محددات الأمن القومى العربى و التنافس على إثيوبيا

تحظى منطقة القرن الأفريقي بأهمية استراتيجية للوطن العربي، خاصة مصر ودول الخليج، حيث تعد هذه المنطقة بمنزلة العمق الامني القومي للمنطقة، فضلاً عن موقعها المتميز. وتعد إثيوبيا على رأس هذه الدول، فالدولة التي كانت تعانى من الفقر الشديد وتهددها المجاعات فى عام 2000، تمكنت من القفز خطوات كبيرة في مجال التنمية الاقتصادية، وباتت تعتبر واحدة من الدول الخمس الأسرع نموًا في العالم، وتسعى إثيوبيا إلى مكانة ونفوذ في إفريقيا وخاصة منطقة الشرق الإفريقي. وتتطلع اديس ابابا الى تشجيع الاستثمارات الأجنبية في كافة المجالات ، وأجرت في السنوات الأخيرة سلسلة من الإصلاحات الجذرية في المبنى القانوني الذي شرع اليات اقتصاد السوق الحر بعد عقود من التقييدات ذات الطابع الاشتراكي .
وفى ظل احتدام الصراع الإقليمي والدولي في المنطقة بما في ذلك الخلاف الخليجي الداخلي ، تحولت إثيوبيا إلى نقطة تماس للمصالح المتعارضة وباتت المستفيد الأكبر من التنافس العسكري والاقتصادي والأمني ، خاصة لوجودها على مفترق تقاطعات مهمة لعدد من الملفات الاستراتيجية ، الأمن والمياه والتجارة الإفريقية.
الاحتجاجات ونقطة التحول فى النظام السياسى الإثيوبي:
شهدت إثيوبيا موجة من الاحتجاجات العنيفة خلال فبراير\شباط 2018، حيث اندلعت موجة احتجاجات شعبية ضد سياسات هايلي ديسالين وحكومته، مما دفعه إلى تقديم استقالته. العنصر الغالب في هذه التظاهرات العنيفة كان من قومية الأرومو المسلمة احتجاجا على سياسة التهميش والافقار المتعمد بحسب ادعاءاتهم ،على الرغم من انهم يشكلون حوالى 40% من حجم السكان فى البلاد ، إلا أنهم يخضعون لحكم أقلية عرقية التيغراي ( 6% فقط من السكان ) شكلت الدولة العميقة بسيطرتها على الامن والجيش ومفاصل الدولة الأساسية . فحكومة التيغراي تعمدت ممارسة سياسات مجحفة بحق الأورومو وبقية القوميات الأخرى ، ومارست بحقها الاضطهاد والتهميش، وسلبت منها حقوقها السياسية والاقتصادية. فعلى مدار السنوات الماضية، عملت الحكومات على تكريس الفقر فى مناطق الأورومو على الرغم من تحقيق مستويات نمو مرتفعة على مستويات المناطق الأخرى، حيث تصل نسبة الفقر فى هذه المناطق إلى 80%. وقد أكدت منظمة العفو الدولية خلال تقاريرها السنوية، أن الحكومة تمارس انتهاكات صريحة لحقوق الانسان ضد جماعات الأورومو مثل عمليات توقيف تعسفية واختفاء قسري واعتقالات بدون محاكمة.
وقد نددت منظمة ” هيومان رايتس ووتش” بسقوط أكثر من 900 قتيل في الاحتجاجات التي نشبت في إقليم «أوروميا» عامى 2015- 2016، واستمرار الاعتقالات التي وصلت إلى اعتقال ما يقرب من 20 ألف شخص.
ولكن الأمر الذى أشعل فتيل الأزمة مجدداً، فى فبراير 2018، هو اعلان الحكومة عن خطط لتوسيع النطاق الإداري لأديس أبابا على حساب أراضي الأرومو والأمهرة، وهو ما يرفضه غالبية سكان هذه المناطق، واعتبروهها وسيلة لتغيير التركيبة الديمغرافي لصالح التيغراي؛ مما تسبب فى الأنتفاضة الأخيرة، وعلى إثر هذه الاحتجاجات، قامت الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي، التي تحكم إثيوبيا منذ 27 عامًا، باتخاذ بعض الاجراءات الاصلاحية من أجل تهدئة الاوضاع، وكان على رأس هذه الاصلاحات إغلاق السجون السياسية والسماح بصعود الشخصية الشعبية النافذة أبي أحمد رئيساً جديداً للوزراء، خلفاً لهايلي مريم ديسالين.
والجدير بالذكر أن أبى أحمد ينحدر من عرقية أورومو، التي كانت تقود الاحتجاجات المناهضة للحكومة السابقة على مدار الثلاث سنوات السابقة منذ 2015، ويعتبر ذلك تحول هام يمكن البناء عليه لتفكيك الدولة العميقة ، خاصة بعد تمكنه من اقالة الشخصية القوية في النظام ، مدير جهاز الامن دون مشاكل تذكر . وقد وعد ابي في اول خطاب له بعد تنصيبه بمحاسبة كل الذين تورطوا في اطلاق النار على واعتذر فيه عن قتل المتظاهرين في سابقة هي الاولى في تاريخ الحكومات الاثيوبية .

أبى أحمد والتحول :
منذ تولى أبى أحمد رئاسة الحكومة الإثيوبية، وهو يتخذ حزمة من السياسات الديناميكية وغير التقليدية، هذه السياسات الطموحة تهدف ليس فقد إلى تحقيق استقرار وتنمية اقتصادية وتجانس داخلى ولكن أيضَا تهدف إلى القضاء على أزمة الدولة العميقة، والتي بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي باستقلال إريتريا الواقعة على ساحل البحر الأحمر وانفصالها رسميا ؛ الأمر الذي حرم اثيوبيا من سواحلها البحرية، وأيضًا سياسات تهدف إلى فتح ممرات استراتيجية مع دول الجوار ، لتكوين شبكة من الشراكات طويلة المدى ، ولتحقيق قدر من التكامل الاقتصادى.
عقدت الحكومة الإثيوبية عدة اتفاقيات حصلت من خلالها على حصص فى موانئ هامة فى شرق إفريقيا )الصومال وجيبوتي ثم السودان )، وذلك من أجل كسر العزلة البحرية ، ففى 3 مايو\ايار 2018 استحوذت إثيوبيا على حصة فى ميناء بورسودان؛ الذى يعد أكبر منفذ بحري للسودان على البحر الأحمر. كما حصلت على حصة فى ميناء جيبوتي، والذى اعتمدت عليه في تجارتها البحرية وتواصلها مع العالم الخارجي، فقد استفادت من سعى جيبوتي لجذب بدائل استثمارية بعد إنهاء عقد امتياز موانئ دبي العالمية.
وشرقا بات لإثيوبيا مخرج من ناحية الصومال، حيث باتت شريكًا استراتيجيًّا في ميناء بربرة بأرض الصومال، بنسبة 19%، إضافة إلى استثمارها في البنى التحتية اللازمة لتطوير الميناء والممرات البرية المؤدية اليه . كما سعت إثيوبيا إلى خلق مسارات برية لتجارتها الخارجية مع دول الجوار الإفريقية، وبالرغم من أن هذه المسارات تم الاستثمار فيها قبل مجئ أبى أحمد بسنوات، إلا إنه يسعى إلى تطوير هذه الاستراتجية والاستثمار فيها، فقد افتتح في فبراير\ شباط 2018 أول خط دولي للسكك الحديدية في إفريقيا يعمل بالكهرباء فقط، يربط بين أديس أبابا وميناء جيبوتي، بطول 750 كيلو مترًا، كما يتوقع أن تنجز شبكة سكك حديدية تربطها بكل من كينيا والسودان وجنوب السودان، بحلول العام 2020.
أما بخصوص الصراع مع إريتريا، أصبحت السلطة أكثر انفتاحًا في هذا الملف، فقد قررت أن تنحاز إلى خيار العلاقة السلمية مع إرتيريا، على الرغم من أن الصراع مع إريتريا يعتبر من أعقد الأزمات التى عاصرتها الدولة الإثيوبية فى السنوات الماضية، فقد أعلنت في 5 يونيو/ حزيران 2018، قبولها التنفيذ الكامل لاتفاق الجزائر، والقرار النهائي الصادر عن لجنة الحدود الإريترية الإثيوبية EEBC) ) الموقع في إبريل/ نيسان 2002. رئيس الوزراء الجديد أبى أحمد فى خطاب اعلن رسمي أمام البرلمان ” أنه لا يمكن أن يورث الموت للأجيال المقبلة، وأعتبر أن الحرب الإثيوبية – الإريترية هي أسوأ حرب في التاريخ” أهدر فيها الطرفان أموالاً في التسليح بدلاً من تخصيصها للمزارعين وتنمية سكان المنطقة في البلدين.
وبهذا تتخلى إثيوبيا تدريجيا عن سياساتها السابقة مع جيرانها، وتبدأ باستراتيجية بعيد المدى للتعاون مع دول شرق إفريقيا كنواة للتحول إلى دولة متوسطة الدخل من ناحية، من ناحية أخرى تكون دولة ذات نفوذ إقليمي مقرر فى إفريقيا.

الدخول الاماراتي:
زادت حدة التنافس الإقليمي والدولي على إثيوبيا فى السنوات القليلة الماضية، خاصة مع تصاعد الأزمة الخليجية ، وتوتر العلاقات مع مصر بسبب سد النهضة الإثيوبى . بدأت السعودية والامارات على وجه الخصوص في مقاربة جديدة لمفهوم الامن القومي والإقليمي ـ باختبار جدية التحولات والنوايا الاثيوبية فى محاولة لإعادة هيكلة العلاقات معها في اطار النظرة الشاملة لخارطة المصالح مع تصاعد التهديدات الأمنية الخارجية للمنطقة والنظام العربي .
المبادرة جاءت من الامارات ، بزيارة مفاجئة لرجلها القوي ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد الى اديس أبابا ، تناولت تعزيز علاقات الصداقة والتعاون والشراكة الاستراتيجية بين البلدين وتوسيع الاستثمارات الاماراتية فى إثيوبيا، تخللها توقيع سبع اتفاقيات بقيمة ثلاثة مليارات دولار ، بينها اتفاقية لتحرير الاقتصاد من الضغوط الثقيلة على الاستقرار النقدي بوضع وديعة بقيمة مليار دولار فى البنك المركزى الإثيوبى لتخفيف نقص العملة الأجنبية. والجدير بالملاحظة أن عملية تحرير ميناء الحديدة اليمني من قبضة ميليشيات الحوثيين، تزامنت مع هذه زيارة مما قد يفتح التساؤلات حول التفاهمات التي تمت بين البلدين خاصة أن إثيوبيا قريبة من باب المندب.
يشار هنا الى ان الدخول الاماراتي على خط التحولات في اثيوبيا وزيارة محمد بن زايد الى اديس أبابا ، سبقه دبلوماسية سرية لابو ظبي ، اسفرت عن انفراج بالغ الاهمية في العلاقات الاثيوبية المصرية تمثل بزيارة تعتبر الأولى من نوعها منذ سنوات ، حيث توجه أبي أحمد إلى القاهرة ، تحدث فيها بلغة تصالحية خلافًا لخطاب التصعيد الذي شاب المشهد السياسي بين البلدين على مدار السنوات الماضية ، على خلفية سد النهضة الأثيوبي . وقالت المصادر ان اللقاء يؤسس لانفتاح على المطالب المصرية بشأن حصتها في مياه النيل وخاصة فيما يخص فترة ملء سد النهضة، حيث يطالب الجانب المصري بزيادة عدد سنوات ملء خزان السد لتكون من خمس إلى سبع سنوات على الأقل، بدلاً من ثلاث سنوات كما ترغب إثيوبيا.
يضاف الى ذلك ، مقاربات جديدة لحل الازمة ، تستند إلى تقديم إغراءات اقتصادية وتجارية كبيرة من الجانبين الخليجي والمصرى، فالامارات ستزيد من استثماراتها فى قطاعات السياحة والزراعة والطاقة، ومصر تقدم حزمة من الاستثمارات ، كإنشاء منطقة حرة صناعية مصرية في إثيوبيا، على غرار المناطق الحرة الصينية هناك، والاتفاق على توسيع أعمال شركة المقاولين العرب الحكومية وكذلك شركة السويدي للكابلات، وكلتاهما تعملان في مجال المقاولات والإنشاءات المعمارية.
وتأتى التحركات الخليجية والمصرية نحو التفاهمات مع الحكومة الإثيوبية الجديدة، بعد فترة توتر مع حكومة هايلي ميريام ديسالين، الذى كان يفاضل بين المصالح المتناقضة بين المحاور ودول المصالح المختلفة ، تركيا – إيران – قطر- إسرائيل، وبين علاقاتها مع الجوار العربي الذي تأثر كثيرا بالخلاف حول سد النهضة .

دلالات وتداعيات
لا يمكن إدراك التغييرات والتحولات الجديدة بعيداً عن علاقات القوة الداخلية والخارجية ، ليس فقط لمحاولة التنبؤ بمدى نجاح أو فشل هذه السياسات، ولكن في محاولة لاستنباط مصير الدولة الإثيوبية ذاتها. فمنذ وصول أبى أحمد للحكومة فى مارس/ آذار الماضى، وهو يقوم بإجراءات تعصف بالأسس التي قامت عليها الدولة الإثيوبية منذ بداية حكم ميليس زيناوي فى 1991، والتى أستكملها هايلي مريام ديسالين حتى سقوطه فى فبراير/ شباط الماضى.
فقد شهدت إثيوبيا، خلال ثلاثة أشهر فقط، موجة كبيرة من الإقالات لكبار قيادات المؤسسة العسكرية والأمنية من المحسوبين على النظام السابق، بالإضافة إلى اتخاذ خطوات ديمقراطية من استيعاب المعارضة وإيقاف التوقيف التعسفي والاعتقالات، وأيضًا تصفير الخلافات مع دول الجوار وخاصة إريتريا. الجدير بالملاحظة أن كل هذه الاجراءات تتم دون وجود أرضية صلبة يعتمد عليها أبى أحمد، فالدولة العميقة التى أٌسست على مدار حوالى ثلاثة عقود لن تنهار فى ثلاثة أشهر. فالنظام السابق كان مسيطرًا على مفاصل الدولة الإثيوبية، وله مريدين فى كل مكان يتوافقون مع توجهاته ومستفيدين من وجوده.
ويمكن قراءة محاولة الاغتيال التى تعرض لها أبى أحمد فى 23 يونيو/ حزيران الجاري ، على أنها رسالة قوية من النظام السابق وقوى الشد العكسي التي تضررت من الإصلاحات في النظام السياسي والاقتصادي وتحرير السوق ، وهي قوى استفادت من بيروقراطية وفساد السلطة وتحكمها كأقلية في كافة مفاصل البلاد واستئثارها بامتيازات الدولة والسلطة والامن ، ولهذا اشرت محاولة الاغتيال على صعوبة ومخاطر التحول في هذا البلد المحوري ، وكذلك التقاط الجانب العربي لأهمية وصول شخصية تحظى بإجماع شعبي من طراز ابي احمد .
العامل الحاسم فى استمرار السياسات التى يتبناها أبى أحمد، هو مدى تحقيقه لتوازنات القوة القائمة تاريخيا على نخبة من المتنفذين من قومية التيغراي ، بحيث يضمن ولائهم وعدم محاولتهم للانقلاب عليه. ولكن استمرار الوضع بهذه الطريقة، قد يؤدى إلى محاولة الالتفات على التوجهات الجديدة والقواعد المعمول بها من أجل الإطاحة بالحكومة واعادة الأوضاع لما كانت عليه.
أما السيناريو الأخر، بانفراط عقد الدولة الفيدرالية الموحدة بين الشعوب الإثيوبية، والذي قد يحمل مخاطر الفوضى وعدم الاستقرار تفضي إلى طلب أحد الاقاليم الاستقلال عن الدولة المركزية ، حيث ينص دستور الدولة ذاته إنه يمكن أن يطالب أى إقليم فى الحصول على حق تقرير المصير، ولكن صعوبة هذا السيناريو أن إقليم التيغراي لا يزيد عن أكثر من 6% من حجم السكان، وبالتالي ليس من مصلحته الاستقلال عن الدولة.
وأخيرًا، فأن تجاوز الازمات المزمنة في إثيوبيا يتوقف على مدى قدرة الحكومة الجديدة أن ترسى قواعد المواطنة الكاملة، وتقديم إغراءات لجميع الاقاليم للحفاظ على تماسك الدولة والكف عن محاولات الاطاحة بالحكومة، كما يتوقف ايضا على حجم الدعم والاستثمار الخارجي بهدف للاستمرار فى تنفيذ الاصلاحات السياسية والاقتصادية التي وعد بها ابي احمد .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.