مع استمرار الاحتجاجات في الشوارع الفرنسية: أوروبا الموحدة تتداعى في باريس

محمد مشارقة

بثلاثة عشر دقيقة، وبنبرة كئيبة خاطب الرئيس الفرنسي الأمة. قائلا إنه سمع غضب الشارع وفهم أسبابه، كما أعلن عن زيادة في الحد الأدنى للأجور، تدفع من قبل الحكومة وليس من قبل أرباب العمل. ألغى الضريبة التي أثارت المتقاعدين على وجه الخصوص. وتعهد بالعمل بشكل وثيق مع العديد من رؤساء البلديات الغاضبين من خفض ميزانياتهم. لكنه رفض إعادة ضريبة الثروة على الأغنياء، التي كانت بندا أساسيا في الاحتجاجات المستمرة منذ السابع عشر من نوفمبر الماضي. ما اعتبره ماكرون تنازلا، وصفه الناطقون باسم “السترات الصفراء ” خدعة جديدة ولا تحل الازمة الاقتصادية المتفاقمة، وجددت جهات نقابية مهنية وطلابية وسياسية اصرارها على استمرار الاحتجاجات، وصعدت من مطالبها نحو الدعوة لإسقاط كل المؤسسة السياسية الفرنسية رئيسا وحكومة وبرلماناً. فالتراجع عن رفع الضرائب على المواد البترولية، لم يبدد من غيوم الازمة، بل استدرج فئات مهنية جديدة بما في ذلك أنصار البيئة والطلبة الثانويين الذي يطالبون بتغيير نظام الامتحانات. كما عاد قادة النقابات العمالية المختلفة الذين تجاوزتهم عفوية وقوة المحتجين ذوو “السترات الصفراء”، في محاولة قيادة الشارع بالدعوة الى سلسلة جديدة من الإضرابات والمطالب.

الواقع، أن المواقف الجديدة المناهضة للنظام السياسي التي وصل إليها المتظاهرون العفويون في الأسابيع الماضية تجد تعبيرها الأبرز في الشعار الشعبوي الذي التقطته الوكالات العالمية لأحد المتظاهرين، الذي صرخ “لم تعد هناك حاجة لكم”، في إشارة إلى كل الطبقة السياسية الفرنسية، يمينا ويسارا ووسطا.

يبدو أن مثل هذه الشهادات تجد لها اليوم صدى واسعا لدى عدد كبير من الفرنسيين، فقد أشار اخر استطلاع للرأي الى أن 72٪ من السكان الفرنسيين يدعمون المحتجين. والمفارقة الأخرى الأبرز، انخفاض نسبة القبول للرئيس ماكرون الى ما دون 20٪، وهو مؤشر واضح على أن تراجعات ماكرون عن قراراته الاقتصادية لم تحسن من شعبيته، بل زادتها سوءا.

فالرئيس الذي كان دائما يعتبر الرجل الوسطي والزعيم الذي كان يشار إليه بـ “بارقة الأمل” لأوروبا من قبل رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، كما وصنف من قبل المستشار البريطاني السابق جورج أوزبورن، بأنه “ما تحتاجه فرنسا” في الوقت الراهن، بات اليوم يجلس على صفيح ساخن.

ما يميز الاحتجاجات الفرنسية المطلبية ليس في تحولها فقط الى مطالب سياسية، بل في تقاطعها مع تحركات القارة الاوروبية التي تتميز بطابعها الشعبوي اليساري واليميني، وفقدان الثقة واليقين بالنظام السياسي والأوروبي، وهنا يمكن التقاط إجابة احدى الناطقات الاعلاميات لصحاب ” السترات الصفراء ” عند سؤالها عن شرعيتها ومن تمثل، أجابت “ان لدي مليوني “لايك” على الفيسبوك “، وكأنها تقول انها اهم من أي برلماني فاسد في الجمعية الوطنية. دلالة هذا الجواب عميقة في أبعادها، فنحن امام رفض للديمقراطية التمثيلية، نحو صيغة الديمقراطية المباشرة، وكفر بالمؤسسة التي انفصلت عن ناخبيها لصالح شركات العلاقات العامة والإعلام والممولين. الجديد الآخر، هو تراجع مكانة الأحزاب الكبرى العقائدية التي قادت أوروبا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولعل حزب ماكرون ” الجمهورية إلى الأمام ” خير تعبير عن تحولات القارة العجوز، فقد صعد على حطام الأحزاب الفرنسية العريقة، الاشتراكيين والديغوليين، في توليفة هجينة شعبوية حملها جيل شاب من الجامعات والمهنيين، وبدت املا للخلاص من ديناصورات السياسة الفرنسية. اليوم يشرب ماكرون من ذات الكأس الذي تجرعه غيره. فقد أخطأ ماكرون في فهم التفويض الشعبي في الانتخابات التي حملته ذات ليل الى سدة السلطة، وشكلت له على عجل حزبا وأغلبية برلمانية، ولم يرغب أو يسمح لعقله أن ينتبه، أن الغالبية العظمى من المصوتين له كانوا يرفضون منافسته زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية ماري لوبين ، ولم يكن تصويتا لشخصه أو برنامجه الانتخابي . مشكلة ماكرون لم تعد مع الطبقة الوسطى الباريسية المفقرة والساقطة من مواقعها الاجتماعية، بل مع الريف والضواحي الفرنسية، الذي لمسوا المعنى المباشر للسياسة التقشفية وخفض الميزانيات الحكومية، والتي تمثلت في إغلاق المدارس والمستشفيات والمحاكم الريفية وخفض خدمات السكك الحديدية.

ما يقلق ماكرون وكل الطبقة السياسية الفرنسية هو ان الموجة الجديدة من المحتجين التي كسبت قلوب وعقول الفرنسيين، لا إيديولوجية أو فلسفة واضحة لها، ولا إطارا تنظيما جامعا وفق القواعد والأصول الحزبية المعروفة، ولا رابط بينهم سوى الشعور المشترك بخيبة الامل من السياسات والوعود الحكومية التي زادتهم فقرا وبطالة، ما يجمعهم هو الغضب، والعاطفة المشتركة التي انتقلت بسرعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتخلق هويات جديدة، في عالم يتضاءل فيه دور النقابات العمالية والأحزاب المركزية.

صورة أوروبا القديمة تتبدل بتسارع لافت، فالشعبوية الترامبية، باتت اليوم الفيروس الذي يجتاح العالم ، محمولة على أزمة اقتصادية تلوح في الأفق  ، تتجاوز بآثارها ما جرى قبل عقد من الزمن بسقوط قمم مالية كبرى ، فالعولمة واقتصاد السوق المفتوح والنيوليبرالية السياسية والاقتصادية باتت اليوم محل تشكيك وتحسب على ضرورات الحرب الباردة التي انتهت بسقوط المعسكر الاشتراكي ، ولم يعد من داع ولا مسوغ لاستمرارها ، ويتعلق الأمر بالمنظمات الاقليمية  والأحلاف العسكرية واتفاقات التجارة الحرة ، والمناخ ، وحتى الأمم المتحدة ومؤسساتها ، فالولايات المتحدة الامريكية في العصر الترامبي ، لن تحمل على ظهرها مجانا ، دولا وأحلافها ومنظمات.

فرنسا بقيادة ماكرون لن تعود كما كانت قبل التظاهرات الشعبية المستمرة ، ولم تعد معها أيضا صورة أوروبا الموحدة التي تقودها القاطرة الفرنسية الألمانية ، ولا يمكن لخليفة المستشارة الألمانية المنتظرة التي حلت محل ميركل في قيادة الحزب الديمقراطي المسيحي ، ان تنقد الوحدة الاوروبية التي تتصدع اليوم بضربات اليمين القومي الشعبوي الذي يجتاح مركزها واطرافها من إيطاليا ، هنغاريا ، النمسا ، السويد ، بولندا وسلوفينيا ، على سبيل المثال لا الحصر ، فالجامع المشترك بينهم ، هو الشكوك في جدوى أوروبا الموحدة ، وهم ينتقمون من التعددية الثقافية والقيم الإنسانية والديمقراطية والليبرالية ، ويتوحدون في مشاعرهم المعادية للهجرة ، ويعززون الروايات القومية و الاقصائية.

وإذا كان القرن الماضي ومطلع الحالي، قد شهدا تصدر قامات فكرية وفلسفية وسياسية كبرى، قدمت الأرضية الصلبة للفكر اليميني والليبرالي ( ليو شتراوس ، كيسنجر وبريجينسكي ، صامويل هنتنجتون ، برنارد لويس ريتشارد بيرل ..) . فان المرحلة اليمينية الشعبوية التي تجتاح العالم اليوم يقف في صدارتها صحفي عنصري متطرف، شغل منصب كبير استراتيجي البيت الأبيض هو ستيف بانون، الذي يصف نفسه بالترامبي بلا ترامب. أطلق الرجل من بروكسيل مشروعه لتحويل أوروبا أطلق عليه اسم “الحركة “. وقد عقد مجموعة من التحالفات التي تؤكد على أهمية السيادة الوطنية، وإغلاق الحدود في وجه الهجرة، ومكافحة ما يسمى بالإسلام الراديكالي، كوسيلة لتعزيز الأحزاب القومية في انتخابات مايو \ أيار البرلمانية الاوروبية المقبلة.

ظل ماكرون يفاخر بوصف نفسه، بأنه عدو فيكتور أوربان في المجر وماتيو سالفيني في إيطاليا، وهما زعيمان يجسدان الموجة اليمينية الشعبوية في أوروبا. لكنه اليوم يحتاج إلى التحرك بحذر، فموجة التظاهرات العنيفة في بلاده، تنذر بمخاطر كبرى ليس أقلها، أن يتمكن تلاميذ ستيف بانون واليمين الأوروبي، من تصدر المشهد الفرنسي.

في غضون ذلك، سيواجه ماكرون أول اختبار انتخابي له في مايو\أيار المقبل، عندما ستمنح الانتخابات البرلمانية الأوروبية الفرصة الأولى للناخبين في عصره للتعبير عن غضبهم في الصناديق. مهما كانت النتيجة، فقد خفت نجم ماكرون، وتلاشت الآمال بالتجديد الأوروبي الذي كان شعاره الانتخابي. بالتأكيد، تلك حصيلة سيئة ليس فقط لفرنسا بل للعالم بأسره.

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.