هل تراجع شرط “التطبيع” في أولويات اتفاق أميركي سعودي عاجل؟

د.محمد قواص، مركز تقدم للسياسات

ورقة سياسات

ملخص تنفيذي

– يكشف إعلان واشنطن والرياض عن قرب إبرام اتفاق بينهما عن توصّل السعودية والولايات المتحدة إلى نقاط تفاهم تقريبية تنهي النزاع بشأن مطالب السعودية وشروطها المتعلّقة باتفاق أمني ومعاملة بالمثل كما دول الناتو وموقف الولايات المتحدة من البرنامج النووي السعودي للأغراض المدنية.
– بالنظر إلى تعقّد الحرب في غزّة وغياب آفاق لنهايتها، وبالنظر إلى غياب أي موقف إسرائيلي داعم لحلّ الدولتين، فالأرجح أن واشنطن والرياض قد يذهبان إلى إبرام اتفاق ثنائي بينهما من دون أن يكون مشروطا مسبقا بتطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية.
– قد تذهب واشنطن والرياض إلى الخروج باتفاق ينهي النزاع السابق بينهما بشأن مطالب السعودية ويبقي الباب مفتوحا لدول أخرى بما فيها إسرائيل للانضمام إلى الاتفاق، بمعنى أن الاتفاق سيكون قائما بدون أو مع إسرائيل.
– ليس واضحا ما إذا كانت السعودية ستبدي مرونة بشأن ما اشترطته سابقا بأن يكون الاتفاق ملزما من خلال معاهدة يصادق عليها الكونغرس، فيما تبحث واشنطن عن صيّغ قانونية أخرى مطمئنة للرياض.
– من شأن الاتفاق إشباع الحاجات والمطالب السعودية بشأن الأمن والدفاع والبرنامج النووي من جهة، وتحقيق المرشح بايدن إنجازا انتخابيا قبل أشهر من الانتخابات الرئاسية، وتمكّن الولايات المتحدة من وضع موانع جديدة أمام التمدد الاستراتيجي للصين في الشرق الأوسط.

تقديم:

أعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في 29 أبريل 2024، في أعقاب محادثات أجراها مع المسؤولين السعوديين، عن قرب التوصّل إلى اتفاقات ثنائية بين واشنطن والرياض من شأنها أيضا إبرام اتفاق لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل. وسبق لبلينكن وعدد من المسؤولين الأميركيين، لا سيما مستشار الأمن القومي جيك سوليفان وأعضاء في الكونغرس الأميركي، أن زاروا السعودية في أوقات مختلفة بغيّة رسم ملامح اتفاق بين الرياض وواشنطن كسبيل لاتفاق لتطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية. غير أن المقاربة الأميركية سجلت مؤخرا تحوّلا من حيث أن التطبيع بحدّ ذاته لم يعد شرطا وهدفا لإبرام الاتفاق الجديدة مع الرياض.

مطالب السعودية :

كانت وكالة رويترز قد نشرت تقريرا مفصلا في سبتمبر 2023 بشأن مطالب السعودية لإبرام اتفاق مع الولايات المتحدة يكون قاعدة لتطبيع محتمل للعلاقات مع إسرائيل. وكشفت مصادر أميركية في التقرير مطالبة السعودية باتفاق أمني استراتيجي يلزم الولايات المتحدة بالدفاع عن المملكة في حال تعرضها لأي خطر. وتحدثت المطالب السعودية عن شراكة مع الولايات المتحدة في بناء البرنامج النووي لأغراض مدنية.
وتطالب السعودية بأن يكون الاتفاق ملزماً على شكل معاهدة يصادق عليها الكونغرس بحيث لا يتمّ التراجع عنه بتغيّر إدارات البيت الأبيض. كما تطالب السعودية بشأن البرنامج النووي بأن يكون تخصيب اليورانيوم سياديا ويجري داخل المملكة غير مرتهن للسوق الخارجي.
وكانت مصادر أميركية قد توقّعت قبل أشهر بأن لا يرقى الاتفاق إلى مستوى الضمانات الدفاعية الصارمة على غرار حلف شمال الأطلسي التي سعت إليها المملكة، وأن الاتفاق قد يبدو مثل معاهدات أبرمتها الولايات المتحدة مع دول آسيوية، أو إذا لم يحظ بموافقة الكونغرس، فقد يكون مشابها للاتفاق مع البحرين التي تستضيف الأسطول الخامس للبحرية الأمركية حيث لا يحتاج مثل هذا النوع من الاتفاقات دعم الكونغرس.
لكن مصادر أميركية أكدت أن السعودية لن تقبل بأقل من ضمانات ملزمة للولايات المتحدة بحمايتها إذا تعرضت لهجوم، مثل ذلك الذي ضرب مواقعها النفطية بالصواريخ في 14 سبتمبر أيلول 2019 واتهمت حينها الرياض وواشنطن طهران،بشن هذه الضربات. وأبلغ مصدر في واشنطن رويترز أن ولي العهد السعودي طلب معاهدة على غرار تلك الخاصة بحلف شمال الأطلسي، لكن واشنطن مترددة في الوصول إلى حدّ الالتزام بمثل ما ينصّ عليه البند الخامس من اتفاقية حلف شمال الأطلسي ومفاده أن شنّ هجوم على أي عضو يعد هجوما على جميع الحلفاء.

اتفاقات من دون تطبيع:

لم تنفِ المنابر الرسمية السعودية قرب التوصل إلى اتفاق ثنائي سعودي أميركي. لكن ما صدر عن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان أثار مسألة نضج النقاش بشأن مجموعة من النقاط بما في ذلك مطالب السعودية لإبرام اتفاق استراتيجي مع الولايات المتحدة، من دون ربط هذا الاتفاق بمسألة تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
وظهر من خلال ما صدر عن وزيري خارجية البلدين أن إبرام اتفاق ثنائي يشمل قضايا الأمن والدفاع والاقتصاد بات أولوية ثنائية بعضّ النظر عن علاقة الأمر بالعلاقة السعودية مع إسرائيل. فيما قال وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان “إننا قريبون جدًا” من اكتمال الاتفاقات الأمريكية السعودية، فإنه شدّد على أن الطريق نحو إقامة دولة فلسطينية هو “المسار الوحيد الذي سينجح”. بالمقابل فإن وزير الخارجية الأميركي بلينكن أكد هذا التقارب، وأضاف “أنه من أجل المضي قدماً في التطبيع، ستكون هناك حاجة إلى أمرين: تهدئة في غزة ومسار موثوق به لإقامة دولة فلسطينية”. بما اعتُبر ملاقاة دقيقة لموقف نظيره السعودي.
وإذا ما تأكد مسار البلدين باتجاه توقيع اتفاق استراتيجي بينهما حتى لو لم تكن إمكانيات تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية مكتملة الشروط، فإن ذلك يعني أن واشنطن استشعرت ضرورة التوصل إلى اتفاق مع السعودية في سياق رؤيتها الاستراتيجية لمكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بما فيها مقاربتها لسبل ردّ المنافسة الصينية والروسية في المنطقة. وقد شكّلت رعاية بكين للاتفاق السعودي الإيراني في 10 مارس 2023 مفصل تحدٍّ لما يمكن أن يذهب إليه النفوذ الصيني في المنطقة وما يمكن لبكين أن تقيمه من تحالفات مع دول حليفة تقليديا مع الولايات المتحدة في المنطقة. بالمقابل فإن السعودية عملت على المحافظة على توازن في علاقاتها الدولية معوّلة على إمكانية إبرام الاتفاق الأمني المأمول مع اشنطن. فحتى حين قررت مجموعة “بريكس” في 24 أغسطس 2023 الموافقة على ضم 6 دول بما فيها السعودية إلى عضويتها، فإن الرياض ما زالت متريّثة في قبول العرض ولم تنضم حتى الآن إلى المجموعة.
وسبق للسعودية أن أكدت على لسان عدد من مسؤولي الصف الأول وخصوصا وزير الخارجية فيصل بن فرحان، وعلى لسان وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بصفته واجهة أولى للمؤسسة الملكية بعد الملك سلمان بن عبد العزيز، أن أكدوا انفتاح الرياض المبدئي على إبرام اتفاق لتطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية. غير أن الخطاب السعودي، وعلى الرغم من مرونته وظهور أعراض تواصل سعودي مع مسؤولين إسرائيليين في مناسبات أممية، بقي متمسّكاً بضرورة أن يسبق ذلك مسار جدي لا رجعة عنه يقود إلى تسوية سياسية لإقامة دولة فلسطينية.
وقد بدأ الخطاب السعودي في هذه المسألة يتسلل إلى الخطاب الدبلوماسي الأميركي الرسمي. وسبق لوزير الخارجية الأميركي أن أعلن في زيارات سابقة للرياض أن السعودية، وعلى الرغم من التطوّر الدراماتيكي الذي شهدته المنطقة منذ عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس في 7 اكتوبر 2023، ما زالت منفتحة على إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل شرط الشروع بمسار تسوية لتطبيق حلّ الدولتين وإقامة دولة فلسطينية.

التطبيع والدولة الفلسطينية:

استخدمت إدارة الرئيس الأميركي الديمقراطي جو بايدن آلية احتمالات التطبيع في الخطابين السعودي والأميركي لإقناع حكومة بنيامين نتنياهو في إسرائيل في مرحلة أولى بخفض التصعيد في غزّة وحماية المدنين، ثم في المرحلة الحالية إلى إبرام صفقة مع حركة “حماس” لتبادل الأسرى وتثبيت هدنة قد تفضي إلى وقف نهائي لإطلاق النار.
ويمكن ملاحظة تحوّل ملحوظ في الموقف الأميركي من الاتفاق الثنائي السعودي الأميركي الاستراتيجي في ضوء ظهور أعراض مستمرة لخلاف بين حكومة نتنياهو وإدارة بايدن. ففيما تملي الضغوط الداخلية الرسمية والطلابية المناهضة للحرب في غزّة داخل الولايات المتحدة مواقف جديدة لواشنطن، فإن ضرورات حملة الرئيس الأميركي للانتخابات الرئاسية التي ستجري في 5 نوفمبر 2024 تفرض على إدارته اتخاذ مواقف ترضي شرائح ناخبة، لا سيما لدى مجتمع الأقليات، بما في ذلك المسلمة، والجناح التقدمي داخل الحزب الديمقراطي. ويشي هذا التحوّل، بما فُهم من زيارة بلينكن الأخيرة للسعودية، بأن الرابط بين اتفاق الدولتين وعلاقة سعودية مع إسرائيل بات عرضا واحتمالا وطموحا من الجانب الأميركي وليس شرطا بنيويا لتطوّر نوعي بهذا المستوى بين واشنطن والرياض.
ويمكن هنا ملاحظة نسخات شبه متطابقة في تصريحات وزيري خارجية السعودية والولايات المتحدة من حيث أن تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية يحتاج إلى إنجاز ملف تسوية سياسية تقود إلى إقامة دولة فلسطينية. ويحرص الخطابان على عدم الخوض في التفاصيل القانونية لتلك الدولة، ما يجعل الأمر مناطا ضمنا بمفاوضات تجري بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي من دون استبعاد مظلة أممية أو دولية متعددة الجنسيات ضاغطة وحاضنة.
وتظهر هذه المرونة بشكل أوضح في ما يرّدده المسؤولون السعوديون بشأن الدولة الفلسطينية من دون اشتراط أن تكون هذه الدولة متطابقة مع ما ورد في مبادرة الملك عبد الله بن عبد عزيز للسلام التي صدرت عام 2002 والتي ما زالت تؤسّس حتى الآن للموقف السعودي الرسمي بشأن القضية الفلسطينية والصراع في الشرق الأوسط.
وتقوم مبادرة الملك عبد الله الثاني على بنود عديدة وفق “معادلة الأرض مقابل السلام”. وتشترط المبادرة تسوية سياسية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وفق القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي تفضي إلى قيام دولة فلسطينية على حدود 4 يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. وقد تحلّت المبادرة السعودية لاحقا بشرعية عربية شاملة حين تمّ تبنيها في مؤتمر القمّة العربية في بيروت في عام 2002 وتحوّلت إلى ما بات يُعرف بـ “المبادرة العربية للسلام.
ومع ذلك فإن السعودية انتهجت براغماتية مع نجاح الولايات المتحدة منذ عام 2020 في إبرام الاتفاقات الإبراهيمية التي نصّت تباعا على تطبيع لعلاقات الإمارات والبحرين والمغرب والسودان مع إسرائيل. وتقوم هذه البراغماتية على التعبير عن موقف مرحب وإيجابي مع هذه الاتفاقات. كما فتحت السعودية أجواءها أمام الرحلات التجارية الإسرائيلية عام 2022، من “دون أن يكون هذا التطور مقدمة لخطوات أخرى تجاه تطبيع العلاقات مع إسرائيل ولا يغير من موقف المملكة تجاه القضية الفلسطينية”، وفق كلمة القائم بالأعمال بالإنابة في وفد السعودية لدى الأمم المتحدة، محمد العتيق، في يوليو 2022 أمام مجلس الأمن.

خلاصة واستنتاجات:

*فرضت الظروف الجيوسياسية التي طرأت على المنطقة منذ 7 اكتوبر 2023 وما تلا ذلك من حرب في غزّة وتوتّر مقلق في الشرق الأوسط، إلى تسريع واشنطن لوتيرة جهودها من أجل إبرام اتفاقات مع السعودية. وتسعى واشنطن إلى التخفيف من اندفاع السعودية باتجاه الصين وروسيا وخيارات شرقية أخرى.
*على الرغم من إبلاغ الولايات المتحدة إسرائيل باستمرار السعودية في الانفتاح على إمكانية علاقات مع إسرائيل، إلا أن الرياض لم تغيّر خطابها بشأن اشتراط قيام مسار سياسي لا رجعة فيه لإقامة دولة فلسطينية.
*بالنظر إلى غياب تيارات إسرائيلية وازنة تدعم مسار قيام دولة فلسطينية، وبالنظر إلى تفاقم الخلافات بين حكومة بنيامين نتنياهو وإدارة الرئيس جو بايدن، فإن واشنطن تدفع باتجاه إبرام اتفاق ثنائي مع السعودية حتى إذا لم تتوفّر شروط قيام علاقات طبيعية بين السعودية وإسرائيل.
*كشفت مواقف السعودية عن توجّه باتجاه تحالفات مع روسيا والصين من دون أن يرقى الأمر إلى نقطة اللارجوع مع الولايات المتحدة. دليل ذلك عدم انضمام السعودية إلى مجموعة “بريكس” حتى الآن على الرغم من قرار المجموعة الموافقة على عضوية عدة دول منها السعودية في أغسطس 2023.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.