حروب بلا رصاص: الحمائية بداية المعركة بين الولايات المتحدة وشركائها التجاريين

محمود  مشارقة*

بدون طلقة واحدة يشن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حروبا تجارية هنا وهناك ، ويعيد رسم خريطة الاقتصاد العالمي بمفردات وأدوات مختلفة. يتبنى الرئيس المثير للجدل شعار “أمريكا أولا ” في الاقتصاد ، و”إسرائيل أولا ” في السياسة التي ليس هي موضوعنا في ظل غياب أخلاقيات أو معايير ثابتة تحدد أسس العلاقات الاقتصادية والسياسية في العالم.

سلاح “شرطي العالم ” ليس القوة العسكرية اليوم ، وإنما الرسوم الجمركية والعقوبات على كبار المصدرين إلى بلاده لتعديل ميزان التجارة معهم .. فلا اتفاقيات أو قوانين ملزمة، ومنظمة التجارة العالمية في ظل هذه الحروب باتت منزوعة الدسم ، بعد أن كانت عضويتها حتى زمن قريب حلما للدول النامية التي تخلت كثيرا عن جزء من سيادتها وفتحت أسواقها أمام الشركات العابرة للقارات، وألغت الرسوم الجمركية أو عدلتها أملا في استقطاب الاستثمارات والانخراط في النظام الاقتصادي العالمي الجديد .

“الحمائية التجارية”

الحمائية عنوان مهم في المعركة المحتدمة بين الولايات المتحدة وشركائها التجاريين ، فقد مهد الرئيس دونالد ترامب لما نشهده بالانسحاب من اتفاقية التجارة عبر الهادىء ، وطلب تعديل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية “نافتا” ، كما انسحب من اتفاق باريس للمناخ وضرب بقرارات مجموعة “السبع” عرض الحائط.

ويبدو أن أخطر السيناريوهات المحتملة التي يمكن أن تدق آخر مسمار في نعش النظام التجاري العالمي هو احتمالية  تنفيذ الرئيس الأمريكي تهدياته بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية، وهو قرار إذا أقدمت عليه الإدارة الامريكية فسيكون بمثابة شهادة وفاة للنظام التجاري العالمي الذي تأسس قبل  خمسة عقود بإطلاق الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة للجات (GAAT)، التي نشأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، قبل أن تنتقل الولاية الى منظمة التجارة الوريث الشرعي لاتفاقية “الجات ” مطلع يناير 1995 .

وفي حال دخول العالم في انماط  الحماية التجارية، يصعب التكهن بحجم الأضرار التي يمكن أن تلحق بالاقتصاد العالمي ، وخصوصا أقطابه الثلاثة الرئيسية وهي  الولايات المتحدة والصين وألمانيا ، ما قد يؤدي الى دخول العالم في مرحلة ركود اقتصادي خطير، كما ان إعادة التفاوض بشأن الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، واتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ يهدد بشكل كبير زيادة النزاعات التجارية على مستوى العالم  ويفقد المصداقية في الاتفاقيات الموقعة .

شرارة الحرب التجارية الأمريكية اشتعلت مع الصين بفرض واشنطن رسوما جمركية نسبتها 25% على سلع صينية مستوردة بقيمة 50 مليار دولار في مسعى من الإدارة الأمريكية الى خفض العجز التجاري مع الصين البالغ 375 مليار دولار بمقدار 200 مليار دولار وسط اتهامات لنظام بكين بالمنافسة “غير النزيهة” وسرقة حقوق الملكية الفكرية للشركات الأميركية.

في المقابل إتخذت الصين على الفور اجراءات انتقامية ضد الرسوم الأمريكية باعلان تعرفات جمركية “مطابقة” لتلك التي فرضتها الولايات المتحدة  ، حيث تعي بكين أن سهام ترامب ستلحق ضررا كبيرا بصادراتها ، خصوصا اذا علمنا أن الصادرات تشكل المحرك الاساسي في الاقتصاد الصيني. ومن المرجح ان تفرض الصين رسوما على ما قيمته 34 مليار دولار من الواردات الاميركية من بينها منتجات زراعية وبحرية وسيارات اعتبارا من السادس من تموز(يوليو) وهو موعد دخول التعرفات التي أعلنها ترامب حيز التنفيذ.

اللافت أن ترامب يتعمد فتح حروب في جبهات مختلفة دون النظر إلى عواقبها على النمو العالمي ، فقد تعلمنا في أبجديات علم الاقتصاد أن أية عراقيل أو قيود جمركية لها انعكاسات مباشرة وغير مباشرة وقد تكون عواقبها سلبية ومدمرة لا رابح فيها.

وهنا لا بد من الإشارة الى أن العالم شهد خلال العام الأول من ولاية ترامب الرئاسية، مضاعفة ادارة البيت الأبيض التهديدات الشفهية والبيانات معلنة فتح تحقيقات أولية حول بضائع مستوردة مدعومة من حكومات الدول المصدرة. فيما يحيط الرئيس الأمريكي  مستشارين اقتصاديين أكثر تعنتا منه ومن بينهم بيتر نافارو ، الذين لا يخفون عداءهم تجاه الصين، ويعتقدون أن الولايات المتحدة ستكون الرابحة في الحرب مع شركائها التجاريين  وليس لديها ما تخسره على اعتبار ان الميزان التجاري ليس في صالحها ، حيث تشير الاحصائيات المعلنة ان واشنطن صدرت بضائعا عام 2017 بقيمة 130.4 مليار دولار إلى الصين لوحدها. فيما استوردت في الوقت نفسه بضائع صينية بقيمة 505.6 مليار دولار.

الشركاء التجاريون للولايات المتحدة يستعدون للمواجهة التجارية مع ادارة ترامب باعلانهم اجراءات انتقامية كما فعلت الصين ، فقد وافقت دول الاتحاد الاوروبي على سلسلة من الاجراءات الجمركية مستهدفة عشرات السلع الاميركية مثل الجينز والخمور الامريكية ودراجات نارية، وتشمل المنتجات الزراعية على نحو كبير في اعقاب الرسوم على الصلب والالمنيوم بنسب تتراوح بين 10 و25 %، وتستهدف التدابير المضادة المعلنة ما قيمته 2.8 مليار يورو من السلع الاميركية، وهناك خشية أوروبية من ان تنفذ واشنطن تهديدا بفرض رسوم عقابية على سيارات مستوردة، ما تخشاه خصوصا صناعة السيارات الالمانية.

أما اليابان فقد ابلغت منظمة التجارة العالمية اعتزامها الرد بتدابير مماثلة على سلع اميركية بقيمة 50 مليار ين ، وتتعلق المخاوف الرئيسية لليابان بالتهديد بفرض رسوم على واردات الولايات المتحدة من السيارات.

كما ردت كندا على الرسوم الأمريكية على الواردات من الصلب والألمنيوم بفرض رسوم على منتجات أمريكية بقيمة 16.6 مليار دولار كندي ، واعتبرت أوتاوا الرسوم الامريكية إهانة للشراكة الامنية قديمة العهد مع  الولايات المتحدة.

هذا المشهد المحتدم دفع مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاجارد قبل أيام إلى المسارعة بتحذير واشنطن من سياستها الحمائية. وقالت بشكل واضح: “في حال اندلعت حرب تجارية، وأججها الفرض المتبادل للرسوم الجمركية على الواردات، لن يكون هناك رابح.. نرى بشكل عام خاسرين من الطرفين”.

ويرى صندوق النقد ان زيادة في الرسوم الجمركية والقيود غير الجمركية يمكن ان يؤثر سلبا في الاسواق المالية ويعكر عمل سلسلات الانتاج.. ويحد من الانتاجية في العالم والاستثمار.

واقترحت لاجارد في أبريل (نيسان ) الماضي بإنشاء “منصة حوار” من أجل تفادي قيام حرب تجارية ستضر بالاقتصاد العالمي باكمله. وصرحت على هامش الاجتماعات الربيعية لصندوق النقد الدولي في واشنطن “يجب على الدول العمل معا لتسوية خلافاتها بدون اللجوء إلى تدابير استثنائية”.

ويتفق معهد واشنطن مع التحذيرات هذه بتحذيراته المتتالية منذ أشهر بأن حربا تجارية على المستوى العالمي قد تثبط نمو الاقتصاد العالمي الذي شهد صعوبات كثيرة لاعادة انعاشه بعد الأزمة المالية عام 2008 والذي ينشط بتبادل ممتلكات وخدمات في جميع أنحاء العالم.

كما أن منظمة “اياتا” للطيران هي الأخرى حذرت بأن حركة السفر والشحن الجوي العالمي مهددة بالتراجع بعد فرض الولايات المتحدة رسوم جمركية على واردات الصلب والألمنيوم من شركاء تجاريين أبرزهم إلى جانب الصين ، الاتحاد الاوروبي وكندا والمكسيك.

الخاسرون والرابحون

تعتبر الصين اكبر الخاسرين في الحرب التجارية التي تدور رحاها اليوم، نظرا لتشابك العلاقات بين بكين وواشنطن ، إذ ترتبط الولايات المتحدة والصين بعلاقات تجارية ومالية وثيقة على الرغم من الاختلافات العميقة في نظاميهما الاقتصاديين، حيث تشمل صادرات الولايات المتحدة إلى الصين طائرات بوينج مدنية ومعدات ملاحية بقيمة 16.26 مليار دولار، وصويا بأكثر من 12.36 مليار دولار، وسيارات جديدة أو مستعملة بقيمة 10,52 مليار دولار.

في المقابل تصدر الصين الى السوق الأميركية جملة من المنتجات بدءاً من الهواتف المحمولة (70.39 مليار دولار) والحواسيب (45.52 ملياراً) ومعدات الاتصالات (33.48 ملياراً) والأكسسوارات الإلكترونية (31.6 ملياراً) إلى الألعاب (26.77 ملياراً) والملابس (24.1 ملياراً) والأثاث (20,66 ملياراً). وخلافاً للبضائع، سجلت الولايات المتحدة فائضاً تجارياً مع الصين في قطاع الخدمات بلغ 38,48 مليار دولار في العام 2017، وفقاً لبيانات وزارة التجارة الأمريكية.

وتتصدر الصين قائمة  المستثمرين الأجانب في سندات الخزينة الأمريكية، وذلك بقيمة 1.18 تريليون دولار أميركي على شكل سندات خزينة أميركية، أي حوالي 20 بالمائة من إجمالي ما تملكه مجمل المؤسسات الأجنبية.

ونظرا لتشابك العلاقات الصينية الامريكية يتوقع ان يؤدي تصعيد المواجهة التجارية  إلى تداعيات خطيرة على النمو الاقتصادي وتوليد الوظائف، كما يتوقع ان يلحق الضرر بشركات التصدير الأكثر عرضة لهذه الأزمة والاثر المتوقع سيطول شركات الأغذية والزراعة بشكل رئيسي ، ويمتد الى صناعة السيارات ثم قطاع الطيران ، وكذلك صناعة النسيج، وغيرها من القطاعات ذات الاهمية النسبية في التجارة البينية .

ويتوقع ان يكون الضرر الاكبر على الزراعة الامريكية ، اذ تعتبر الصين المشتري الاول للصويا الامريكية فقد استوردت منها ما قيمته 12 مليار دولار في 2017 اي نحو 30% من الانتاج، وهذا يعني ان المزارع الامريكي هو الاخر في خطر الحرب التجارية ، حيث يعاني هذا القطاع في السنوات الأخيرة من مجموعة مشكلات أبرزها الجفاف والمنافسة الشرسة ، حيث يتوقع ان تبلغ عائداته هذا العام أدنى مستوى منذ 2006.

العرب في الحرب التجارية

السؤال أين العرب من الحروب التجارية الدائرة ؟.. الإجابة هنا صعبة ، فهناك فرق في قواعد اللغة بين الفاعل والمفعول به .. ولا قدرة لدينا على مجاراة الكبار أو حتى الحصول على استثناءات منهم .. هي معركة “كسر عظم” بين الدول الغنية أو يسمى بالدول الصناعية الكبرى .. ونحن أسواق استهلاكية تستورد فضلات الكبار .. وندفع كل يوم فاتورة ضعفنا وفسادنا وعدم استغلالنا لثرواتنا الكامنة.

وتشير الارقام الصادرة أن الرسوم الامريكية سيكون أثرها متباينا على المنطقة العربية ، اذ يصل حجم المبادلات التجارية  بين الولايات المتحدة والعرب الى 106 مليارات دولار ، منها 69 مليارا صادرات امريكية ، وصادرات المنطقة تقارب 38 مليار دولار معظمها نفطية .  ويخشى ان تؤدي الحرب التجارية الى حدوث تباطؤ عالمي قد يخفض الطلب على النفط المصدر الرئيسي للدخل والمغذي لميزانيات الدول العربية، ما قد يتسبب في تعميق العجوزات المالية نتيجة الانخفاض المتوقع لأسعار الخام على المدى الطويل ، اذا ان الاسعار مرتبطة ارتباطا اساسيا بالعوامل الجيوسياسية ، والنمو الاقتصادي العالمي المغذي للطلب .  وقد نشهد ارتفاعا آنيا في أسعار النفط على المدى القصير مع تزايد المخاوف من الحمائية التجارية العالمية والانغلاق الامريكي ، لكن الاسعار على المدى الطويل مرشحة للإنخفاض نظرا لاختلالات متوقعة في معادلة الطلب وسط توقعات بتباطؤ قد يطول اسواق السلع الاولية والمعادن .

الخلاصة .. الصراع على سيادة العالم اقتصاديا لا يزال في بدايته .. وسيشهد فصولا مختلفة في استقطاباتها ، لكن اللافت تغير أدوات الحروب العالمية من استخدام الأسلحة التقليدية والعتاد العسكري إلى هيمنة العتاد الفكري والإداري والقانوني على علاقات الدول.. ولا خاسر في صراع المصنعين سوى المستهلكين.واذا ما استمرت الاستراتيجية الحمائية الامريكية على النحو الذي تعمل عليه ادارة دونالد ترامب  ، فان السمة الابرز للعقد القادم هي دخول الاقتصاد العالمي لحالة من الركود الذي سيؤثر ليس فقط على حركة التجارة الدولية وانما ابعد من ذلك نحو اعادة رسم خرائط  التحالفات الدولية وبداية تشكل نظام عالمي جديد .

*باحث اقتصادي مشارك

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.