قراءة في تشكيل حكومة الظل لحزب العمال البريطاني

التقديرات ان السير كير ستارمر الزعيم الجديد لحزب العمال ، هو شخصية وسطية تحظى باحترام في الاوساط العامة وفي الحزب، ويمكن القول ان التصويت له بأكثر قليلا من نصف الهيئة الانتخابية، ٥٦ بالمئة ، يعود الى شخصيته الوسطية وغير الايديولوجية ، وقال مراقبون ، ان حزب العمال فضل الكفاءة على الكاريزما ، ولهذا جاء تشكيل حكومة الظل ، ليكشف رؤية رئيس الادعاء العام السابق ، ورغبته في انهاء الانقسام وتنويع واجهة الحزب القيادية بكل التيارات ، من اليمين البليري (نسبة الى طوني بلير) الى الوسط الى الشيوعي الماركسي مرورا بالكوربينيين .

التحليل

– قام الرئيس الجديد للحزب، باعادة إد ميليباند -الزعيم السابق للحزب- إلى السياسة ليكون في الخط الاول بعد ابعاد أقرب حلفاء جيريمي كوربين من الواجهة، حيث عينه وزير ظل الاقتصاد والاعمال والطاقة والاستراتيجية الصناعية. وكان إد ميلباند شغل منصب وزير الطاقة والمناخ مع جوردون براون في 2008-10 ووزيرا في حكومة بلير. وهو واحد من سياسيي حزب العمال الذين تم إحياء حياتهم المهنية في إطار التعديل الذي اجراه الزعيم الجديد للحزب، بعد أن ظل في المقاعد الخلفية ايام جيرمي كوربين. اللافت ايضا هو اللورد فالكونر، الوزير في عهد بلير، الذي عين مدعيا عاما في حكومة الظل. ديفيد لامي، الذي كان وزيراً للتعليم العالي في عهد براون، بات وزيرا للعدل.
– جرى اقالة عشرة من أقرب حلفاء كوربين من الحكومة، بما في ذلك إيان لافري كرئيس للحزب. أحد الناجين القلائل كانت ريبيكا لونج بيلي التي نافست على القيادة، وكانت المرشحة المفضلة لكوربين. فقد تم تعيينها وزيرة للتعليم. اما بقية حلفاء كوربين الباقين الذين اعيد تعيينهم في الحكومة فهم: كات سميث، الذي بقي وزير الظل للشباب، وأندي ماكدونالد، الذي يتولى حقيبة التوظيف، و جوناثان أشوورث ، وزيرا الصحة .

– قام ستارمر بتسليم الحقائب الأساسية لأشد منتقدي كوربين. لكن المفارقة كانت في تعيين اليسارية الماركسية انجيلا راينر كنائبة للرئيس والتي لم تكن من معسكر كوربين.

– تتكون حكومة الظل من 17 امرأة و15 رجلاً. سبعة من الأقليات العرقية. وبذلك يقدم زعيم الحزب الجديد هدية للنساء ومتصدري المسالة الجندرية في الحزب، في إشارة واضحة الى التمسك بهوية الحزب وتنوعه.
– هدأ ستارمر من غضب الشباب الذين يشكلون اغلبية في الحزب عندما عين في الحكومة عددا من الوجوه الشابة الجديدة. أنيليس دودز، عضو البرلمان عن أكسفورد، باتت مستشارة الظل الجديدة، ونيك توماس سيموندز ، وزير داخلية الظل. “.
– استعاد الحرس القديم المنكفئ عن العمل في فترة رئاسة كوربين بتعيين اللورد فالكونر في منصب المدعي العام في حكومة الظل. وهو من طاقم بلير وبراون وديفيد لامي بتعيينه وزيرا للعدل

– أرضى ستارمر بهذا التشكيل كل تيارات الحزب وجمع أشتاته. البليريون سيفرحون بعودة اللورد فالكونر، الوزير المخضرم ، وتيار الوسط سيشعر بإعادة الاعتبار من خلال وجود شخصيات مثل إيان موراي وراشيل ريفز. ، ويمكن لتيار جيرمي كوربين اليساري الراديكالي ان يفرح بوجود ريبيكا لونج بيلي وآندي ماكدونالد .اما بالنسبة ليسار الوسط ، فإن إعادة إد ميليباند الى الواجهة السياسية ليست جائزة صغيرة بل ربما يكون الحدث الأبرز ، ومع ذلك ، فإن التشكيل يمثل طلاقا واضحًا مع الاستقطاب القديم الذي حمله مراقبون مسؤولية كبيرة عن تراجع الحزب في ظل قيادة كوربين. لقد رحل عشرة من أقرب حلفاء كوربين. لكن ذلك لا يمكن اعتباره انقلابا بليريا . فقد استبعد من التركيبة جيس فيليبس، أحد أبرز نقاد كوربين الأشداء.
– استكمل ستارمر ترتيباته الداخلية بتحقيق توازن كبير للقوى في اللجنة التنفيذية الوطنية لحزب العمال (اعلى هيئة حاكمة بالحزب). تم انتخاب ثلاثة مرشحين مناكفين دائمين لقيادة كوربين ممن دعمهم اليمين. وعزز الآن سلطته أكثر من خلال استبدال لونغ بيلي، وجون تريكيت، وديان أبوت، الممثلين السابقين في اللجنة التنفيذية، بحلفائه المقربين.
– في إشارة لا تخلو من المعاني الكبيرة، وللتخلص من كابوس سياسي وتنظيمي ظل يلاحق الحزب تحت قيادة كوربين، قدم ستارمر اعتذارا ثانيا لقادة الجالية اليهودية وتعهد بتخليص حزب العمل من وصمة معاداة السامية. وألتزم هو ونائبته أنجيلا راينر في حديثه مع زعماء اليهود البريطانيين بان يولي اهتماما بتطوير الية مستقلة للتعامل مع شكاوى معاداة السامية وتدريب موظفي الحزب في الفروع المحلية. بهذه الخطوة، يحاول ستارمر استعادة الناخبين اليهود والكتلة اليهودية التي استقال غالبيتها بصورة جماعية من الحزب، بحجة انتشار معاداة السامة داخل الحزب. لا شك بأن هذه الخطوة ستوقف او تخفف من الحملات الاعلامية المكثفة ضد الحزب وزعامته التي استمرت في ظل كوربين، واستنفذت كثيرا من طاقاته في محاولة يائسة لتطهير صورة الحزب من اتهامات معادة السامية، وستعطي المجال للزعامة الجديدة بالتفرغ لملفات سياسية حساسة تحضيرا للانتخابات القادمة.
– بعض المراقبين يرون ان ستارمر ربما يكون الأقرب للجمهور البريطاني العام في مسعى الوصول الى رئاسة الحكومة من سلفية كوربين الراديكالي وميليباند الشخصية الباهتة، فهو رجل دولة وسطي يتميز بالسمعة الطيبة والكفاءة والمهارة السياسية الهادئة.
– يمنح انتشار الفايروس الوبائي زعيم حزب العمال الجديد الفرصة في العديد من المجالات السياسية، فالمجتمع البريطاني على أبواب مراحل تغيير جذرية وبالتالي تحديات جديدة فالفواصل والتخوم السياسية تتلاشى بين الأحزاب في هذه الازمة، حزب المحافظين يطرح تأميم السكك الحديدية وحزمة دعم مالي لأجور المتعطلين من العاملين في القطاعات المختلفة بنسبة ثمانين بالمئة من اجورهم الاصلية، كما اقر إعادة ثلاثة عشر مليار جنيه لقطاع الخدمات الصحية. شكل هذا التحول تحديا لحزب العمال وقائده الجديد، إذ يمثل ذلك خطراً محدقا بعد ان استعار حزب المحافظين الخطوط الرئيسية لبرنامج العمال، لكن وفي المدى المنظور، فان انقلابا اجتماعيا يلوح في الأفق، إذ بات ممثلو الليبرالية الجديدة يرون انه بدون توسيع مظلة الحماية للعاملين لا يمكن استعادة عجلة الاقتصاد انتاجا واستهلاكا، وذلك يمثل فرصة لحزب العمال لاستئناف طرح برنامجه لتوسيع دور الدولة في العملية الاقتصادية والاجتماعية.

الخلاصة

– رغم سيطرة جيل الشباب الذي التحقوا بالحزب لشخصية كوربين اليساري، وتوسع الحزب عدديا الا انه خسر عمليا ثقة الناخبين للمرة الرابعة على التوالي، بل وخسر الحزب قاعدته الانتخابية العمالية في وسط وشمال البلاد بسبب الموقف من الخروج من الاتحاد الاوروبي. والشكوك تضاعفت حول شخصية كوربين باعتباره مناضلا او ناشطا سياسيا ولكن لا ثقة به ليقود حكومة . ولهذا فان شخصية وسطية وتوفيقية مثل السير ستارمر، تمكن سريعا من استعادة كل المختلفين ووازن بين تيارات الحزب الأربعة في تشكيلة حكومة الظل واللجنة التنفيذية الوطنية. لكن من المبكر الحكم على مستقبل الحزب، فما زال امامه مشوار طويل في ظل انتشار الوباء والثورة الرقمية الهائلة وتغير طبيعة العمل، كي يبلور برنامجا إنقاذيا واقعيا للبلاد وللفكرة الاجتماعية الديمقراطية التي نجحت بعد الحرب العالمية الثانية ، لكنها توقفت منذ عقود بعد انتقال البلاد الى مرحلة الليبرالية الجديدة.
وعلى نتائج المعركة مع وباء الكورونا يتوقف مستقبل حزب العمال والبلاد عموما، خاصة إذا استمرت الازمة شهورا طويلة، بما في ذلك احتمالات التغير على طبيعة الدولة والنظام العالمي الذي سيولد من رحم هذه الازمة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.