اعلان الانسحاب الامريكي المفاجيء من سوريا: بين الاحتواء المزدوج وتوريط روسيا في المستنقع

أسعد كنجو*

مقدمة :

بصورة مفاجئة اعلن البيت الابيض نيته الانسحاب من سوريا، وتجميد 200 مليون دولار من برنامج المساعدات الامريكية للفصائل المعارضة في سوريا، ما يخالف كل التقديرات التي عبر عنها وزير الخارجية الاسبق تيليرسون في كلمة له في معهد هوفر في شباط\فبراير الماضي : عندما قال ان تواجد القوات الامريكية سيستمر طويلا في سوريا حتى لا تتكرر تجربة الانسحاب الامريكي من العراق، الامرالذي فتح الباب لسيطرة داعش على اجزاء كبيرة من الارض، وما زاد الالتباس في فهم السياسة الامريكية الجديدة ان فريق البيت الابيض، احد صقور المحافظين الجدد وبومبيو وزير الخارجية ، يحملان وجهة نظر متطابقة مع الرئيس ترامب بشان مواجهة النفوذ الايراني في الشرق الاوسط باعتباره احد اهم حوامل الارهاب. الامر المتوقع قبل ايام، هو ان تعزز واشنطن من نفوذها في سوريا لقطع الطرق على التمدد الايراني بمليشياتها وحرسها الثوري في سوريا، وحملت مطلع الشهر الماضي انباء عن تعزيز القاعدة الامريكية في التنف على الحدود العراقية السورية الجنوبية ب 2500 جندي اضافي ، ومشروع لبناء قوة من العرب والاكراد تصل الى 30 الفا لحماية وادارة مناطق النفوذ الامريكي في الشمال الشرق السوري. كل ذلك طوي ذات ليل. وبات الانسحاب الامريكي واردا وممكنا، بحسب تصريحات الرئيس ترامب .

توريط موسكو :

ترجح هذه الورقة السياسية، انسحابا امريكيا من سوريا، وترك الروسي والايراني يدفعان كلفة الحرب المفتوحة في سوريا.  وبصورة اكثر دقة ترك روسيا الخصم الجيوسياسي اللدود لإدارة تكاليف حرب أهلية عمرها سبع سنوات. علاوة على ذلك، فإن منح موسكو هذا الفوز على المدى القصير سيتركها في مأزق بسبب سلوكيات نظام الأسد البغيضة. ويعد ذلك تطبيقا دقيقا لاستراتيجية الامن القومي الامريكي الجديدة التي اعلنت في 18 ديسمبر \ك2 الماضي ، والتي تشكل هاديا للسياسة الامريكية الخارجية . يرى الخبراء ان تامين المصالح الامريكية يكمن في قدرتها على المساهمة بتسوية تفاوضية ، مع الاعتراف بحقيقة مؤلمة وهي ان نظام بشار الاسد كسب الحرب ضد المعارضة المسلحة الى حد كبير، وحافظ على تماسك هش لمؤسسات الدولة في دمشق والساحل، وحتى اليوم نجح ايضا في ضمان دعم غير محدود من ايران وروسيا.  وفي المدى المنظور يبدو ان الأسد سيحكم معظم سوريا. بالنسبة للولايات المتحدة، تستطيع الادعاء انها ساهمت بفعالية في انهاء الدولة الاسلامية في سوريا والعراق وحرمتهم من ملاذات امنة ومستقرة كانت تهدد دول  الغرب ايضا. الاستدارة الامريكية الجديدة، تعيد ترتيب الاولويات، فلم تعد المراهنة على تباينات بين موسكو وطهران في الموضوع السوري مجدية وذات قيمة، كما تقدر المقاربة الجديدة ان حجم المخاطر من عودة الارهاب الى السيطرة على مساحات من الارض لم تعد واردة، وبالتالي فان الحضور العسكري بقواعد ومنشات، لتحصين المكاسب الأمريكية، غير ذي نفع ويمكن تحقيقه بوسائل اخرى ومقاربات متنوعة بالاعتماد على الحلفاء الموثوقين على المستوى الاقليمي ( اسرائيل والاردن والسعودية وتركيا) وفي المواجهة الاوسع مع الروسي باستعادة الثقة بالشركاء في حلف الاطلسي ..

​فالانسحاب الامريكي يكشف كل الاطراف المتورطة في المستنقع السوري، ويضعها في مازق سياسي وعسكري واستنزاف مالي وبشري دائم، واشنطن تدرك أن طهران وموسكو عاجزتان عن تحقيق انتصار ساحق لرجلهما في دمشق بشار الاسد، الذي يحكم دولة منهارة وعاجزة ومفلسة وغالبية محافظاتها دون بنية تحتية وتصل نسبة الدمار في بعضها الى ما يفوق 80%، ولديها أكثر من عشرة ملايين نازح ولاجيء، والتقديرات المتواضعة تقول بالحاجة الى 700 مليار لاعادة الاعمار. الامر الذي يفوق قدرات روسيا وايران بعد الاستنزاف المتواصل طيلة السنوات السبع الماضية. في القراءات الاولية  لخارطة الاولويات الامريكية، ندرك ان سلة عقوبات جديدة قد تعمل واشنطن على فرضها على الطرفين الروسي والايراني بذرائع مختلفة.

نشرت مجلة مجلس الشؤون الخارجية الأمريكية مقالا تحت عنوان استراتيجية الاحتواء الأمريكية لسوريا، اورد توصية تحمل مضمون السياسة الجديدة وهي “ان التغلب على الروس في سوريا يكون عبر تمكينهم من النصر هناك”، يبدو  العنوان غريبا ويتسم بالمفارقة، خصوصا مع الدعوة الصريحة التي حملها المقال بأن على واشنطن التفاوض من أجل الخروج من سوريا بأقرب وقت، قبل أن يوضح الكاتب ( ارون شتاين ، فورين افيرز 15 مارس \اذار) ما يمكن وصفه ب“الكمين“ الذي يمكن ايقاع روسيا به في سوريا، حيث تقوم الاستراتيجية التي يطرحها على تسليم روسيا بلد مفلس ومدمر بشكل شبه كامل بعد سبعة سنوات  من الحرب، بالاضافة لحلفاء منبوذين دوليا وتدار حولهم اتهامات بجرائم حرب وفظائع ستجعل من روسيا حاميا للشيطان في نظر المجتمع الدولي، وتنجلي بعض المفارقة ايضا  حين يتبين أن الغرض من الاستراتيجية الجديدة هي توريط روسيا بتكلفة اعادة الاعمار في ظل العقوبات المفروضة عليها وعلى حلفائها في سوريا النظام وايران، مع امكانية تشديد تلك العقوبات من قبل المجتمع الدولي باعتبار روسيا باتت شريكا لنظام متهم بارتكاب جرائم حرب واستخدم الاسلحة الكيميائية ضد المدنيين من شعبه،ويضيف الكاتب اشارة مهمة الى أن روسيا نفسها متهمة حاليا باستخدام غاز الأعصاب داخل الأراضي البريطانية وهي عضو من حلف شمال الأطلسي، توضح استراتيجية الاحتواء أن هذين المأخذين كافيان لتتمكن واشنطن من التحشيد دوليا ضد روسيا والزام حلف الناتو بالتضامن ودعم وجهود المقاطعة ( كما حصل في محاولة اغتيال الجاسوس الروسي السابق والطرد الجماعي للدبلوماسيين الروس)، وهومايمكن تطبيقه على ايران قبل نهاية مايو \ ايار المقبل، فالولايات المتحدة لديها تاريخ وخبرة طويلة في فرض العقوبات على الحرس الثوري الايراني وامكانية تشديدها تصبح ممكنة مع تحميل طهران مسؤولية ما ارتكبه حليفها من جرائم حرب واستعمال للأسلحة الكيميائية رغم توقيعه على المعاهدة الدولية المعنية بنزع الأسلحة الكيميائية.

المقاربة الثانية : تأمين النفوذ عن بعد

 

يسمح الانسحاب  من سوريا للولايات المتحدة بتحويل تركيزها نحو التخطيط على المدى الطويل، والمواجهة الشاملة ومن موقف افضل. بدلاً من التورط في المزيد من القتال في سوريا، فيما يبدو انه عودة الى استراتيجية الاحتواء المزدوج للخصوم في موسكو  وطهران وتابعهما في دمشق. يدرك العقل الحاكم في سياسة الادارة الامريكية اليوم ان روسيا نجحت في تمكين بشار الاسد من البقاء في السلطة في المدى المنظور، وان على واشنطن التسليم بهذه الحقيقة ، لكن قيام دولة مستقرة واعادة الاعمار يحتاج الى توافق دولي وتسوية سياسية مقبولة، بغطاء الامم المتحدة، هنا يمكن لواشنطن ان تلعب دورا محوريا وفاعلا في انجاز هذه التسوية، بادخال حليفها المحلي، قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ونواته الاساسية حزب الاتحاد الديمقراطي ذي الأغلبية الكردية. وتتوافق موسكو مع واشنطن في قواسم مشتركة اهمها الحرب على داعش والقوى السلفية المتطرفة وكذا عدم الرغبة في صدام  بين قوات سوريا الديمقراطية والنظام السوري. لان مثل هذا الصراع من شأنه اضعاف وتشتيت الجهود في الحرب على داعش وربما يسمح لهذه الجماعة باستعادة الأراضي التي خسرتها  مجددا . وهو ما لاترغبه به روسيا. التحدي الاكبر الذي يواجه الولايات المتحدة بعد قرار الانسحاب من سوريا هو محاولة ادماج الاكراد في العملية السياسية وحوار مع النظام في منصة جنيف دون استبعاد او خسارة تركيا. بعد أن سيطرة أنقرة على عفرين عسكريا، باتت الفرصة ضيقة للاتفاق على موقف مشترك. ينبغي على الولايات المتحدة أن تفكر في إسقاط إصرارها على تغيير النظام مقابل توسيع إطار التفاوض الحالي ليشمل قوات الحماية الكردية. وسيجد الإطار الموسع دعما روسيا وأمريكيا، ويمكن تضمينه في اطار عملية جنيف للسلام التي تدعمها الأمم المتحدة ، ويمكن أن تساعد هذه السياسة في الضغط على تركيا بهدف التوصل إلى تسوية مع الأكراد السوريين، بارغامهم على فك الارتباط بحزب العمال الكردستاني التركي الذي تصفه انقرة بالارهابي. واذا ما سمحت واشنطن بتحقيق الاستراتيجية التركية بقيام حزام عربي على حدودها في الشمال السوري وتقطيع اوصال الكيان الكردي في منطقة تل ابيض وراس العين في محافظة الرقة، فان تركيا في هذه الحالة تتشارك مع النظام في دمشق ومع الايراني الذي يخشى من قيام الكيان الكردي المنفصل. ولعل المدخل الذي تعمل عليه واشنطن هو اقناع حليفها الكردي بالانضواء في اطار التسوية السورية الشاملة .

الخلاصة :

سواء كان الانسحاب الامريكي من سوريا مقدمة لتوريط روسيا واستنزافها عسكريا وماليا وسمعة دولية او  تحرير يدها لممارسة ضغوط اقتصادية ودبلوماسية لتامين وصول كل الاطراف الى تسوية سياسية مقبولة ، فان القرار خلق ديناميات جديدة وقلقا متزايدا من ان تشكل هذه الخطوة بوابة جديدة لاستعادة القوى الارهابية لمواقعها على الارض ، خاصة وان دور التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة كان حاسما في انهاء دولة العراق وسوريا ، وكذا في اطالة امد الحرب الاهلية الداخلية في سوريا وتعقيد مسار التفاوض السياسي الذي يراوح مكانه منذ ما يزيد على خمس سنوات.  فالتوافقات المحلية والاقليمية والدولية ، لا زالت بعيدة عن انجاز تصور واضح لمسار العملية السياسية وشكل الدولة السورية القادمة ودستورها ووضع اقلياتها بعد ان حفرت الحرب شروخا عميقة يصعب ردمها في المدى المنظور .

*مساعد باحث فى مركز التقدم العربي للسياسات – لندن 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.