أزمة الخروج من الاتحاد الأوربي تتفاقم : خيارات جونسون تهدد وحدة الاتحاد البريطاني د. نهاد خنفر

أزمة الخروج من الاتحاد الأوربي تتفاقم

خيارات جونسون تهدد وحدة الاتحاد البريطاني

د. نهاد خنفر

ملخص تنفيذي

فرض الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الاوروبي في عام 2016 اجندة سياسية جديدة لم تكن ابدا في حسبان صانع القرار السياسي عندما تم التوافق عليه. جاء تنظيم الاستفتاء لتفويت الفرصة على الأصوات اليمينية المتطرفة في استخدام العلاقة الملتبسة  مع الاتحاد الأوروبي في تجنيد واستقطاب الناخبين البريطانيين، مما قد يؤثر على حزب المحافظين الحاكم. جاءت نتائج الاستفتاء مخالفة لحسابات زعامة حزب المحافظين التي انحصرت فيها التوقعات على التصويت بالبقاء. وفي ظل هذا الواقع، سيطرت اجندة الخروج وشكله وترتيباته واثاره من الاتحاد الأوروبي على مجمل الجدل السياسي في بريطانيا. جل الخيارات المطروحة الان للتعامل مع هذه الازمة باتت تشكل صداعا سياسيا واقتصاديا يضغط بقوة على كافة مناحي الحياة في بريطانيا.

مقدمة

 تواجه المؤسسة السياسية البريطانية ازمة عميقة منذ تنظيم الاستفتاء الشعبي على خروج بريطانيا او بقائها في الاتحاد الأوروبي عام 2016. أزمة أطاحت برئيسي وزراء عن حزب المحافظين (ديفيد كاميرون) الذي استقال أثر تصويت البريطانيين على الخروج من الاتحاد برغم الفارق البسيط الذي رجح كفة المؤيدين. وتوالى مسلسل الإطاحة ليطال (تيريزا ماي) التي تولت مقاليد الأمور مباشرة بعد كاميرون واعدة بتحقيق مطالب الناخب البريطاني للخروج من الاتحاد. ادارت تيريزا ماي مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي في محاولة للخروج من الاتحاد بترتيب متفق عليه، للتخفيف من الاثار السلبية التي قد تنتج عن الخروج بدون اتفاق بما فيها تهديد وحدة الاتحاد البريطاني.

فشلت محاولات تيريزا ماي في تحقيق اتفاق يرضي أعضاء البرلمان البريطاني، الذين صوتوا تباعا على رفض مقترحاتها مرة تلو أخرى. واشترك في رفض اتفاق رئيسة الحكومة، أعضاء يمثلون كافة الأحزاب البريطانية الممثلة في البرلمان بما فيها حزبها (حزب المحافظين الحاكم). أدى تفاقم الازمة الى حالة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، وما يرتبط به من التأثير على المراكز القانونية للأفراد والمؤسسات الأجنبية التي تعمل في بريطانيا او تلك البريطانية العاملة في دول الاتحاد الأوروبي. وتكرست وضعية عدم اليقين على كافة المستويات وخصوصا في قطاع الاعمال، والذي انعكس بوضوح على هبوط تاريخي في قيمة الجنيه الإسترليني، وما تبعه من الإعلانات المتكررة للكثير من الشركات الأوروبية والعالمية عن نيتها نقل نشاطاتها الاقتصادية الى خارج البلاد. أنتج ذلك مجموعة أخرى من الضغوط على رئيسة الوزراء وخصوصا في أوساط حزبها للاستقالة وفسح المجال لقيادة جديدة للحزب ورئاسة الحكومة لتحريك المياه الراكدة وحسم مسالة الخروج من الاتحاد الأوروبي.

صحيح ان حزب المعارضة الرئيس العمالي بقيادة جيريمي كوربين، يعاني أيضا من انقسامات على مستوى قواعد الحزب وبعض قياداته في الموقف من البقاء او الخروج من الاتحاد الاوروبي ، الا ان الخلافات والانقسامات تبدو اقل حدة مما عليه في حزب المحافظين الحاكم الذي يتمتع بأغلبية بسيطة في البرلمان كنتيجة للانتخابات المبكرة التي قادتها تيريزا ماي، مما أضعف موقف حكومتها وعزز من مواقع حزب العمال في البرلمان واضاف قوة جديدة على شعبية جيريمي كوربين وثقة الناخب البريطاني به وبقيادته للحزب، وجعله اقرب الى موقع رئاسة الحكومة بعد ان كانت تثار الشكوك حول اهليته حتى في البقاء قائدا لحزب العمال، ناهيك عن صلاحيته لقيادة الحكومة.

دفعت هذه الظروف تيريزا ماي الى الاستقالة من قيادة حزب المحافظين ورئاسة الحكومة، الامر الذي أشعل بدوره مرة أخرى الجدل حول مسالة الخروج من الاتحاد الأوروبي وخصوصا ان قواعد حزب المحافظين بغالبيتها تؤيد الخروج من الاتحاد الأوروبي حتى دون اتفاق. انعكس هذا بصورة مباشرة على انتخابات الحزب لاختيار قائد جديد، بحيث تصدر بوريس جونسون السباق الانتخابي الداخلي متفوقا على كل منافسيه بفوارق كبيرة جدا. جاء هذا التفوق انعكاسا للحملة الانتخابية التي استهدف فيها جونسون ناخبي حزب المحافظين من خلال التركيز على الخروج من الاتحاد الأوروبي بدون اتفاق.

بعد فوز بوريس جونسون وتقلده رئاسة الحكومة قام بتشكيل طاقمه الوزاري من غلاة الداعين للخروج من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق. تبع ذلك اعلاناته المتكررة عن تشكيل اللجان الوزارية الخاصة بالتحضير للخروج النهائي من الاتحاد الأوروبي.

الأسئلة المربكة

السؤال الذي يثار الان، هل ينوي جونسون الخروج من الاتحاد الأوروبي حتى بدون اتفاق؟ ام انه يحاول التلويح بذلك لتحسين شروط التفاوض مع الاتحاد الأوروبي والتوصل الى اتفاقية أفضل من التي وقعتها تيريزا ماي، وتم رفضها في البرلمان؟ والسؤال الأكثر أهمية، هل يستطيع جونسون الخروج من الاتحاد بدون اتفاق حتى لو أراد ذلك؟ وما هي الخيارات المتاحة امامه للخروج من هذه الازمة التي تقود بريطانيا الى حالة مستمرة من عدم اليقين؟

  يبدو ان التلويح بالخروج من غير اتفاق برأي المراقبين لا يعدو أكثر من تكتيك تفاوضي يستخدمه جونسون لإثارة الرعب والقلق لدى الاتحاد الأوروبي في محاولة يائسة منه لدفع الاتحاد للقيام بفتح الاتفاق الموقع مع تيريزا ماي وبالتالي تحسين شروط الاتفاقية التي قد تمنحه موافقة برلمانية ورضى حزبي داخلي عن إنجازاته القيادية التي تتمحور الان في مسالة انجاز الخروج من الاتحاد، وبالتالي قدرته على التوجه الى انتخابات عامة يعزز بها اغلبيته الضعيفة والمتأرجحة. هذا الخيار مستبعد حقا بالنظر الى الموقف الأوروبي الواضح والحاسم بان اتفاق تيريزا ماي لن يتم فتحه او حتى نقاشه من جديد، وبالتالي فإن استدراج تنازلات أوروبية جديدة بأغلبية كاملة من قادة الاتحاد يعتبر في غاية الصعوبة .

زلزال تفجير الاتحاد البريطاني

مأزق مشروع جونسون بالمضي قدما في الخروج من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق، يعني عمليا ، تفكيك  الوحدة الدستورية والجغرافية للمملكة المتحدة، حيث يتطلب الخروج من دون اتفاق الى بناء نقاط حدودية واضحة بين إنجلترا وشقيقتها في الاتحاد ايرلندا الشمالية التي لديها حدود مفتوحة مع مع جمهورية ايرلندا وتتمتع بكافة المزايا المتعلقة بحركة التجارة والافراد والجمارك وغيرها من المزايا التي اكتسبتها كونها جزء من الاتحاد الأوروبي. يصر الاتحاد الأوروبي على ان يتم الفصل بشكل واضح بين ايرلندا وبين إنجلترا في حالة خروج بريطانيا من الاتحاد لأنها ستتحول الى دولة أخرى ولا يحق لها التمتع بالميزات التي تتمتع بها بقية دول الاتحاد وكأنها لم تخرج منه، وفي حالة وضع النقاط الحدودية بين إنجلترا وايرلندا فسيولد ازمة دستورية بين مكونات المملكة المتحدة، اذ ان كلا الدولتين سيتحتم عليهما التعامل مع بعضهما البعض وكأنهما دولتين منفصلتين، وهذا بدوره سيهدد اتفاق الجمعة العظيمة الذي انهى الصراع في ايرلندا ونص على ان تكون ايرلندا الشمالية جزء من بريطانيا وان لا يتم تغيير ذلك مهما تغير الوضع السياسي لإيرلندا الشمالية. يجدر الإشارة بان اكثر من 90% من الايرلنديين صوتوا لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي مما يخلق رأيا عاما سلبيا ضد أي خطوة يتخذها جونسون للخروج من الاتحاد وخصوصا بدون اتفاق.

لا يختلف الوضع كثيرا بالنسبة لموقف اسكتلندا التي صوتت غالبية عظمى أيضا من سكانها على البقاء في الاتحاد، وترى الخروج من الاتحاد خيارا سيئا لكل مفاصل الحياة في الدولة، وتحديدا في وضعيتها الاقتصادية وبقية المشاريع المشتركة مع دول الاتحاد الأوروبي واهمها المتعلق بالتعليم العالي ومبادراته البحثية. الخروج بدون اتفاق سيحفز الأحزاب السياسية هناك، وخصوصا الحزب الوطني الأسكتلندي الحاكم على ان يطالب بإجراء استفتاء جديد للاستقلال عن بريطانيا. يضاف الى ذلك أن أعضاء البرلمان البريطاني، بما فيهم عدد لا باس به من حزب جونسون نفسه يتوعدون بوقف أي مسعى للخروج من دون اتفاق، ولديهم طبعا الأدوات الدستورية للقيام بذلك. اما في حالة إصراره على ذلك، فيمكن للبرلمان حجب الثقة عنه مما سيؤدي الى انتخابات مبكرة، ترجح اخر استطلاعات الرأي أن يكون فيها معرضا للخسارة أكثر من الفوز، مما يجعل هذا الخيار بمثابة انتحار سياسي وخسارة حلم حياته برئاسة مجلس الوزراء.

بطبيعة الحال، فان جونسون، وحزبه أيضا، لن يقبلا ان يكون مسؤولا عن هدم المملكة المتحدة او وضعها في ازمة دستورية قد يستعصي حلها لسنوات طويلة قادمة وأزمات اقتصادية غير محسوبة بعد عشر سنوات من التقشف من حكم المحافظين ، الامر الذي يضع جونسون مرة أخرى في مواجهة ازمة تاريخية لمكانة حزبه في المشهد السياسي ولمستقبل بريطانيا كدولة عظمى مقررة تسيدت العالم طيلة القرنين الماضيين.

انتخابات مبكرة ام استفتاء جديد 

جونسون، كما يعتقد مراقبون ، لا يحبذ الدعوة الى انتخابات مبكرة في القريب العاجل، خصوصا بأن المعارضة العمالية تتقدم على المحافظين في معظم استطلاعات الراي ، فالانتخابات الان قد يكون مقامرة يدفع موقعه كنتيجة لها، وهذا ما لا يريده أيضا. ظهر ذلك جليا في اليومين الأخيرين حينما خسر المحافظين الانتخابات التكميلية لمقعدين برلمانيين محسوبين تاريخيا على الحزب، واللافت ان هاتان المنطقتان صوتتا في استفتاء 2016 بغالبية كبيرة لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. ذهب المقعدان لصالح حزب الديمقراطيين الاحرار، وهو الحزب الذي يتبنى حملة البقاء في الاتحاد الأوروبي بالرغم من نتائج الاستفتاء. وتعد هذه النتيجة مؤشرا على الانقلاب التدريجي في مزاج الناخب البريطاني فيما يتعلق بالخروج او البقاء في الاتحاد الأوروبي مقارنة مع سنة 2016، مضافا الى ذلك ما يخفيه أو يشي به من دلالة كسر الموجة الشعبوية اليمينية التي حملت على اكتاف الخروج من الاتحاد الأوروبي. يأتي هذا الاستنتاج بناء على الخسارة المدوية أيضا لحزب الخروج من الاتحاد الأوربي ( حزب بريكسيت ) والذي يتبنى اجندة يمينية متطرفة على راسها استعادة السيادة الوطنية ومعاداة الهجرة وتقييد الحركة مع بقية الاتحاد الأوربي .

   ان القراءة المتعمقة في شخصية ومسار بوريس جونسون السياسي ومواقفه من مختلف القضايا ، تدلل على ان الرجل لم يحافظ يوما على وعوده الانتخابية منذ دخوله حقل العمل العام ، لهذا ترجح التحليلات تراجعه  التدريجي عن الخروج المتصلب من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق، ومع تضاؤل احتمالات فوزه في الانتخابات ، فانه قد يلجأ الى مقاربة أخرى غير متوقعه ، وهي الدعوة الى استفتاء جديد يحظى بموافقة البرلمان، ويطلب فيه من الناخبين التصويت مرة أخرى على البقاء او الخروج بدون اتفاق، كمخرج من الازمة المتصاعدة والتي لها الكثير من الداعمين في أوساط الناخبين البريطانيين وممثليهم البرلمانيين.

هذا الاستفتاء قد يعطيه الفرصة لإنهاء الازمة وإعادة التوازن في أوساط حزب المحافظين الذي تهدده الانقسامات. ان الدعوة الى الاستفتاء سيعطي مزيدا من الوقت لجونسون للبقاء في منصبه، وسيحسن انطباعات الراي العام عنه كرجل ديمقراطي يستمع الى أصوات الناخبين. بغض النظر عن نتائج الاستفتاء الجديد في الخروج او البقاء، فانه سيتيح لجونسون ابراز نفسه كقائد حقيقي يحترم الديمقراطية. فلو كانت نتائج الاستفتاء مع الخروج، فسيتحرك بدون اتفاق دون ان يرف له جفن، ودون ان يعترض على تفويضه الديمقراطي أحد. وان آلت النتائج الى البقاء في الاتحاد فلن يضير ذلك جونسون، وباستطاعته تقنيا ان يبقى رئيسا للوزراء حتى لو كان ذلك مرفوضا في التقاليد السياسية البريطانية التي لا يقيم وزنا لها .

الخلاصة

محاولات جونسون للحفاظ على موقعه كرئيس للوزراء بأي ثمن ، قد تقوده الى مسارات وحلول غير تقليدية وغير متوقعة من جانبه. منها طبعا الدعوة الى استفتاء جديد. وهذا يتفق الى حد ما مع الطريقة التي يعالج بها جونسون الكثير من الملفات السياسية التي يتسلمها، وهي معاملة الأمور بطريقة دائما تثير الجدل والدهشة، وغير متوقعه. لكن من العلامات الفارقة الأخرى التي يمكن الالتفات اليها في مسالة الخروج من الاتحاد الأوروبي، هو تراجع الحماسة والموجة الداعية الى الطلاق من الاتحاد الأوروبي. وقد يعتبر هذا ردا على الموجه اليمينية الشعبوية التي كان جونسون جزءا منها، والتي تعتبر أن تعزيز الشعور القومي والوطني لدى البريطانيين،  يتطلب اعلان الطلاق من الاتحاد الأوروبي الذي يهدد السيادة الوطنية وينتقص منها. إن هزيمة التيار الشعبوي اليميني البريطاني الذي يقف على راسه جونسون سيلقي بتأثيراته على القارة الاوروبية ، وقد يعطي فرصة ذهبية لليسار ويسار الوسط والليبراليين لتعزيز مواقعه وتطوير الرؤى والبرامج التي تحاصر محاولات تفتيت الاتحاد الاوروبي وسياسات الاسوار العالية والانغلاق  ومعاداة الأجانب ، التي بشر بها اليمين القومي الاوروبي والعالمي. الازمة السياسية في بريطانيا واحتمالات الحلول ، او تعطلها في المدى القريب ، تؤسس عمليا لمستقبل أوروبا الموحدة بل ويتعداه الى شكل العلاقات الدولية القادمة والتي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية التي تترنح اليوم محمولة على أزمة اقتصادية كونية شاملة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.