موجة اليمين الشعبوي في بريطانيا بين التمدد والانكسار

مركز التقدم العربي للسياسات

موجة اليمين الشعبوي في بريطانيا بين التمدد والانكسار

ملخص تنفيذي:

يعد وصول بوريس جونسون الى رئاسة الحكومة تتويجا لصعود اليمين القومي شعبوي في بريطانيا. وصل جونسون الى الحكم محمولا على عربة خطاب شعبوي يميني يستهدف المهاجرين بداية ولا ينتهي بتصعيد اللهجة ضد المسلمين، وعلى خلفية أزمة قيادة داخل حزب المحافظين الحاكم وتصاعد لموجة اليمين الشعبوي عالميا. العنوان الأبرز للازمة السياسية التي تعيشها البلاد تعود في جوهرها الى الموقف من الخروج من الاتحاد الاوروبي، والاستقطاب السياسي بات حادا منذ الاستفتاء العام، حين رجحت كفة الانفصاليين عن أوروبا بنسبة لا تتجاوز ٣ بالمئة. لكن الانقسام تحول الى شرخ عمودي وأفقي في المجتمع البريطاني ، إذ تخندق اليمين القومي الشوفيني والانعزالي في مواجهة غالبية القوى الليبرالية والاجتماعية الديمقراطية .

ظهرت الملامح الواضحة لتصاعد موجة اليمين الشعبوي في بريطانيا خلال حملة التصويت على استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي في 2016، حيث اعتمد دعاة الخروج على مجموعة من الشعارات الشعبوية اليمينية التي ركزت على تعزيز الشعور الوطني البريطاني واستعادة استقلال بريطانيا المنقوص من مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وعلى العداء للمهاجرين، وترحيل الكثير من النكسات الاقتصادية وسياسة التقشف الحكومي على فشل المشروع الأوروبي الذي فرض على بريطانيا استقبال المهاجرين الأوروبيين دون قيود. على المقلب الاخر، نمت الكثير من الظواهر العنصرية ضد المهاجرين، بحيث ارتفعت جرائم الكراهية ضد غير البريطانيين بشكل كبير نتيجة للخطاب الذي استخدمه قادة حملة الخروج من الاتحاد. أنتج هذا ارتفاعا يقارب 200% بعد التصويت لصالح الخروج في عدد الجرائم المسجلة والموجهة ضد المهاجرين، أوروبيين وغيرهم. بوريس جونسون الذي تبنى حملة الخروج وكان أحد اهم اعمدتها استند الى خطاب شعبوي مسنود بالكثير من الاحصائيات والأرقام التي ثبت خطؤها مع الوقت، ولكنها كانت تهدف الى استقطاب أكبر عدد من المصوتين لصالح خيار الخروج، وخصوصا من القاعدة العريضة لحزب المحافظين.

جونسون: عين على الحاضنة اليمينية

العداء للغرباء، استعادة السيادة، معاداة مؤسسات الاتحاد الأوروبي، إستعادة عناصر قوة الاقتصاد البريطاني، وغيرها من الشعارات التي يستخدمها جونسون ومن خلفه جناح واسع من اليمين البريطاني كحزب نايجل فراج Brexit) ). يمكن بسهولة رصدها في قاموس القيادة الحزبية والمجلس الوزاري المصغر مثل: الخيانة، الاستسلام، والجبن في وصف المخالفين لهم وخصوصا في حزب المعارضة الرئيس (حزب العمال) او غيرهم ممن يعترضون على الخروج من الاتحاد الأوروبي بدون صفقة. وتصل اللغة التصعيدية الى درجة اتهام المعارضين في وطنيتهم واخلاصهم للدولة. يميل كثير من المراقبين الى أن الخطابات والتصريحات التي تصدر عن جونسون ما هي الا أداة تحريض وتحشيد تستهدف قاعدته الانتخابية من حزب المحافظين التي حملته الى رئاسة الحزب والحكومة، وهي ذاتها التي تتبنى رؤية جونسون في الخروج من الاتحاد لأوروبي بأي ثمن. هنا برزت وفي سابقة غير مألوفة على الديمقراطية البريطانية، أصوات وازنة في الحزب تؤيد خرق القانون الذي أصدره البرلمان ويقضي بعدم الخروج من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق. إذا يفهم من ذلك بأن جونسون ووزراءه يغازلون أعضاء الحزب ويحاولون ارضاءهم على حساب مصالح الدولة واستقرار النظام البرلماني والقانوني. وقد تعدت اللغة الشعبوية التي تستخدمها حكومة جونسون كل ما تم التعارف عليه في النقاش السياسي، لدرجة تخيير المعارضين للخروج بين تغيير آرائهم او مواجهة مصيرهم في الموت كما حصل مع احدى برلمانيات حزب العمال (جو كوكس) التي اغتيلت على يد احد المتطرفين لمشاركتها في حملة بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.

الدوافع؟

يبدو ان جونسون على قناعة من أن استخدام الخطاب الشعبوي سيظهره كقائد ذو كاريزما وقادر على تحقيق الوعود الانتخابية التي قدمها لجمهور اليمين وحزب المحافظين، مع حرصه الشديد على الظهور بمظهر رئيس الوزراء القوي الذي لا يأبه بقرارات البرلمان، على اعتبار انه يقف في صف الجمهور في مواجهة هذا البرلمان الذي يحاول ان يقف حائلا دون تحقيق رغبة المصوتين على الخروج. واكثر من ذلك، فانه يتجه بشكل مباشر الى تغيير المفاهيم الديمقراطية التي يقوم عليها النظام البريطاني برمته تاريخيا والتي يكون فيها البرلمان هو صاحب السيادة. فعلى الرغم من انه خسر المعركة القضائية التي قضت بعدم قانونية تعليقه للبرلمان، الا انه أوحى وفي كثير من خطاباته الى انه لا يتفق مع القرار القضائي. يضاف ذلك الى اعتبار أعضاء من مجلس وزرائه المصغر القرار القضائي انقلابا دستوريا، في اتهام واضح بتسييس الجهاز القضائي وخصوصا المحكمة الدستورية العليا التي اتخذت القرار. فالتشكيك بنزاهة وحيادية الجهاز القضائي يعد سابقة لم تحدث قبل وصول جونسون وطاقمه الى رئاسة الحكومة. المحصلة تفضي الى تحريض الجمهور على عدم الثقة بالجهاز القضائي والطعن بحياديته كجزء من الحملة على مؤسسات الدولة واتهامها بمعاداة الجمهور والمصالح العامة للشعب البريطاني. يشعر جونسون بان كل الأوراق التي كان يؤمل نفسه بقوتها قد فقدت رونقها وتأثيرها في التعامل مع ازمة الخروج من الاتحاد الأوروبي، مع تراجع واضح للثقة الشعبية التي كان يعول عليها عند توليه لرئاسة الحكومة، وخسارات متلاحقة في التصويت البرلماني. يطرح جونسون ووزرائه أنفسهم كمدافعين شرسين عن الغالبية البسيطة التي صوتت لصالح الخروج من الاتحاد، بل ويذهبون ابعد من ذلك، بالقول إنهم الوحيدون القادرون على فعل ذلك وخصوصا في الوقوف امام “المعارضة الخائنة”.

 

 

السياسة الهجومية او حافة الهاوية تنطبق أيضا على اللغة المستخدمة ضد مؤسسات الاتحاد الأوروبي التي يسعى جونسون الى تحريض الجمهور البريطاني عليها من خلال اتهامها المباشر بالقيام بتعطيل أي اتفاقية بين الاتحاد والمملكة المتحدة للخروج الآمن من الاتحاد. بل وان كثيرا من المراقبين يتهمون جونسون بالتخطيط المتعمد لإظهار مؤسسات الاتحاد وكأنها تتعمد عدم إعطاء الفرصة الكافية لحكومته للقيام بمهامها في الوصول الى اتفاق. وقد ينطبق ذلك على الاتهامات التي ساقتها حكومة جونسون ضد المعارضة في البرلمان في انها تآمرت مع الاتحاد الأوروبي على صياغة القانون الذي يحظر على جونسون الخروج من الاتحاد دون التوصل الى اتفاق تفصيلي وواضح مع مؤسسات الاتحاد .بهذا الخطاب التحريضي والاستفزازي ضد الاتحاد الأوروبي ومؤسساته ، يضمن جونسون قطع الطريق على اية مساومة او خطوات تفاوضية مستقبلية ، بل ويساهم في تسريع الموقف الجماعي الاوروبي الذي يستعجل اخراج بريطانيا من منظومة الاتحاد المالية والاقتصادية .

ويميل مراقبون للمشهد السياسي البريطاني الى ان دوافع جونسون واستراتيجية حافة الهاوية والتوتير الدائم مع مختلف الدوائر السياسية بما في ذلك قطاعات داخل حزبه ، تستهدف بالدرجة الاولى محاصرة المنافس اليميني الاخر ، ناجل فراج ، الذي تشير استطلاعات الراي الى ان أي مساومة او تراجع من قبل بوريس جونسون عن فكرة الخروج من الاتحاد الاوروبي  ستصب في صالح صاحب فكرة الانعزال الأصلي وتيار اليمين القومي البريطاني ، والذي بات امتدادا لتيار اليمين العالمي الممتد من دونالد ترامب في الولايات المتحدة الى فاشيات أمريكا اللاتينية وصولا الى اليمين الشعبوي  في المجر وبولندا وإيطاليا وألمانيا. يعتقد جونسون بأنه بهذا التكتيك يواجه التقدم الذي يحرزه حزب العمال وزعيمه جيرمي كوربين والأحزاب الليبرالية الأخرى في استطلاعات الراي الدورية. بهذا التكتيك كأداة أخيرة في جعبته للحفاظ على منصبه كرئيس للوزراء وربما لإبقاء حزب المحافظين في السلطة، لم يعد امامه غير الذهاب في التحريض الانعزالي الى مداه الأخير ضد نصف المجتمع وتعبيراته السياسية.

 

الخلاصة:

صحيح ان الخطاب اليميني الشعبوي المتطرف في بريطانيا قد انتعش على وقع الجدل المحتدم حول خروج بريطانيا او بقائها في الاتحاد الأوروبي، الا أن معظم المؤشرات واستطلاعات الرأي التي تم رصدها مؤخرا تفيد بأن الموجة الشعبوية المحمولة على خشبة الخروج من عدمه في طريقها الى الانكسار، يأتي ذلك في ظل انخفاض التأييد الشعبي لخطوة الخروج بدون اتفاق وكذلك هبوط الثقة الشعبية بجونسون كرئيس للوزراء قادر على اخراج بريطانيا من أزمتها المتفاقمة على كافة المستويات. كما ان فشل جونسون في إخراج حزب المحافظين من أزمته سيؤدي حتما الى خسارة المنظومة الشعبوية اليمينية في الشارع. يستتبع ذلك انخفاضا تدريجيا في القدرة على التحريض اليميني بسبب فقدانه لحاضنة رسمية مما قد يقلل من أهمية وجاهزية بقية المنصات الفرعية في استخدام هذا النوع من الخطاب. ولعل الازمة التي يعيشها المركز الأمريكي بفعل سياسيات إدارة الرئيس ترامب ، والتي فتحت معارك اقتصادية وسياسية كبرى مع كل العالم بما فيها اقرب الحلفاء التقليديين ، تساهم في مفاقمة ازمة اليمين البريطاني بزعامة جونسون ، وتضعف من قدرته على وقف زحف تيار الديمقراطية الاجتماعية نحو السلطة بقيادة  زعيم حزب العمال جيرمي كوربين . في كل الأحوال ستكشف الانتخابات المفاجئة التي اقرها البرلمان في الثاني عشر من ديسمبر، موازين القوى الجديدة بعد موجة عالية من الاستقطاب عنوانها الأبرز مستقبل بريطانيا في اطار المنظومة الاوروبية ام خارجها متذيلا للولايات المتحدة .

 

 

 

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.