الخلاف الأميركي الإسرائيلي: رصد التحوّلات وسقوفها

د. محمد قواص. باحث في مركز تقدم للسياسات

ملخص تنفيذي:

**بعود الخلاف بين البلدين إلى فشل إسرائيل في تحقيق نتائج سريعة في حرب غزة، ما أحرج واشنطن، وفتح باب الجدل بشأن الكلفة العسكرية والمالية والسياسية لتلك الحرب.
** سببت الكارثة الإنسانية للحرب “عزلة” للموقف الأميركي على المستوى الدولي، حتى داخل المنظومة الغربية، ما تطلّب موقفا جديدا من إسرائيل.
**يظهر الخلاف في تناقض الحسابات الانتخابية بين بايدن ونتنياهو، بحيث يستفيد الطرفان من الخلاف لمصلحة مستقبلهما السياسي.
**بقي الخلاف محصورا بين الإدارة الديمقراطية ونتنياهو، ولم يتمدد باتجاه الحزب الجمهوري الذي بقي داعما لرئيس الحكومة الإسرائيلية ملوّحا بدعوته لإلقاء خطاب في الكونغرس.
**الخلاف ليس في إدارة المعركة العسكرية فقط، بل في نظرة واشنطن إلى مستقبل قطاع غزّة ودعوتها لدعم حلّ الدولتين.
**لا تقدم واشنطن الخلاف بصفته خلافا مع إسرائيل، بل مع نتنياهو وائتلافه الحكومي مع اليمين المتطرّف.

تقديم:
شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل في الأسابيع الأخيرة تصدّعا نسبيا لا مثيل له في تاريخ العلاقة بين البلدين. وفيما يبدو الخلاف وكأنه تباين في وجهات النظر أكثر من كونه تناقضا وخصاما، غير أن كثيرا مما صدر من تقارير يكشف في إسرائيل عن انعطافة غير مسبوقة في التعامل بين البلدين، ويطرح في الولايات المتحدة أسئلة بشأن نجاعة استمرار “العلاقة الخاصة” بين البلدين، وفق التعبير الذي أطلقه الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي.

الدعم المفرط والتباين المحسوب:
تراجعت العلاقات الأميركية الإسرائيلية على نحو متدرّج منذ عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها حركة “حماس” في 7 اكتوبر 2023. أظهرت واشنطن دعماً مفرطا لإسرائيل وفق الأعراض التالية:
1-زار الرئيس الأميركي جو بايدن إسرائيل تضامنا وفعل ذلك أيضا وزراء الخارجية والدفاع ومستشار الأمن القومي ومسؤولين سياسيين وعسكريين آخرين.
2-أعلنت واشنطن دعمها الكامل للعملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزّة.
3-دفعت بلا حساب بالمساعدات العسكرية وحرّكت قطعا عسكرية بحرية استراتيجية صوب الشرق الأوسط.
4-استخدمت حقّ النقض داخل مجلس الأمن الدولي لمنع تمرير أي قرار يطالب بوقف إطلاق النار.

غير أن أسبابا عديدة أدت إلى تباعد مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل، لا سيما منذ بداية عام 2024 تتعلق بخطط الحرب الإسرائيلية في غزّة وخطط ما يطلق عليه اسم “اليوم التالي” للحرب.
وقد تضافرت عوامل دولية وإقليمية، كما الحسابات الانتخابية في البلدين، لتراكم حيثيات، أدت إلى تصاعد خلاف بات علنيا سواء في تصريحات بايدن ومسؤولي إدارته أو في تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزراء اليمين المتطرّف إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش.

خلاف في إدارة الحرب وما بعدها:
يقوم تصاعد الخلاف بين واشنطن وتل أبيب على أسباب عديدة لكن أبرزها التالي.

1-فشل إسرائيل العسكري في تنفيذ عملية عسكرية سريعة تحقق نتائج كاسحة توفّر على الولايات المتحدة الإحراج الداخلي كما في علاقاتها الدولية، لا سيما مع بلدان الشرق الأوسط.
2-أدى امتداد المعارك لخمسة أشهر حتى الآن إلى ارتفاع الكلفة العسكرية بالنسبة للولايات المتحدة، في وقت تدعم فيه بشكل استراتيجي أوكرانيا ضد الهجوم الروسي، وتطوّر مساعداتها وحضورها العسكري في منطقة جنوب شرق آسيا والمحيطين الهادي والهندي في إطار مواجهتها للصين.
3-وضعت حرب غزّة، في جانبيها العسكري والإنساني، الولايات المتحدة في حالة “عزلة” على المستوى الدولي ظهرت خصوصا داخل مجلس الأمن الدولي. فحتى كافة دول المنظومة الغربية، التي أظهرت جميعها تضامنا مفرطا مع إسرائيل بما في ذلك تراجعها عن مواقفها حيال القضية الفلسطينية، عادت وصوّبت موافقها التضامنية الانفعالية الداعمة لإسرائيل وأخذت مسافة من الحرب الإسرائيلية وراحت تباعا، وفي مقدمتها بريطانيا الشديدة القرب تاريخيا من واشنطن، تلوّح بالاعتراف بالدولة الفلسطينية. وتتناقض “عزلة” الموقف الأميركي مع دور ومكانة الولايات المتحدة في المشهد الدولي العام.
4-ظهر الخلاف واضحاً في رؤية إدارة بايدن لمآلات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعد حرب غزّة. رفضت واشنطن تهجير سكان القطاع إلى مصر كما رفضت أي تغيير في مساحته.
5-بالمقابل فإن إسرائيل، وإن تراجعت عن فكرة الترانسفير نتيجة لضغوط مصرية استجابت لها واشنطن، ما زالت تطرح حلولا أمنية إسرائيلية لإدارة القطاع، بما في ذلك إقامة منطقة عازلة يتم قضمها من مساحة القطاع.
6-يظهر الخلاف من جهة أخرى في خطط أميركية غير واضحة تدعو لإدارة القطاع من قبل حكومة فلسطينية وصولا إلى سلوك حلّ الدولتين، فيما لم يصدر عن نخب إسرائيل، وليس نتنياهو فقط، أي استجابة إسرائيلية لفكرة قيام دولة فلسطينية.

بايدن-نتنياهو: تنافر الطبائع:
على منوال الصراع بين نتنياهو والرئيس الأميركي الديمقراطي باراك أوباما على مدى ولايتين (2009-2017)، ظهر جانب في توتر علاقات الإدارة في واشنطن وتل أبيب في غياب التوافق الشخصي بين مصالح بايدن ونتنياهو وفق العوامل التالية؛

1-أدت الكارثة الإنسانية في قطاع غزّة إلى تصاعد ضغوط داخلية في الولايات المتحدة في مرحلة حساسة بالنسبة لبايدن في سنة الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في 5 نوفمبر 2024.
2-أظهرت هذه الضغوط تراجع شعبية بايدن لدى الكتل الناخبة التقليدية، لا سيما لدى مجتمع الأقليات بما فيها المسلّمة. وقد تمدّدت هذه الضغوط إلى داخل حزب بايدن الديمقراطي من خلال انتقادات وجهها الجناح التقدمي داخل الحزب بقيادة السيناتور بيرني ساندرز إلى سياسة الدعم غير المشروط التي تنتهجها إدارة بايدن لإسرائيل.
3-اصطدمت الحسابات الانتخابية للمرشح بايدن مع حسابات نتنياهو لأي انتخابات إسرائيلية تشريعية محتملة.
-يقوم جانب من موقف إدارة بايدن في الخلاف مع إسرائيل على إدارة ملف الانتخابات الرئاسية لجهة استقطاب كتل انتخابية ضرورية لحسم النتائج في الولايات المتأرجحة.
4-تقوم حوافز ذهاب نتنياهو إلى حدود تحدي إدارة بايدن على أسباب سياسية تضمن وحدة حلفه مع أحزاب اليمين المتطرّف وإفشال أي سعيّ، ومنه أميركي، لإسقاط حكومته.
5-تقوم حوافز نتنياهو أيضا على أسباب انتخابية لجهة تسويق نفسه لدى الناخب اليميني مدافعا عن إسرائيل حتى لو اقتضى الأمر الخلاف مع حليف تاريخي واستراتيجي وأساسي مثل الولايات المتحدة.

خلاف بلدين أم خلاف إدارتين؟
لا تظهر حتى الآن أي تحوّلات بنيوية يمكن التأسيس عليها لاستنتاج تحوّل استراتيجي في العلاقات الأميركية الإسرائيلية. وفيما سُجلت مواقف أميركية سابقة على عملية “طوفان الأقصى” منتقدة لحكومة نتنياهو وأعراضها اليمينية المتطرّفة، غير أن حدود التناقض بين البلدين بقيت تحت سقف مقبول وفق الملاحظات التالية:

1-رغم ما أظهرته المواقف الأميركية الأخيرة، لا سيما على لسان وزير الخارجية أنتوني بلينكن في جولته الأخيرة (19-21 مارس، 2024) في الشرق الأوسط (شملت السعودية ومصر وإسرائيل)، ضد الهجوم الذي تخطط إسرائيل لتنفيذه في رفح واعتباره “خطأ”، غير أن الولايات المتحدة لم تتخذ أي قرار بشأن استمرار إرسال الأسلحة إلى إسرائيل.
2-يعتبر استقبال واشنطن في 24 مارس 2024 وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالنت تحت عنوان “تهدئة التوترات مع واشنطن واستمرار الجسر الجوي للأسلحة الأميركية إلى إسرائيل” بمثابة نفيّ أي احتمال لوصول الخلاف الأميركي الإسرائيلي إلى حدّ المسّ بمستوى التسليح الأميركي لإسرائيل.
3-رغم تقديم الولايات المتحدة مشروع قرار في مجلس الأمن يتحدث عن “ضرورة وقف إطلاق النار” في غزّة، إلا أن القرار، الذي واجه “فيتو” روسي صيني في 22 مارس 2025، اتّسم بالليونة وعدم الحزم في مسألة وقف إطلاق النار على نحو لا يوحي للطبقة الحاكمة في إسرائيل بأي ضغوط مكلفة أو موجعة تخلق ضغوطا داخلية على حكومة نتنياهو.
4-لا يعتبر الخلاف الحالي تناقضا بين الولايات المتحدة وإسرائيل، بل خلاف في وجهات النظر بين إدارة بايدن الديمقراطية ونتنياهو. ويعود غياب “الكيمياء” بين الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الإسرائيلي إلى الفترة التي كان فيها بايدن يشغل منصب نائب للرئيس السابق باراك أوباما.
5-لم يظهر أن الخلاف بين الإدارة الأميركية الديمقراطية الحالية وإسرائيل قد انسحب على موقف الحزب الجمهوري الذي لم يُظهر أي تحفّظ على سياسات نتنياهو ولم يؤيد انتقادات الإدارة الديمقراطية. ويظهر ذلك جليا في موقف معاكس من خلال إعلان رئيس مجلس النواب الأمريكي، الجمهوري مايك جونسون، في 21 مارس 2024، أنه سيدعو نتنياهو لزيارة واشنطن لإلقاء كلمة أمام الكونغرس.

خلاصة واستنتاجات:

**لا يجب الاستهانة بالخلاف الحالي بين الولايات والمتحدة وإسرائيل بشأن الحرب في غزّة. صحيح أن الخلاف يجري بين إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن وحكومة ائتلاف بنيامين نتنياهو مع اليمين المتطرف في إسرائيل، غير أن كتابات جادة في البلدين تستنتج جدّية تصادم مصالح البلدين في حسابات واشنطن الاستراتيجية في الشرق الأوسط والعالم.
**سيكون لأصداء الخلاف مفاعيل داخل مستقبل إسرائيل السياسي وخصوصا في أي انتخابات محتملة لجهة تأثير ذلك على مصالح الإسرائيليين، ولجهة قدرة إسرائيل على المناورة في المنطقة والعالم من دون التمتع برعاية أميركية تقليدية تامة وغير مشروطة. ويظهر ذلك من خلال تقصّد واشنطن تقديم الخلاف بصفته مؤقتا ينتهي مع إزالة نتنياهو عن الحكم.
**سيكون للانتخابات الرئاسية الأميركية تداعيات مباشرة على مستقبل نوعية العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. فإذا كان التجديد لبايدن يمثّل استمرارا للنهج الذي نشهده في العلاقة مع خيارات نتنياهو واليمين المتطرّف، فإن فوز الجمهوري دونالد ترامب، والذي يعوّل نتنياهو عليه، قد لا يمثّل بالضرورة عودة آلية إلى الموقف الأميركي التقليدي في التعامل مع إسرائيل في ظل تبدّل كبير في مزاج المنطقة لصالح قيام دولة فلسطينية، وفيما تحتاجه واشنطن من تضامن دولي في الصراع ضد روسيا والصين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.