الحركة الكردية في سوريا وماراتون السلطة

*شيار خليل

يقول بعض المنظرين السياسيين العرب “أنه من الطبيعي أن تتقوقع الأقليات القومية والدينية حول نفسها وتنحاز بنفس الوقت للأنظمة التي قمعت الربيع العربي في المنطقة”، ذلك خوفاً على مستقبلها والإفرازات الجديدة لهذه الحركات التي ستطرح شيئا جديداً يمكن أن لا يناسب طموحاتهم الدينية أو القومية.

ويسقط أغلب المهتمين بالشأن السوري بشكل خاص هذه النظرية أو الرؤية على الواقع الكردي في سوريا، إلى أن العودة قليلاً للخلف، والتعمق أكثر في حالة الحركة الكردية بداية الثورة السورية سيضعنا أمام تساؤلات كثيرة، منها:

-لما لم يكن الصوت الشبابي الكردي طاغياً في الشارع الكردي، رغم مناصرتهم الواضحة للثورة السورية في البدايات وتشكيلهم لأغلب اللجان المؤسسة للحراك في سوريا؟.

قمع الحريات والحظر المفروض على الحقوق المدنية والسياسية والثقافية، إلى جانب قضية المكتومين الكرد المحرومين من الجنسية السورية، بالتزامن مع المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن توزيع الأراضي الكردية على بعض العشائر العربية في المنطقة “العرب الغمر” كانت كلها كفيلة بأن يكون هناك وعي كردي شبابي لمناهضة الأسد والانضمام للحراك السوري كباقي المناطق الأخرى.

لم تكن الحركة الكردية السورية أو الأحزاب الكردية الرئيسية لها دور أساسي في البدايات لمناصرة الثورة السورية، في حين أثارت اللجان المدنية الشبابية والجمعيات الأهلية التي شكلت من قبل الشباب الكردي جدالاً واسعاً بدخول الكرد على نفس خط التماس مع النظام السوري، من خلال المظاهرات والنشاطات السياسية التي أقيمت في القامشلي وكوباني ونوعاً ما في عفرين. إن تشكيل تلك الكتل بأرضية شبابية بحتة، مع وجود ضئيل لبعض القادة الكرد السياسيين الذين حاولوا أن يناصروا الشباب في آمالهم وطموحاتهم السياسية والمدنية، مهد الطريق للأحزاب الكردية المنغلقة على نفسها بالتفكير ملياً في خوض ذلك الحراك من عدمه.

تقاعس الأحزاب الكردية الأساسية والرئيسية عن ممارسة دورها بالوقوف مع الثورة السورية في البداية، فتح الطريق أمام الشباب للتنظيم والحشد المدني بعيداً عن كيان سياسي ما، ما فتح الطريق لنبضات أولى بين الكرد والعرب السوريين لتكون القاسم المشترك بينهم لمواجهة ديكتاتور سوريا، حلب ونقاباتها وجامعاتها كان للشباب الكردي دور أساسي فيها بتوسيع رقعة الحراك ووصوله إلى المناطق الكردية لتشكيل التنسيقيات الشبابية التي مهدت الطريق أمام فتح جمعيات ومنصات مدنية مناصرة للثورة.

حيث نظمت هذه المنصات المدنية والتنسيقيات الشبابية مظاهرات يوم الجمعة التي عرفت على مستوى سوريا في كل المناطق وبتواصل وترتيب سري مع التنسيقيات السورية في باقي المناطق المنضمة للحراك الثوري، إضافة للمهرجانات الخطابية والشبابية في المناطق الكردية والتي ساهم فيها أحد المناضلين الكرد “مشعل تمو” الذي اغتيل على خلفية مساندته  لثورة الشباب بالتوازي مع خصوصيته الكردية والإجماع السوري حول وطنيته، حيث كان لهذه القامة الكردية الوطنية دور كبير في تقارب وجهات النظر الكردية العربي سياسياً على المستوى الشعبي بشكل خاص.

هذا الانتشار الجغرافي والفكري السياسي للشباب وتزامنه بوعي حداثوي شبابي في فهمه للقضية الوطنية التي تحافظ على الخصوصية القومية دفع الكثير من الأحزاب الكردية المنضوية حالياً ضمن كتل المعارضة السورية بعرقلة المشروع الشبابي الثوري وانتهاك خصوصيتهم المدنية. فكانت جمعة “آزادي” التي سميت في كل سوريا تعبيراً عن التضامن العربي الكردي العقبة الأولى لاجتياز حاجز الخوف من أدلجة هذه الثورة وتغيير مسارها. في حين كان النظام السوري حريصاً جداً على عدم الخوض في عراك عسكري أو أي اصطدام مع المتظاهرين المطالبين بإسقاطه في المناطق الكردية، علماً أن العلنية في تشكيل تلك التنسيقيات والكتل باتت واضحة بشكل كبير إلى حين انضمام بعض الأحزاب الكردية السياسية في حراكهم وقيام البعض الآخر بعرقلة مشاريعهم وأحياناً بالهجوم عليهم وقمع مظاهراتهم من قبل بعض الأعضاء الذين ينتمون الآن ضمن كتل المعارضة السورية السياسية .

العسكرة وقلب طاولة السلمية 

امتد هذا الحراك وتطور ولم يقترب النظام منه بالتوازي مع قمه للمظاهرات في جامعات وكليات حمص وحلب، كمية الانتهاكات والاعتقالات التي تسبب بها النظام السوري في المناطق الأخرى وقيامهم باعتقال شخصيات كردية شبابية كان كفيلاً بأن مشروعاً ما يحاك للكرد في سوريا وبكل تأكيد بموافقة ومباركة من قبل كتلة كردية ما وضحت معالمها فيما بعد من خلال مشروعها المتعاون والموازي لمشاريع الأسد ضد الكرد في المنطقة.

إلا أن تطور الأحداث بسرعة وتحويل الشارع السلمي من قبل النظام إلى عسكرته بسرعة دفع الاحتجاجات السلمية تأخذ طابعاً مغايراً، حيث مهد الفراغ الأمني في المناطق الكردية بعد مهاجمة المخافر والمراكز الأمنية في النواحي والقرى بداية لتشكيل كتل عسكرية مسلحة،

فكان حزب العمل الكردستاني مبادراً لتشكيل تلك المجموعات ورعايتها تحت أسماء مغايرة، وتحويل تلك الكتل لقمع التنسيقيات والمجموعات الشبابية التي شكلت في بداية الثورة وطالبت بإسقاط النظام السوري، حيث بات مشروع هذه الكتل العسكرية السياسية الحفاظ على مناطقها “الكردية” تحت حجة حمايتها وعدم تعرضها للخراب والدمار، وبالتالي دخول الحراك في عموم سوريا والمناطق الكردية نوعاً جديداً لتلك التي خرجت من أجلها في البدايات. وبكل تأكيد كان لقيام بعض الأطراف السورية المعارضة “الإخوان” بهجومها على المناطق الكردية مثل “رأس العين” سبباً كافياً بإعطاء الشرعية من قبل المدنيين لدفاع طرف كردي عن وجودهم.

عودة العلاقات بين العمال الكردستاني والأسد

الإدارة والنفوذ كانت السمة الأساسية –حسب الخبراء- للعروض التي قدمت للعمال الكردستاني من قبل النظام، فسعى النظام السوري بانسحابه من بعض المناطق الكردية وتجميع قواه فقط في المربع الأمني بقامشلي، وتسليم كافة الدوائر الرسمية فيما بعد بشكل سري للعمال الكردستاني إلى تأطير هذا النفوذ وإعطاءه طابعاً فيدرالياً مشرعاً من قبل السلطة الحاكمة في دمشق وبموافقة ضمنية من القوى الدولية المشاركة مع النظام في الصراع بسوريا.

إلا أن الكردستاني لم يقم فقط بقمع شباب التنسيقيات والقضاء على شبابها، بل حاولت العمل على مسح الطابع الثوري لتلك المناطق بحجة عدم كرديتها وانتمائها لإخوان المسلمين والمشروع التركي ضد الكرد كما لاحقت أغلب شبابها، واُتُهِمَت فيما بعد من قبل الناشطين الكرد وبعض الأحزاب السياسية الكردية باغتيال “مشعل تمو” واعتقال بعض الرموز الشبابية الأخرى المشاركة في الحراك الثوري السوري كردياً.

إذاً الحياد السلبي الواضح والعنف الحزبوي الواحد كان سمة من سمات حكم العمال الكردستاني وتفرعاته السورية السياسية والعسكرية في المناطق الكردية طيلة كل هذه الأعوام، وليصبح كما يرغب النظام السوري حزب العمال القوة الكردية الوحيدة التي تمثل الكرد في سوريا سياسياً وعسكرياً، ويبدو هذا جلياً وواضحاً للجميع حتى على مستوى الخطابات السياسية الدولية الخاصة بالشأن السوري مؤخراً، وبالتالي هي من تقرر مصير الكرد في المنطقة وتقود دفة القتال العسكري بمباركة دولية.

مساعي البرزاني لتوحيد الكرد سورياً

اتفاقية هولير كانت البذرة الوحيدة لتشكيل أرضية كردية وطنية داخل سوريا وبمساعي من رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني، حيث تم توقيع اتفاقية بين كلا الطرفين الكرديين المتنافسين والمتصارعين على السلطة في تلك المناطق (مجلس الشعب لغربي كردستان والمجلس الوطني الكردي في سوريا)، من سماتها آنذاك بلورة مشروع سياسي موحد يرتكز على الثوابت الوطنية والقومية للشعب الكردي في سوريا والعمل مع جميع مكونات الشعب السوري من أجل إسقاط النظام القمعي الاستبدادي الذي أوصل البلاد إلى مستنقع الحرب الأهلية، وبناء سوريا ديمقراطية وفق دستور جديد يقر بالتعدد القومي والإقرار الدستوري بالشعب الكردي وبحقوقه القومية حسب العهود والمواثيق الدولية وحل القضية الكردية في إطار اللامركزية السياسية وإلغاء كافة القوانين والمراسيم الاستثنائية العنصرية وإزالة آثارها وتعويض المتضررين. وبناءً على تلك الوثيقة التي عرفت بـ “اتفاقية هولير” في 10/07/2012  تمخض عنها هيئة سميت بـ”الهيئة الكردية العليا”،

وبموجب الاتفاقية يتم اعتماد الوثيقة من قبل الطرفين الكرديين والبناء عليها وتفعيل البنود الواردة فيها ووضع الآليات اللازمة لتنفيذها، ومنها:

-تشكيل هيئة عليا مشتركة (الهيئة الكردية العليا)، مهمتها رسم السياسة العامة وقيادة الحراك الكردي في هذه المرحلة المصيرية، واعتماد مبدأ المناصفة في هيكلية كافة اللجان والتوافق في اتخاذ القرارات.

– تشكيل ثلاث لجان تخصصية لمتابعة العمل الميداني.

– التأكيد على وقف الحملات الإعلامية بكافة أشكالها.

– تحريم العنف ونبذ كافة الممارسات التي تؤدي إلى توتر الأجواء في المناطق الكردية.

– اعتماد اللائحة الداخلية الملحقة بوثيقة هولير التي تتضمن آليات العمل.

– تشكيل اللجان خلال أسبوعين من تاريخ التوقيع على الاتفاق.

إلا أن الاحتقان “السياسي الفكري” المناقض لبعضهما البعض، والتجاوزات السياسية التي حدثت لنص الاتفاقية والبيان من الطرفين، جعل حالة الطلاق السياسي كفيلاً بشق الصف مرة أخرى، وفشل مشروع الهيئة الكردية العليا، التي كان لحزب العمال الكردستاني الدور الأكبر للسعي بتفشيل تلك الخطوة بالتوزاي مع ركاكة المجلس الكردي وضعفه سياسياً.

فكانت لتلك السقطة السياسية كردياً أثراً واضحاً على الشأن السوري بشكل عام، حيث لم يستطع المجلس الوطني السوري المعارض آنذاك من ضم العمال الكردستاني لصفوفه مع بعض الأحزاب الكردية السياسية الأخرى، في حين بقي المجلس الوطني الكردي شريكاً للوطني السوري في كافة مراحله السياسية اللاحقة ليعاني الأول من انتهاكات ضده في المناطق الكردية من النظام السوري والإدارة الذاتية التي تشكلت لاحقاً من قبل العمال الكردستاني.

جميع هذه المراحل المتتالية سياسياً وعسكرياً وتحديداً بعد محاربة العمال الكردستاني تحت تشكيلات متغيرة آخرها “قوات سوريا الديمقراطية” للتنظيمات الإسلامية في الشمال والشرق السوري دفعت القاعدة الجماهيرية والشعبية تعطي الشرعية لسلطتها التي منحتها بالقوة من القوى السياسية والشبابية في المنطقة، لتعلن هي عن مشروع فيدرالية أحادية الجانب في منتصف الشهر الثالث من عام 2013 ولتضم لاحقاً ضمن صفوفها بعض القوى السياسية والعشائر العربية المتحالفة معها، حيث باتت هذه الإدارة الصوت الأعلى والمتحدث الوحيد باسم المنطقة الكردية في ظل تواجد قيادات من المجلس الوطني الكردي في مناطق سيطرتها وتعرضهم لانتهاكات جمة من قبلهم بالتزامن مع استمرارهم لمتابعة أنشطتهم الحزبية.

تهجير الشباب الكردي وتحريض الأطراف ضد بعضها

عمد النظام السوري في عدم خوض معارك عسكرية مع المكون الكردي في المناطق الكردية في سوريا، بالتزامن مع دمويته في قمع أية احتجاجات أو تظاهرات مناهضة له في باقي المناطق السورية، بالتزامن مع تكليفه للعمال الكردستاني ليكون المسيطر على المنطقة الكردية، وليضعف كل الحركات السياسية الثورية، والمدنية الشبابية الكردية الأخرى في المنطقة، في حين تم تهجير النسبة الأكبر من الشباب الكردي المثقف باتجاه أوروبا كما حال المناطق الأخرى ليفرغ الساحة لمسيطر وحيد متحالف نوعاً ما مع منهجيته التي يعمل عليها منذ عشرات الأعوام. ولعل ذلك كان جلياً وواضحاً بالوقت الذي تعرض فيه العمال الكردستاني في عفرين لهجمة تركية شرسة، وعدم تدخل القوات السورية النظامية التابعة للأسد للوقوف مع حليفها الكردي، وانسحاب الروس من المنطقة لصالح التدخل التركي، وبالتالي جعل شباب الكرد ضحية للمصالح الدولية المتبادلة بصمت أسدي واضح. والقضاء على الفكري المؤسساتي الشبابي القائم على أسس وطنية قومية قانونية تستمد شرعيتها من الشارع ومن القوانين الدولية التي تحكم طبيعة العمل والدفاع عن قضية شعب على أرضه التاريخية بالتوازي مع العيش المشترك مع الآخر المختلف قومياً.

الخلاصة:

العوامل الموضوعية للأحزاب والكتل الكردية التي كانت تقنع نفسها بها من التريث للانضمام إلى المعارضة السورية بعد ضمان حقوقها الحزبية والقومية، والتفكير بضرورة المطالبة بإسقاط الأسد من عدمه، بجانب ابتعاد تلك الأحزاب عن التجمعات الشبابية وتفشيلها وعرقلة عملها، والخطاب الحزبوي المركزي المعتمد على إقصاء الأطراف الأخرى، والوقوع في مسألة الاقتتال السياسي الكردي الواحد بعيداً عن المسألة العمومية الخاصة بالوجود الكردي في سوريا سياسياً واجتماعياً وثقافياً، إضافة للازدواجية الانتمائية القومية-الوطنية لدى أغلب هذه الأحزاب؛ جميعها كانت سبباً لعرقلة المشروع الكردي وخوضه أشواطاً من الصراعات الداخلية والخارجية وعدم توفر كتلة واحدة تمثل كرد سوريا قومياً ووطنياً، وخوض ماراتونٍ كردي داخل الحلبة الكردية الواحدة وبالتالي التقوقع وسط مشاكل البيت الكردي الواحد.

بالتزامن مع ارتباط هذه الأحزاب ومشاريعها القومية والوطنية بالأطراف الكردستانية في تركيا والعراق وممارستها نفس المنهج والخطة السياسية الحزبوية بعيداً عن الخصوصية الكردية لكرد سوريا، ووضع خريطة سياسية واحدة تمثل آمال هؤلاء وطموحاتهم في نيلهم على الحقوق الكاملة ضمن القوانين والأسس والقواعد الدولية والإنسانية.

*باحث مشارك فى مركز التقدم العربى للسياسات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.