانت مستوطنات “خليج ايلات” والتي بلغت ثلاث مستوطنات الى حينه. هذا ناهيك عن التواجد العسكري والمطارات والقواعد. وأكد ذلك قول موشي ديان الشهير “أُفضِّل شرم الشيخ من دون سلام، على سلام بدون شرم الشيخ” ولم تمض سنوات حتى تم الانسحاب من كل سيناء وهدم كامل مستوطناتها.

لقد انسحبت اسرائيل في اعقاب اتفاقات أوسلو 1993 ولاحقاً من مستوطنات في شمال الضفة لان الفائدة السياسية من الانسحاب باتت اكبر من بقائها وحمايتها وتوفير البنية التحتية لها. كما انسحبت كما ذكر آنفاً، من لبنان في العام 2000 بسبب التكلفة والثمن الاستراتيجي. في المقابل دفعت الانتفاضة الاولى اسرائيل الى التفتيش عن حلٍّ بضغطٍ ايضا من المجتمع الدولي، بينما دفعتها الانتفاضة الثانية الى اتخاذ خطوات أحادية الجانب وأهمّها الانسحاب المذكور من قطاع غزة وإخلاء المستوطنين وهدم المستوطنات مقابل حصار غزة من خارجها، فقد جاء الانسحاب من غزة لانها اسرائيل باتت تدفع ثمنا اكبر من فائدة بقائها او لا يحتمله بقاؤها او لا تستطيع ان تتحمله، أي لم يأت الانسحاب الاسرائيلي احادي الجانب من غزة عام 2005 نتيجة لضغط من الراي العام، او نتيجة لضغوطات دولية، او لأنّ المستوطنين انصاعوا للقرار، بل نتيجة لقراءة استراتيجية بعيدة المدى قام بها شارون وحكومته، ربما استلهم مركبات منها من الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان العام 2000، والذي كان نتاج قراءة استراتيجية بعيدة المدى لحكومة ايهود باراك قصيرة الامد في حينه، وهي بدورها لا يمكن أن تُنسَب الى حركة الاحتجاج الاسرائيلية ولا الى حركة الامهات الثاكلات “أربع أمهات” فأثرها فيحينه كان محدودا للغاية وقد جرى توظيفها سياسيا لدعم القرار بالانسحاب.

تؤكد الحالة الاسرائيلية ان الدولة تملك كل القدرات لمعالجة مسألة اخلاء المستوطنات فيما لو أرادت، دون مطالبة الفلسطينيين بالتنازل مجدّداً وذلك ثمناً للوضع الاسرائيلي السياسي الداخلي، والدولة قادرة على عدم الانصياع لمستوطنيها. الا انها معنيّة بهم، ومعنية بالمستوطنين في عمق الضفة الغربية وهم من التنظيمات الارهابية التي تعتدي يوميا على الفلسطينيين وتقتلع زيتونهم وتخرّب مواسمهم، ويعتدون على حياة الناس وهناك كل السلطات المخوّلة بردعهم وتملك كل الأدوات الا انها غير معنيّة، بينما من الظلم الصارخ للفلسطينيين مطالبتهم بقبول هؤلاء المستوطنين ومنحهم إاقامة دائمة في مستوطناتهم المقامة على اراضي ضحايا اعتداءاتهم.

مقارنة مع مبادرة “بلاد للجميع: دولتان وطن واحد”

شهدت قضية فلسطين العديد من المبادرات والمشاريع للحل الكونفدرالي، سواء قبل العام 1948 او بعدها، بل أن قرار التقسيم 181 للعام 1947 فيه مركبات من الكونفدرالية، في حين أنّ حل الدولتين وفي حدود “الخط الاخضر” هو نتاج احتلال 1967 وليس 1948، بينما أتى بمقوّمات من الحق التاريخي ونزع المشروع الاستعماري في هذا الجزء من فلسطين، وحق العودة وحل قضية اللاجئين على اساس القرار الاممي 194. بالانتقال الى العقود الثلاثة الاخيرة اي منذ مؤتمر مدريد واتفاقات اوسلو فقد وردت عدة مقترحات تحمل عنوان الكونفدرالية، ليتضح أن مبادرة بيلين الحسيني ليست الاولى في هذا المضمار بل سبقتها وثيقة الصحفي والناشط الاسرائيلي ميرون رببورت والناشط السياسي الفلسطيني عوني المنشي ولفيف من المثقفين والاكاديميين والمهتمين، وقد حملت عنوان “بلاد للجميع: دولتان وطن واحد”. الوثيقتان مختلفتان فيما يتعلق بجوهر الامور وبالتوجه، اي في التعاطي مع الحق الفلسطيني ومع الغبن التاريخي. فمقابل خطة بييلين التي تعتمد منطق “طمأنة” اليمين الصهيوني والتيار الديني القومي الاستيطاني لتضعه امام ناظرها وتسعى الى اقناعه بقبول الحل من خلال تجاوز مسألة إزالة المستوطنات المقامة في عمق الضفة الغربية، كما تخاطب المركز الصهيوني بمسألة الدمغرافيا. جوهريا، ليست الحلول للصراعات نتاج رأي عام فحسب، فالقانون الدولي لا يتعمد الراي العام الاسرائيلي كي يحدد النظرة القانونية لحقوق الشعب الفلسطيني وفقها.بل يعتمد معايير القانون والشرعية الدولية. هناك أهمية للراي العام حتى في نظام استعماري، الا انها ليست حاسمة ولا جوهرية فيما يتعلق بحق الضحايا. ثم أن اسرائيل لم تنسحب من المناطق المحتلة عام 1967 قبل بداية المشروع الاستيطاني فيها، كموقف استراتيجي، ولذلك فإن انتهاكاتها للقانون الدولي واحتلالاتها ليست نتاج ضغط الراي العام بل نتاج مخططات استراتيجية. الا أن كلاهما لم تتبنّيا إزالة المستوطنات مبديتان عدم القدرة على ذلك او النوايا دون اي تشكيك بصدقها والقائلة بامكانية احتواء حل الكونفدرالية لمسألة المستوطنات. هناك اختلاف اخر يتعلق بالغاية من كلٍّ من الوثيقتين، فإن كانت مبادرة رببورت – المنشي، قائمة على العمل الشعبي كأساس لقناع الشعبين بها، فإن مبادرة بيلين الحسيني موجّهة للمنظومة الدولية وبالذات الولايات المتحدة وبرعاية الامم المتحدة، ولا تتوجه الى الشعب الفلسطيني حتى ولا للإسؤائيليين بل تخص المستوطنين أولاً.

يستعير بيلين النموذج الاوروبي لتطبيقه برؤية مستقبلية في فلسطين. على الرغم من هذا النموذج الطموح، الا أن النموذج الاوروبي متعدد الاطراف وفي جوهره فإن تعدد الاطراف مختلف عن ثنائي الطرف ليس فقط في العدد بل في جوهر الامور وفي القدرة على تحييد جزء هام من الفجوات في توازنات القوى وفي منظومات الضبط والهيمنة والتسيّد. فلو اخذنا نموذج السوق الاوروبية المشتركة التي شكلت البنية التحتية للاتحاد الاوروبي، فإن الحالة الاسرائيلية الفلسطينية هي سوق مشتركة او سوق واحدة او كما عرّفها تقرير امنستي نظام جامع ومهيمن (اسرائيل) لا تسمح بأن تصبح مشتركة فعلا الا بمفهوم هيمنة الطرف القوي، طالما لم يجر مسبقا تفكيك المنظومة الاستعمارية المهيمنة على كل فلسطين. وما تطرحه المبادرة لا يحتوي على أي نوع من تفكيك هذه البنية، وهي ليست بنية شكلية بل تقوم عليها الدولة المهيمنة، وهذه مسألة لا تتم بإقناع المهيمن بأن يتنازل عن امتيازات القوة التي يعتبرها أساسا وضمانا لوجوده.

مخاطر التنازل عن الشرعية الدولية او “انتظار ما بعد حقبة أبي مازن”

يدرك بيلين بدهائه السياسي وبتجربته الغنية في هندسة اتفاقات اوسلو وعدد من نماذج الحل التي سعى اليها، اضافة الى كونه من أقرب المقربين الى شمعون بيرس في حينه وشريكه في الوصول الى اتفاقات اوسلو، بأنّ ايّ حلٍّ خارج حدود الشرعية الدولية بالامكان تمريره فقط في حال كان اسرائيليا فلسطينيا، هذا ما حصل في اوسلو.

لذلك لا بد ان هناك مساعيَ للوصول الى شريك فلسطيني قيادي رسمي يقبل بالمبادرة، في حين أن هناك اشكالية بان يكون الشريك الفلسطيني المُرتجَى من الذين عملوا في التنسيق سواء الأمني أم المدني مقابل “ممثل شؤون الحكومة في المناطق” والشاباك ووزارة الامن الاسرائيلية، او غير متمسك بحل الدولتين والشرعية الدولية، اي ما تطلق عليه الحسيني “تفكيرًا جديدًا”، والمقصود حسب المواصفات الاسرائيلية فلسطينيون ذوو نزعة براغماتية واعتدال سياسي يتنازلون بموجبه عن مبدأ الدولة أوّلاً في بحدود الرابع من حزيران 1967 ولا يرون بالمستوطنات العقبة الاكبر، بل يقبلون بفكرة احتوائها. وهذا ما لا يتوفر لدى الرئيس محمود عباس المتمسك بالحل المذكور وبالشرعية الدولية. بينما لا يسري هذا بالضرورة على حاشيته المتسيّدة،. بناءً عليه فإن المسعى هو ان تتعزز هذه المبادرة في مرحلة “ما بعد أبو مازن” كما تصفها مراكز ابحاث الامن القومي الاسرائيلية.

إن مساعى هندسة النخب الفلسطينية من قبل دولة الاحتلال ليست بجديدة، بل إنها استراتيجية هيمنة وضبط واستنزاف دائمة، لفرض إزاحة المنحى الفلسطيني عن مسار الشرعية الدولية. وهنا تندرج لقاءات وزيري الامن والخارجية الاسرائيليين ورئيس الشاباك والاقيادات الأمنيّة مع القيادات السياسية والأمنية الفلسطينية وكذلك المدنية، وليس بالضرورة من اجل حل الكونفدرالية. بل هنالك مساعٍ كثيفة للضغط على القيادة الفلسطينية في م ت ف والسلطة لإفشال عمل لجنة التحقيق المنبثقة عن مجلس حقوق الانسان، اضافة الى تعزيز التنسيق الأمني وتعزيز الرابط المصلحي للسلطة بدولة الاحتلال من خلال التنسيق المدني. لكن الأكثر جوهريةً هو المساعي لتجاوز مفهوم الشرعية الدولية، وهو أمر ممكن فقط بالتوافق مع الفلسطينيين، وحين يحصل يفقد الحق الفلسطيني مشروعيته. مثلا، قد يتم إلغاء وضعية فلسطين الخاصة المتمثلة باللجنة المعنية بحقوق الشعب الفلسطيني في الامم المتحدة، او الوضعية الخاصة للاجئين الفلسطينيين في الامم المتحدة، وهي انجاز واداة للشعب الفلسطيني، كما وأنّ مكانة وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين – الاونروا مهددة بالاندثار، في حين ان المستهدف الفعلي هو ليس الاونروا بحد ذاتها، بل حق العودة وقضية اللاحئين. الا أنّ المؤشّر الاكثر خطورة في هذا السياق هو ان النخب السياسية المؤثرة المعنية بها اسرائيل تحظى بتعزيز مواقعها وبدعم من القيادة الفلسطينية، وفي حال تبوّات هذه النخب مواقع صنع القرار الفلسطيني فإنّ مبادرة بيلين الحسيني للكونفدرالية ستصبح أكثر قابلية.

لكن هل هذا هو موقف القيادات الصاعدة او المدفوعة للصعود في م ت ف ومؤسساتها وفي السلطة؟ هناك مخاوف جدية للغاية بأنّ من بنى قيادته على التنسيق الامني والمدني سيبقى خاضعا لقواعد لعبة الاحتلال حتى ولو اعتبر نفسه مناهضا للاحتلال، وإن استدعى الأمر تدخّلا امريكياً ضاغطاً فهذا متوفر.اتمنى ان اكون مخطئا.

:الخلاصة

نظريًّا، فإنّ مبدأ الكونفدرالية بصفته إطاراً مفاهيميًّا هو اطار ممكن من حيث المنطق. الا ان المقترحات القائمة على الكونفدرالية في فلسطين التاريخية كلها، قد تحمل ذات التسمية والعنوان لكن ليس الجوهر، في حين ان الشرخ الاساسي هو بين مفهوم نزع الاستعمار وبنيته أساسأً لقيام دولة فلسطينية وبين تبييض الاستعمار وشرعنته ضمن السعي الى حل لا يضمن حتى قيام الكونفدرالية.
في حال قبل الفلسطينيون رسميا بالكونفدرالية بصيغة المبادرة طيّ البحث فإنهم بذلك يسقطون عن اسرائيل المسؤولية ويسقطون فاعليّة القرارات الاممية والقانون الدولي ويُبقون الاحتلال بسبب توازن القوى والاستعمار الاستيطاني، وقد يكون بصِيَغٍ جديدة.
لا يستطيع الطرف الفلسطيني ان يتبنى أية صيغة للكونفدرالية ما لم تقم دولة، فالدولة السيادية هي التي ستقرر الى اين وجهتها، كما لن ينتج الفلسطيني حلا، ولا اجندة حلٍّ، ما دام بضعفه ولا يملك درجة من القوة تجعل الاحتلال مُكلفا لاسرائيل اكثر من فائدته.
تعني المبادرة، لو تمّ تبنّيها، التنازل عن إحدى اهم نقاط القوة الفلسطينية اي الشرعية الدولية، وان كانت نجاحات فلسطينية رسمية تذكر فهي في الدبلوماسية الفسطينية عالمياً، ولو حصل قبول مبادرة بيلين الحسيني لألغت الدبلوماسية الفلسطينية شرعيتها، ولتحول القضية الفلسطينية الى مسألة تفاهمات تفرضها موازين القوى.

يفتحئيل، أورين. نقلا عن معجم المصطلحات أكسفورد ومعجم بنغوين (2012) فصليّة هامرحاب هتسبوري العدد السادس –המרחב הציבורי: כתב עת לפוליטיקה וחברה קיץ 2012 / גיליון מספר 6، ص 157، جامعة تل ابيب (بالعبرية)

المصدر السابق ص121
https://2u.pw/6cmGI
للاستماع الى مقابلة بيلين مع القنال السابعة (بالعبرية) https://omny.fm/shows/arutzsheva/6954ee8a-bdcd-41c2-8fc2-ae3400c8fe61
https://apnews.com/article/europe-middle-east-jerusalem-israel-race-and-ethnicity-44016759f92fb1d273f3a8cdf501a6dd
عن موقع مبادرة جنيف الالكتروني https://heskem.org.il/%D7%A2%D7%99%D7%A7%D7%A8%D7%99-%D7%94%D7%94%D7%A1%D7%9B%D7%9D/

تقرير صحفي صادر عن وكالة مونت كارلو الدولية: https://2u.pw/GSXH2
مقابلة مع الموقع الاخباري الالكتروني الاسرائيلي آي24 (2/2/2022) https://2u.pw/W5zBA

خطاب موشي ديان امام مؤتمر حزب العمل 4نيسان 1971 وفيه أعلن ان لا انسحاب الى حدود ال67 حتى ولو أدى ذلك لاندلاع حرب https://2u.pw/c3jUp

https://www.alandforall.org/arabic/?d=rtl

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.