بعد قرار الانسحاب الأمريكي من سوريا .. تقديرات حول الجيل الرابع من الإرهاب

مقدمة:
مع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ما أسماه هزيمة داعش في سوريا، الذي ساقه كمبرر لقراره المفاجئ بسحب جنوده من سوريا، والذي جاء مع مرور أكثر من سبعة عشر عاما على انطلاق ما عرف بالحرب على الإرهاب. نتوقف في هذه الورقة لتحليل الحركة الجهادية العالمية منذ بداياتها الأولى، وأهم المحطات التي مرت بها، وتقيم هذه الورقة الانجازات التي تحققت على صعيد مكافحة الإرهاب، ومدى صدقية الادعاءات الأمريكية بإبعاد خطر الإرهاب أو إضعافه، سيما بعد الحرب الدولية الشاملة على هذه الظاهرة التي باتت تقلق الدولة المعاصرة واقتصاداتها وأمنها واستقرارها. ما هو وضع المجموعات “الجهادية “ وماهي الآفاق المتاحة أمامها، وانعكاس ذلك على مستقبل الحركة “الجهادية العالمية”، وما هي احتمالات التقارب بين تنظيمي القاعدة وداعش، في ضوء الحوارات الجارية برعاية طالبان وشيوخ السلفية الجهادية العرب.

البدايات :

حتى منتصف الثمانينات من القرن الماضي، كان الجهاديون بمختلف مشاربهم يقاتلون تحت عنوان عريض يدعو إلى إنشاء خلافة تحكمها الشريعة الإسلامية في بلدانهم الأصلية. لكن بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان. تم استقطاب أغلب هؤلاء الجهاديين من جميع أنحاء العالم للقتال في أفغانستان ضد القوات السوفيتية فيما يعتبر أول خطوة عملية نحو عولمة الجهاد.
لعب الشيخ عبد الله عزام الفلسطيني الأصل، دورا أساسيا في استقطاب الشباب المسلم للانضمام إلى الجهاد ضد ” المحتلين الكفار“ من أفغانستان ، وافتتح لهذه الغاية معسكرا للمهاجرين العرب ، الذين تولت بعض الدول العربية ، تسهيل نقلهم وتسليحهم وجمع الاموال للإنفاق على هذه الحرب المقدسة في حينها ، وقد وصفهم الرئيس الأمريكي بالمقاتلين من أجل الحرية ، واستقبل قادة الفصائل الأفغانية المقاتلة في البيت الأبيض . ولاحقا تم تشكيل تنظيم القاعدة على يد تلميذ عبدالله عزام، أسامة بن لادن، الذي كان وراء هجمات ١١ سبتمبر، والتي تعتبر الذريعة الرئيسية لشن الحرب على الإرهاب واحتلال العراق وأفغانستان. حينها كانت القاعدة واحدة من الجماعات الجهادية متعددة الجنسيات الموجودة قبل ١١ سبتمبر، والتي طورت مفهومها للجهاد العالمي بعد انقالها إلى السودان خلال النصف الأول من التسعينيات ثم عودتها إلى أفغانستان في النصف الأخير من التسعينيات.  فقد أعطت الأيديولوجية الجهادية العالمية لتنظيم القاعدة أولوية للهجمات ضد الولايات المتحدة كخطوة أولى في خطة أكبر لتهيئة الظروف لإسقاط الأنظمة” المرتدة” في العالم العربي،

في حين يرى مراقبون أن الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق جاء بمفعول عكسي وساهم في انتشار الحركات والأيدولوجية الجهادية العالمية ، وقد وجدت في الغزو الأمريكي ورقة رابحة لاستقطاب الأنصار والتمويل. شكل ما عرف بالأفغان العرب وقدامى المقاتلين ضد السوفييت، الشبكة الأساسية لتنظيم القاعدة  الذين انتشروا في المنطقة العربية وبلدان جنوب شرق اسيا وشمال افريقيا، ليؤسسوا قواعد الارهاب العالمي .

 

تمدد الحركات الجهادية:

اليوم وبعد مضي نحو سبعة عشر عاما على البدايات، لم تعد القاعدة بشكلها الاولي، العدو الوحيد أو التهديد الأول للنظام الإقليمي والدولي، خصوصا بعد أن فرض تنظيم داعش نفسه على الساحة الدولية كمنافس لتنظيم القاعدة وتهديد رئيس لأمن المنطقة والعالم، عبر سلسلة من العمليات الارهابية التي ضربت العواصم الغربية.  وبات لكلا التنظيمين، داعش والقاعدة، فروع وشراكات، يتزاحم الافراد والجماعات على تقديم البيعات لأمير المؤمنين الجديد وإمارة الخلافة في سوريا والعراق. ومع هذا الانتشار والتمدد، باتت مهمة التصدي لهذه الظاهرة أصعب وأكثر تعقيدا، وجعل من العسير التنبؤ بمستقبلها وخطواتها اللاحقة، خاصة مع التغيير المستمر في التكتيكات والسياسات واستخدام أدوات وتقنيات متطورة، وكذا الدخول في ائتلافات وتحالفات قبلية وعشائرية وحتى شبكات إجرامية، لتحقيق أهدافها ومشروعها.

كشف الظهور الجديد لعمليات داعش في سوريا والعراق، رغم الحديث المتكرر عن انتهاء الظاهرة الإرهابية وبدء مسار الحل السياسي وكذا نوعية العمليات الأخيرة في أوروبا، فصلا جديدا من الإرهاب، اطلقت عليه بعض الكتابات ” الجيل الرابع ” الذي يعتمد على الخلايا النائمة واللامركزية القيادية العملياتية   وظاهرة ”الذئاب المنفردة“ والأفراد الذين يستلهمون الأفكار الجهادية من وسائل التواصل الاجتماعي .   هكذا تعددت أوجه التهديد والأطراف المصدرة للإرهاب ولم يعد هناك خصم رئيسي واحد كما كان الحال في ٢٠٠١، وتشير التقارير إلى أن الولايات المتحدة وسعت مجال مكافحة الارهاب من دولة واحدة هي أفغانستان في عام ٢٠٠١، لتصل لنحو ٧٦ دولة، ولتبلغ تكلفة الحرب على الإرهاب نحو ٥.٦ ترليون دولار لغاية مطلع الشهر الفائت.

مع بداية الربيع العربي في أواخر عام ٢٠١٠ ، شهدت الحركات الجهادية مرحلة نمو سريع، نتيجة الفراغ الذي خلفته الثورات من تفكيك للدولة الوطنية وتشظي المجتمعات في حروب أهلية مدمرة ، وجدت القاعدة في هذه االبيئة الفوضوية الفرصة التاريخية للتمدد والتقدم كبديل للدولة الوطنية ، بمشروعها العابر للحدود والدول ، فقد أمر ايمن الظواهري الذي تولى قيادة القاعدة  بعد مقتل بن لادن ، في رسالة تاريخية لزعيم فرع تنظيم القاعدة في العراق أبو بكر البغدادي، طلب فيها إرسال مجموعة من المقاتلين المخضرمين لتشكيل جبهة النصرة في سوريا بزعامة أبو محمد الجولاني، والتي أصبحت لاحقا واحدة من أبرز الجماعات الجهادية الموالية للقاعدة في الصراع السوري (قبل أن تعلن انفصالها عن القاعدة في الشهر الخامس من عام ٢٠١٦) (١).

ظهور داعش ومنافسة القاعدة:
في أبريل \نيسان ٢٠١٣ ، أصدر البغدادي بيانا رسميا يعلن دمج النصرة في سوريا مع دولة العراق الاسلامية وإعادة تسمية التنظيم الجديد بالدولة الإسلامية في العراق والشام (٢) غير أن تلك الخطوة أدت لأول انشقاق سياسي وتنظيمي وحروب فقهية بين القاعدة وتنظيم “الدولة الإسلامية ”  داعش، حيث رفض الظواهري خطوة البغدادي واتهمه بنقض البيعة و “شق صفوف المجاهدين“، أعقب ذلك رفض جبهة النصرة (الفرع السوري لتنظيم القاعدة) الانضمام لتنظيم البغدادي، وحصلت حالة انشقاق كبرى في صفوف جبهة النصرة في سوريا، تم على اثرها خروج عدد كبير من الجهاديين من صفوف تنظيم القاعدة في سوريا والتحاقهم بتنظيم “الدولة الاسلامية في العراق والشام” ، والذي سعى إلى استخدام سوريا كمنصة انطلاق لهجوم مستمر في العراق وظل ملتزمًا بالأساليب القديمة لتنظيم القاعدة في العراق المتمثلة في الترهيب  والاستفزاز الطائفي الشيعي السني وهو  ما كان يتجنبه تنظيم القاعدة على الدوام .

في شهر يونيو\ حزيران  ٢٠١٤، أي بعد أربعة أشهر من انشقاقه عن القاعدة، شن تنظيم داعش هجومًا عسكريًا كبيرًا في العراق واستولى على الموصل ثاني أكبر مدن البلاد، بعدها أعلن البغدادي عن إعادة تأسيس الخلافة وأعلن نفسه قائدا للأمة الاسلامية(٣). تمكنت داعش من السيطرة على مساحات شاسعة من الأرض السورية ، وبناء مؤسسات دولة بدواوينها وقوانينها الخاصة ونظامها الاقتصادي والتعليمي وبدء صك عملتها الاسلامية . ما مكن التنظيم وخلال فترة قصيرة نسبيا من استقطاب آلاف المقاتلين والأنصار من مختلف دول العالم (٤).

أصول الخلاف الفكري بين القاعدة وداعش:

رغم الضوضاء والسمعة الدولية لزعيمي القاعدة وداعش الا أن خلف هذه الانجازات العملية يقف منظران كبيران ساهما في وضع الاسس النظرية لفكرة الجهاد العالمي والسعي للتمكين في الدول الرخوة والفاشلة . ففي كتابه ” الدعوة إلى المقاومة الإسلامية العالمية” ، خلص أبو مصعب السوري إلى أن المنظمات الجهادية مثل القاعدة فشلت في تعبئة السكان المسلمين في البلدان الاسلامية، وعليه وضع مجموعة من الخطوات أوصى قادة الجهاد باتباعها، حيث رفض المواجهة المفتوحة ضد الغرب أو حركات التمرد واسعة النطاق، بحجة أن الولايات المتحدة أثبتت قدرتها على سحق المقاتلين الجهادين في أي مواجهة مفتوحة خصوصا مع حالة (عدم التمكين) التي لازال يمر بها الجهاد، وخلص السوري إلى أن ”المجاهدين“ يجب أن يجمعوا بين المواجهة المحلية في عدد محدود من الدول الإسلامية، وبين مقاومة غير مركزية في دول الغرب، ومن وجهة نظر أبو مصعب ، لا ينبغي للجهاديين المقيمين خارج البلدان الإسلامية أن يهاجروا إلى أماكن سيطرة القاعدة أو المجموعات الجهادية في البلدان الاسلامية، بل أن يبقوا في بلدانهم ويعملوا ضمن الجهاد اللامركزي كما أسماه (٥).

أما المفكر الجهادي الآخر فهو أبو بكر ناجي واسمه الحقيقي محمد خليل الحكايمة، الذي قتل بغارة “درون” أميركية عام ٢٠٠٨ في إقليم وزيرستان الباكستاني على الحدود مع أفغانستان، فقد وضع استراتيجية مختلفة عن أبو مصعب السوري في كتابه ” إدارة التوحش“، حيث جادل أبو بكر بأن على الجهاديين العمل على زرع الفوضى في كل البلاد الإسلامية والعمل على انهيار الأنظمة واسقاطها بكافة السبل، وبعدها ينبغي عليهم السيطرة على تلك البلدان وإعادة فرض النظام والشريعة الإسلامية. ويشرح أبو بكر نزريته “أنه لكي تنجح استراتيجية الجهاد ، فإنها تتطلب الدعم من جميع الجهاديين حول العالم” ، ولذلك فهو يحث أولئك الذين يعيشون خارج البلدان الإسلامية على السفر إلى مناطق سيطرة الجهاديين وأن ينضموا إلى الحركة الداعية لخلق حالة الفوضى والتي ستؤدي إلى تمكنهم من الامساك بالحكم (٦).

وحيث التزمت نسبيا القاعدة وزعيمها الظواهري بنظريات أبو مصعب السوري، وتجاهلت توصيات أبو بكر ناجي كما ظهر من تحركاتها، فقد تبنى تنظيم الدولة الإسلامية مكونات استراتيجية ناجي والسوري معا. حيث تماشى مع اتجاه ناجي بإحداث الفوضى في المنطقة، وفي المقابل عمل مقاتلوه على استقطاب العنصر السني عبر تعميق التوترات بين السكان السنة من طرف والشيعة والعلويين والأقليات من طرف آخر في كل من سوريا والعراق، وفرضوا الشريعة الاسلامية في المناطق التي سيطروا عليها ، كان هذا بالتوازي مع قيام داعش باتباع استراتيجيتين بما يخص مقاتليها الأجانب خارج سوريا والعراق، تمثلتا بدعوتهم للهجرة الى ارض الخلافة ، أو القيام بهجمات حيثما كان ذلك ممكناً في بلدانهم التي يقيمون بها (٧).

البراءة من داعش:

استراتيجية داعش تلك لاقت اعتراض وتنديد من أيمن الظواهري وقادة آخرين من تنظيم القاعدة، حيث اعتبروا أنه من المبكر الدعوة لقيام دولة اسلامية، وأن الظروف الحالية لاتزال غير مواتية لهذه الخطوة وسيكون أثرها عكسيا وسيسهل اجهاضها، ما يشكل ضربة قاصمة لحركات الجهاد العالمي عامة، كما انتقدوا أبو بكر البغدادي واتهموه بشق الحركة الجهادية عبر نقض البيعة التي قطعها للظواهري والخروج على أوامره، وأصدر في سبتمبر / أيلول ٢٠١٥ سلسلة من الخطابات التي نأى فيها بتنظيم القاعدة عن ممارسات تنظيم الدولة الإسلامية. وقال الظواهري أن القاعدة دعمت مقاتلي داعش في البداية حين كانت تهاجم الكفرة والعلمانيين ، ولكن ليس  المجاهدين الآخرين كما أسماهم، كما تحدث عن أن تنظيم القاعدة دعم جهود داعش لمساعدة المسلمين على مستوى العالم ، ولكن ليس على حساب شق صفوف القاعدة والجهاد العالمي (٨). وحاول الظواهري حينها اظهار القاعدة كبديل عن داعش أقل تطرفا وأكثر حذرا باستهداف المدنيين والحواضن الاسلامية السنية في العراق وسوريا، سيما بعد الاستياء الواسع من سياسات داعش في استهداف معظم الفصائل التي رفضت بيعة أبو بكر البغدادي حتى الجهادية منها. كما انعكس الصدع والانشقاق على رموز وقادة ومنظري التيار الجهادي بشكل عام، حيث انقسموا بين من أيد خطوة البغدادي وتبنى استراتيجياته وراح يسن الفتاوي دفاعا عنها وتبريرا لها، في المقابل بقي قسم كبير من رموز الجهاد إلى جانب الظواهري ودعموا مواقفه من تنظيم الدولة وزعيمها أبو بكر، فيما بقي قسم آخر على الحياد وحاول أخذ دور المصلح بين الجماعتين ومحاولة رأب الصدع الذي ضرب الجهاد العالمي بأكبر انقسام شهده تاريخ الحركة الجهادية.

شعبوية داعش تقصي القاعدة:

محاولات الاصلاح تلك وخطابات الظواهري وتسجيلاته الصوتية لم تحدث أي فرق يذكر على نمو تنظيم داعش وتوسعه وانتشاره ، وتزايدت حالات البيعة لأبو بكر البغدادي وتنظيمه والتي كانت تأتي من خلف الحدود من تنظيمات جهادية محلية، فالسيطرة على مناطق شاسعة واحياء حلم الدولة الاسلامية أكسب داعش شعبية واسعة في صفوف الجهاديين المحليين والأجانب، لاسيما مع الضربات الموجعة التي نفذها التنظيم ضد الجيوش ”الوطنية“ في سوريا والعراق بالاضافة للهجمات المتزايدة التي ضربت كبرى العواصم الأوربية والتي تبناها تنظيم البغدادي وأعلن مسؤوليته عنها، فقد كان تنظيم الدولة الإسلامية أكثر عدوانية ضد الغرب من تنظيم القاعدة(٩)، وهو بالتالي سحب البساط من تحت القاعدة تقريبا على كافة الأصعدة، وشكل ملاذا للشباب الساخطين في البلدان الاسلامية من أنظمتهم الحاكمة ومن الدول الأوربية التي اعتبروها أنهم ساهمت بترسيخ تلك الأنظمة وامعانها بقهرهم وتردي وضعهم المعيشي وحالات البطالة والفقر، حيث لم تكن ممارسات القاعدة تمثل تأثيرا يذكر أو تشكل أي تهديد حقيقي لمصالح الدول الغربية أو أنظمة المنطقة يشفي غليل الشباب الساخط في البلدان الاسلامية، كل ذلك مضافا للكره الذي كان يعتمل بالصدور نتيجة الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان وما تبعهما من انتهاكات وجرائم كبرى، تم تسويقها على أنها استهداف للمسلمين وحرب على دينهم، وهو أيضا ما كان قد عززته تصريحات الرئيس الأسبق جورج بوش حين وصف هجماته وغزواته على المنطقة بالمقدسة وأعطاها بعدا دينيا.

صراع على السلطة؟

على الجانب الآخر يجادل البعض أن أحداث الربيع العربي جاءت لتحدث مرحلة تاريخية أخرى في حياة الجماعات الجهادية، فقد خلف انهيار الأنظمة وتفكك أو تقهقر الجيوش” الوطنية” حالة من الفراغ والفوضى في عدة دول عربية، سمحت للمجموعات الجهادية في السيطرة على مناطق مأهولة بعكس ما كان عليه الحال قبل هذه الحقبة، حيث كانت تلك الجماعات تتمركز في الجبال والصحاري والمناطق النائية غير المأهولة نسبيا. الواقع الجديد وفراغ السلطة وتمكن التنظيمات الجهادية من فرض سيطرتها على مناطق شاسعة ومدن ومحافظات بأكملها، كان سببا للتناحر على السلطة، ورغم الخلاف الفكري، الذي يقدر أنه تم اختلاقه وتسويقه لأغراض تخدم الطرفان المتنازعان الرئيسيان ، إلا أن هذا الخلاف لم تظهر له أي بوادر حقيقية من قبل الثورات العربية، ويقدر أن تمكن التنظيمات الجهادية السيطرة على آبار النفط ومقدرات مناطق وموارد مالية ضخمة من الزراعة والضرائب والتهريب والبنى التحتية،  أثار شهية أبو بكر البغدادي للتفرد بالسلطة واقصاء زعمائه السابقين ومنافسيه، وهو السبب الذي دفعه للانشقاق وتقديم نموذج جهادي مختلف عن القاعدة، يعتمد على مبدأ الخلافة واقامة الدولة الإسلامية، وهو ما دعاه لتنبي سياسات وتوجهات أكثر شعبوية تلامس الوجدان السني وتعزف بشكل أكبر على الأوتار المذهبية والتوترات بين المكونات الوطنية وفي ذات الوقت تظهر تستجيب للحنق المتزايد من السياسات الغربية في المنطقة ودورها في دعم الأنظمة المستبدة والدكتاتورية.

الانهيار والانشقاقات العكسية:

كل هذا تغير بعد خسارة تنظيم الدولة الإسلامية للموصل في يوليو / تموز 2017، وفرار مقاتلي داعش من الرقة في أكتوبر تشرين الأول 2017 (١٠). حيث شهد التنظيم سلسلة هزائم وانهيارات دراماتيكية متسارعة جعلته يخسر معظم المناطق التي كان يسيطر عليها وانحسر تواجده إلى بعض الجيوب المحاصرة والمناطق الصحراوية النائية في كل من سوريا والعراق، فخلال السنة الحالية استطاعت قوات النظام السوري مدعومة بالقوات الروسية من السيطرة على معظم المناطق السورية وازالة بقايا داعش من محافظة دمشق ودرعا وارسالها إلى مناطق بادية السورية، هذه الحملات وحصر الجهاديين في مناطق صغيرة ومحددة، تزامنت مع هجوم شنته الولايات المتحدة عبر وكلائها قوات سوريا الديمقراطية في المناطق الواقعة شرق نهر الفرات واستطاعت على أثرها من طرد داعش من الجيوب الأخيرة المتبقية له في محافظتي الرقة ودير الزور، وبقي محاصرا في عدة قرى في محيط بلدة هجين (١١)،جاءت تلك الهزائم لتشكل ضربة قاسية للتنظيم، بالإضافة للمساحات الجغرافية والموارد النفطية والمالية التي خسرها، فقد تضاءلت قدرة داعش على القيام بعمليات خارجية(١٢)،  وادت لانخفاض شعبية التنظيم في الأوساط الجهادية وتحميله مسؤولية الهزائم التي لحق بالتيار الجهادي عامة، وأثارت هذه الخسائر تساؤلات حول الحكمة من النهج العدواني لداعش ومدى نجاح استراتيجية ”ادارة التوحش“ والمواجهة المفتوحة، وأعاد طرح التساؤلات حول ما إذا كانت القاعدة ستستعيد قيادة الحركة الجهادية، لاسيما أنه في الوقت الذي كان يتعرض به تنظيم داعش لهزيمته الكبرى بانهيار دولته ، طفت ظاهرة انتقال قياداته وعناصره باتجاه المناطق التي يسيطر عليها تنظيم ”حراس الدين“ التابع للقاعدة ، حيث أشارت عدة تقارير أن المئات من عناصر داعش ممن استطاعوا العبور باتجاه ادلب، قد التحقوا بتنظيم حراس الدين محملين بأموالهم التي استطاعوا أن يهربوها معهم، وتبدو عملية الانتقال تلك قد تمت بمساعدة أو أقله غض طرف من قبل هيئة تحرير الشام التي يرعاها الجولاني والتي كانت المجموعة التي انشق عنها ما عرف لاحقا بتنظيم حراس الدين، والذي فضل الانشقاق عن جبهة الجولاني بعد أن فكت ارتباطها بالقاعدة.

تقارب القاعدة وداعش في الميدان:

 

بعد أن تخلى أبو محمد الجولاني بشكل كامل عن مبايعته لتنظيم القاعدة العالمي وسعى لملاحقة قياداته وتقليص نفوذه داخل الأراضي السورية، شكلت الفصائل المنشقة عن هيئة تحرير الشام نواة تنظيم جهادي جديد، ففي صبيحة السابع والعشرين من فبراير من العام الحالي، أعلنت تلك المجموعات عن تشكيل فصيل جهادي تحت مسمى حراس الدين والذي أعلن ولاءه لتنظيم القاعدة بشكل مباشر، كانت ركائز التنظيم الجديد من يعرفون بالتيار الأكثر تشددا داخل جبهة النصرة أو صقور القاعدة في سوريا (١٣)، وكان أبرزهم جيش البادية، جيش الساحل، سرايا كابل، سرايا الساحل، جيش الملاحم وأنصار الشريعة” وتولى الجهادي أبو همام الشامي قيادة التنظيم، بالاضافة لتشكيل مجلس شرعي خاص بالتنظيم يرأسه سامي العريضي ويضم أبو القسام الأردني وأبو جليبيب الطوباسي وأبو خديجة الأردني وأبو عبدالرحمن المكي وأبو حمزة اليمني، بينما أوكلت القيادة العسكرية لأبو القسام الأردني وهو شخصية قيادية من تنظيم القاعدة كان متواجدا والبعض يقول معتقلا في إيران، قبل أن يرسله أيمن الظواهري إلى سوريا كمندوب عنه في الشؤون العسكرية، ومع بدء الإعلان عن التنظيم الجديد أعلنت المزيد من الفصائل الأخرى مبايعتها لحراس الدين على السمع والطاعة والولاء لزعيم القاعدة أيمن الظواهري، ومنها كتيبة البتار العاملة في الساحل بالإضافة لسرية الغرباء في تلمنس وكتيبة أبو عبيدة ابن الجراح وكتيبة أبو بكر الصديق وسريتي الغوطة ودوما، وأبرز مناطق انتشاره في الساحل ومناطق من جبل الزاوية وريف إدلب، اضافة لمناطق أخرى من ريف حلب، هذا الانشقاق كان كفيلا بإضعاف موقف الجولاني في الساحة السورية، واستنزف نحو نصف عدد عناصره، كما أدى ابتعاد صقور القاعدة عن الجولاني لإفقاده الدعم العالمي والإقليمي وحتى المحلي الذي كان يحظى به من جمهور القاعدة وداعميها.  

الجهادية اليوم:

 

 

حتى بعد انهيار تنظيم الدولة الإسلامية ككيان مركزي يسيطر على مساحات جغرافية محددة، لاتزال الجماعات الجهادية تسيطر على مساحة من الأراضي في سوريا ، كمناطق البادية بالإضافة للخلايا النائمة التي تنتشر في عدة مناطق في سوريا، والتي خلفتها داعش ورائها بعد انسحابها من المناطق التي كانت تسيطر عليها. لكن وبعيدا عن سوريا والعراق اللتان تم تسليط الضوء عليهما كقاعدة أساسية للتنظيمات الجهادية، فإن العديد من الجماعات الجهادية المختلفة لاتزال تنشط في عدة دول في الشرق الأوسط وأفريقيا . في ليبيا نجحت داعش في الاستيلاء على مدينة سرت لشهور ورغم طردها إلا أنها لازالت قادرة على تنفيذ هجمات في عدة مناطق من البلاد (١٤)، وفي اليمن يتمتع الجهاديون بمساحة واسعة للتحرك على الرغم من تصعيد الولايات المتحدة لحملتها ضد القاعدة في شبه الجزيرة العربية. فقد ذكرت صحيفة نيويورك تايمز في الآونة الأخيرة أن “التهديد بهجوم إرهابي منطلقا من اليمن  لا يزال مرتفعاً في قائمة اهتمامات الإرهاب لدى الحكومة الأمريكية“ (١٥)، وتواجه مالي والصومال تمردًا قويًا من قبل الحركات الجهادية، سيما بعد أن بدأت قوات الاتحاد الإفريقي في خفض أعدادها في المنطقة، ما يرفع فرص جماعة حركة الشباب المجاهدين في أن تسيطر على جنوب الصومال. وفي الجهة الأخرى وتحديدا في أفغانستان وباكستان لاتزال  طالبان تظهر مزيدا من تنامي القوة، بالإضافة للمؤشرات التي تدل على أنها لاتزال على علاقة وثيقة بالقاعدة وخصوصا بعد اكتشاف منشأة تدريب للقاعدة تبلغ مساحتها 30 ميلا مربعا بالقرب من قندهار (١٦)،كما أقامت داعش موطئ قدم في أفغانستان، ونفذت سلسلة من الهجمات الإرهابية في البلاد، وبالرغم من أن تركيا لا توفر مساحات للتدريب أو معسكرات للجماعات الجهادية، إلا أن عدة تقارير صحفية أشارت أنه في السنوات الأخيرة  أبدى مسؤولون عسكريون أمريكيون انزعاجهم من رغبة تركيا المتنامية في إيواء الجهاديين بمن فيهم أولئك المرتبطين بالقاعدة (١٧)، كما شهدت مصر نشاطا متزايدا لداعش فيما تسميه “إمارة سيناء”  وقد نفذت العديد من الهجمات الارهابية كانت أعنفها الهجوم الذي استهدف مسجد الصوفية في شمال سيناء  وأودى بحياة أكثر من 300 شخص (١٨). وفي دول مثل تونس والأردن، تحولت الحركات الجهادية إلى قلق استراتيجي من الدرجة الأولى.

لاشك أن خسارة التنظيم للمساحات الجغرافية حرمه الفسحة التي كان يتمتع بها للتدريب وانشاء المعسكرات والتخطيط العملياتي والمجال الحيوي للتحرك وتنفيذ الهجمات أو دعم المهاجمين لوجستيا، وعاد التنظيم خصوصا في سوريا والعراق إلى تكتيك حرب العصابات وهجمات الكر والفر، وبصورة أعم عاد التنظيم إلى استراتيجية اللامركزية في حروبه أي الشكل القاعدي التقليدي للجهاد، ورغم أن بعض المصادر الميدانية تؤكد قدرة داعش على اعادة احتلال مدن بأكملها كالموصل أو تدمر أو حتى الرقة إذا ما استجمع قوته، لكن يبدو أن التنظيم يحجم عن خطوات كتلك، مستفيدا من الدروس والصفعات التي تلقاها مؤخرا، وهو يتجنب  حاليا السعي للسيطرة على أي مساحات جغرافية لا يمكنه الصمود فيها لمدد طويلة، وعليه يبدو أن التنظيم يعيش مرحلة مراجعة سياسية وفكرية ، وترتيب البيت الداخلي ، ولا يبدو انه هزيمته النهائية قد تحققت ، فقد أظهر قدرة عالية على المناورة والهجوم والانسحاب الى قواعده في الصحراء السورية والعراقية ، الامر الذي يعزز التقارير الميدانية التي تتحدث أن الخزان البشري لداعش لازال كبيرا، ويقدر عناصره بسوريا والعراق بأكثر من ٣٠ ألف مقاتل (١٩).

إعادة الانتشار: 

تاريخياً بعد حوادث مماثلة في أفغانستان والبوسنة، اختار قسم كبير من المقاتلين الأجانب العودة إلى أوطانهم، وهناك تمت إعادة دمج بعضهم سلمياً، لكن معظمها لم تتنجح معهم سياسات الاندماج (٢٠)، حيث أنشأوا خلايا إرهابية محلية، وشكلوا سندا لوجستيا وماليا للمجاهدين الآخرين في الصراعات المشتعلة في دول مختلفة، كما عملوا على تجنيد عناصر جدد لدعم الحركة الجهادية (٢١)، فقد كان المحاربون القدامى في أفغانستان سببا رئيسيا في توسع شبكة القاعدة، بما في ذلك تنظيم القاعدة في العراق، والجماعة الإسلامية في إندونيسيا، والقاعدة في شبه الجزيرة العربية. وبالمثل ساهم عناصر داعش المخضرمون في البوسنة والعراق في التوسع السريع في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك تجنيد المقاتلين الأجانب الجدد، والمرجح أن نرى نمطا مماثلا مع عناصر داعش الذين غادروا سوريا والعراق إلى بلدانهم مجددا، حيث سيعتمد حجم التهديد ستفرضه الحركة الجهادية مستقبلا، على قدرة هؤلاء العائدين من المقاتلين الأجانب على المشاركة في الهجمات المحلية لصالح داعش أو تنظيم القاعدة. وقد قدرت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية أن 40.000 شخص غادروا بلدانهم الأصلية وسافروا إلى سوريا والعراق للقتال (٢٢)، وقد غادر ما يقرب من 14،910 من المقاتلين الإرهابيين الأجانب هذه ساحات القتال. حيث عاد عدد كبير منهم عبر شبكات التهريب أو تم ترحيلهم من قبل تركيا، وما تبقى في السجون التركية او قوات سوريا الديمقراطية يقدر بنحو 30٪ من القوة الجهادية المقاتلة، والباقي يبقى تهديدا محتملا في أي هجمات مستقبلية، أو إنشاء خلايا إرهابية محلية خاصة بهم.

 

 

خلاصة: هدنة أم جيل الإرهاب الرابع الجديد:

إن الخسائر التي منيت بها التيارات الجهادية ساعدت على التقارب بينها مجددا، خاصة وأن داعش عادت لتكتيكات الجهاد التقليدية وباتت أكثر تشابها مع القاعدة، ويبدو أنها أجلت مشروع دولتها حاليا. ومؤخرا بدأ الحديث عن قيام اعدد من المنظرين السلفيين بمحاولة رأب الصدع بين التنظيمين، كما رشحت بعض التسريبات عن لقاءات تجري بين الشرعيين في داعش والقاعدة، في محاولة لتذليل الخلافات الفقهية  بينهما والتركيز على نقاط الإلتقاء في محاربة الدول الغربية والأنظمة الإقليمية. وحتى اللحظة لم يرشح ما يؤكد توافقا على توحيد الفصيلين في مركب سياسي وعملياتي جديد ، واعتماد ما يعرف في القاموس الجهادي ب “بيعات القتال المحلية ” لامراء الحرب في الساحاتن المختلفة ، خاصة مع تحول التنظيمات الى اللامركزية الإدارية والتنظيمية التي باتت سمة العمل  الجهادي في مرحلته الجديدة.

وبعكس الادعاءات التي تريد أن تروجها الحكومة الأمريكية، فلاتزال مسألة القضاء على الارهاب أو تقليص امكانياته بعيدة المنال، ولاتزال هناك الكثير من الأسباب التي تخلق جوا موائما للتطرف وانتشار الفكر الجهادي، فالظروف الكامنة التي غذت جاذبية التطرف على مدى العقود القليلة الماضية قائمة ولم تتغير، فالأنظمة الإقليمية تعيش أزمات بنيوية عميقة ، وتعد الإدارات التقليدية التي تتميز بالتسلط والفساد ، ومجالا خصبا للسخط والتمرد والفوضى . كما ان الفشل المستمر في عملية الانتقال السياسي في البلدان التي سقطت فيها الدولة ومؤسساتها ، يظل المجال الحيوي لعمل ونشاط المنظمات الإرهابية. وطالما لم تنجز الحلول الحقيقية  لأزمات الدول والمجتمعات ، وفي ظل فشل مشروع التنمية البشرية المستدامة فمن المؤكد أن قوى الإرهاب ستعيد تنظيم صفوفها والضرب مجددا في الخواصر العربية الرخوة .

 

 

 

 

  1. William McCants, The ISIS Apocalypse: The history, strategy, and Doomsday Vision of the Islamic State
    2. https://jihadology.net/2013/04/09/al-furqan-media-presents-a-new-audio-message-from-the-islamic-state-of-iraqs-shaykh-abu-bakr-al-%E1%B8%A5ussayni-al-qurayshi-al-baghdadi-announcement-of-the-islamic-state-of-iraq-an/
  2. https://www.bbc.co.uk/news/world-middle-east-28082962
  3. https://www.cbsnews.com/news/ap-20000-foreign-fighters-flock-to-syria-iraq-to-join-terrorists/

5.Lia Brynjar, Architect of Global Jihad: The Life of al-Qa’ida Strategist Abu Mus’ab al-Suri (New York: Columbia University Press, 2008)

6.Naji Abu Bakr, Management of Savagery: The Most Critical State Through Which the Ummah will Pass, trans. William McCants, unpublished manuscript, 2004.

7.https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0030438717300091

8.تسجيل لأيمن الظواهري “الربيع الإسلامي”
https://archive.org/details/systembioen_yahoo_1

9.https://www.foxnews.com/world/timeline-of-recent-terror-attacks-against-the-west

  1. https://www.bbc.co.uk/news/world-middle-east-41646802

11.https://syria.liveuamap.com

  1. https://www.foreignaffairs.com/articles/europe/2018-12-19/why-jihadist-attacks-have-declined-europe?cid=int-flb&pgtype=hpg

13.http://www.bbc.com/arabic/middleeast-46419251

14.https://www.longwarjournal.org/archives/2015/07/al-qaeda-in-the-islamic-maghreb-backs-jihadists-fighting-islamic-state-in-derna-libya.php

15.https://www.nytimes.com/2017/12/30/world/middleeast/yemen-al-qaeda-us-terrorism.html

16.https://www.nytimes.com/2017/12/30/world/middleeast/yemen-al-qaeda-us-terrorism.html

17.https://www.washingtonpost.com/world/national-security/double-game-even-as-it-battles-isis-turkey-gives-other-extremists-shelter/2016/07/10/8d6ce040-4053-11e6-a66f-aa6c1883b6b1_story.html?utm_term=.53e6be64a1f6

18., https://www.nytimes.com/2017/11/24/world/middleeast/mosque-attack-egypt.html

  1. https://www.telegraph.co.uk/news/2018/08/14/isil-still-has-30000-members-syria-iraq-un-report-finds/
  2. R. Kim Cragin, “The Challenge of Foreign Fighter Returnees,” Journal of Contemporary Criminal Justice

21.Cragin, “The Challenge of Foreign Fighter Returnees,” 2017

22.https://www.army.mil/article/185550/stopping_flow_of_foreign_fighters_to_isis_will_take_years_army_official_says

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.