الحركة الكردية في سوريا وأزمات الثقة مع الطرف الآخر

شيار خليل

حاولت الكثير من القوى الدولية والمحلية المجاورة في السنوات الأخيرة نزع الصفة الوطنية عن الحركة الكردية في سوريا؛ من خلال قولبة خطابها (القومي الوطني) ضمن الإطار الانفصالي “القومجي” وبتحريض أطراف إيديولوجية لفتح جبهات سياسية وعسكرية مع القوى والأحزاب الكردية، إلا أن وعي هذه الحركة وتاريخها النضالي الوطني والقومي جرد تلك المحاولات بطرحها مشاريع سياسية وطنية تختزل كل الجهود الرامية لاستبعاد الكرد عن الحياة السياسية الوطنية في سوريا، مع الحفاظ على القالب القومي لهذه الحركة ومطالبها المحقة ضمن سوريا.

إلا أن الحركة الكردية كانت وماتزال رهينة الصراعات الحزبية والشخصية في بيتها الداخلي، بالتزامن مع تبعيتها الفكرية والتنظيمية أحياناً كثيرة للأطراف الكردستانية الأخرى “البرزانية، الأوجلانية، والطالبانية”، الأمر الذي دفع الكثير من الأجيال الجديدة بالابتعاد عن تلك الأحزاب والانخراط فيها بشكل جدي. لكن رغم الصراعات الحزبوية داخل البيت الكردي فمازالت القضية الكردية كمبدأ القاسم المشترك الوحيد الذي مازال يوحد الصف الكردي في بعض المفاصل وتحديداً منذ انطلاقة الثورة السورية.

للخوض أكثر في هيكلية الحركة الكردية تنظيمياً وفكرياً، لابد من التعرف على بداياتها وخوضها تجربة الانشقاقات والخلافات التنظيمية والشخصية كما حال الأحزاب العربية في المنطقة.

بداية تأسيس التجمعات والأحزاب الكردية في سوريا

كانت جمعية خويبون “الاستقلال”  1927م أولى الخطوات الجدية لبدء الحركة الكردية بمعناها السياسيّ، فقد أسست المنظمة السياسية الأمّ للحياة السياسية في كردستان سوريا مجسدة الفكر القومي السياسي المترافق بالفن والثقافة والمسرح، لتكون النشاطات الفنية والثقافية غطاءاً على برامج الجمعية السياسية التي كانت تواجه الانتداب الفرنسي والإقطاعيين الكرد معاً، ساهمت “خويبون” بفتح الطريق لتأسيس “جمعية إحياء الثقافة الكردية” عام 1955 في دمشق، ذلك بعد فترة من تأسيس “الجمعية الثقافية السرية” في حلب عام 1951، ليكون ذلك نواة لانطلاقة أول حزب كردي في سوريا.

عام 1957 أسس مجموعة من السياسيين والمثقفين الكرد أول حزب كردي في سوريا تحت اسم “الحزب الديمقراطي الكردستاني”، وبدأت بالملاحقة أول مرحلة الوحدة السورية المصرية، حيث ضمت المجموعة المؤسسة عدد من النخب السياسية والفكرية الكردية منهم محمد علي خوجة الذي قتل في السجون  السورية عام 1965 وحميد درويش، عثمان صبري، رشيد حمو، شوكت نعسان، وحمزة نويران”، ولتعود السلطات السورية باعتقال قيادة الحزب في بداية الستينات.

بين اليمين واليسار انشقاقات كردية حزبية متتالية

بدأت أول عملية انشقاق في الحزب عام 1965، حيث شق عثمان صبري ومعه آخرون الحزب وسمي الحزب المنشق بـ “حزب اليسار الكردي في سوريا”، ذلك بذريعة يمينية الفكر السياسي ذات الطابع القروي والعشائري للقيادة الذي يتضارب مع فكرهم اليساري، في حين كانت الجماهير الكردية متأثرة وقتها بشكل كبير بالحزب الشيوعي السوري ومنخرطة بصفوفه في القرى والمدن السورية بكثافة.

اليمين واليسار كما كل الأحزاب العربية والشرقية شق الصف الكردي منذ تأسيس أول حزب كردي في سوريا، فتعددت من بعدها الأحزاب والكتل السياسية بما لا يتلائم أو يتناسب مع حاجة الكردي لتلك الأحزاب وتفرعاتها وأهدافها المشتركة في الكثير من التقاطعات، حيث كان الهم الوطني القومي العامل المشترك بين كل هذه الأجسام، بجانب سلمية تلك الحركات وعدم اتجاهها نحو التسليح. للاعتراف الدستوري بالشعب الكردي كثاني قومية في البلاد وكشعب يعيش على أرضه التاريخية، وحل المسألة الكردية بالطرق الديمقراطية في إطار سوريا واحدة إلى جانب المطالبة بمنح الحقوق الثقافية والسياسية والاجتماعية للكرد وصولاً إلى الحكم الذاتي في برامج بعض الأحزاب لإدارة مناطقهم.

التكتلات الكردية ما بعد الثورة السورية

مع بدايات الثورة السورية شكلت أغلب الأحزاب الكردية كتلة واحدة تحت اسم “المجلس الوطني الكردي” في مدينة القامشلي تشرين الأول عام 2011، ضم المجلس 11 حزباً كردياً بجانب التنسيقيات والفعاليات الاجتماعية والثقافية الكردية الأخرى، فخرجت الوثيقة الختامية للمؤتمر معززة الإطار الوطني لوحدة البلاد الجامع بين المعارضة بالاعتماد على اللامركزية السياسية وكيفية حل القضية الكردية بطرق سياسية سلمية، ولينضم بعد ذلك إلى الائتلاف الوطني السوري المعارض ويصبح جزءاً أساسياً منه.

وبالطرف المقابل تم تأسيس حركة المجتمع الديمقراطي في غرب كردستان والتي تمتد جذورها السياسية والفكرية إلى فكر عبدالله أوجلان حسب المؤسسين والمشرفين عليها، و تعتبر من أكثر الحركات تنظيماً وجماهيرياً. تهدف حركة المجتمع الديمقراطي للوصول إلى مجتمع سياسي ديمقراطي يتخذ من النضال التحرري الجنسوي وتحرير المرأة مقياسا لتحرر المجتمع، فرضت هذه الحركة نفسها بقوة في المناطق الكردية من خلال اتفاق سري حدث بين قادة العمال الكردستاني المنخرطين في الحركة والنظام السوري الحليف السابق للحزب، ذلك بتسليم المناطق الكردية لها والبدء بتأسيس المنظمات والمؤسسات الحقوقية والصحية والصناعية والثقافية، إلى جانب قوات حماية الشعب المسلحة بالتحالف مع الأحزاب والهيئات والعشائر العربية والآشورية في المنطقة.

إضافة إلى التحالف الكتلة التي تمارس عملها ضمن إطار كردي سوري خاص ويتخذ مواقف مشتركة من كافة القضايا الهامة سواء على الصعيد القومي الكردي والوطني، أو على الصعيد الوطني السوري، وهناك قوى سياسية كردية أخرى تعمل خارج هذه الأطر.

وعي الحركة الكردية وطنياً

ركزت الأحزاب الكردية رغم كثرتها على عدم الخوض في معركة العداء مع المكونات الأخرى سياسياً واجتماعياً، فكانت مطالبها تتمحور في الجانب الوطني السوري من مبدأ العيش الكريم لكل القوميات والإثنيات في المنطقة بالتزامن مع انتخابات حرة تفصل السلطات عن بعضها والدين عن الدولة، وتعزز حرية الرأي والتعبير في سوريا وبمشاركة متساوية للمرأة في الحياة السياسية. في حين كانت كافة الأحزاب الكردية في سوريا محظورة وغير مرخصة وأغلب أعضائها المعروفين ملاحقين من قبل أجهزة الأمن السورية، وهي تمارس نشاطها بشكل سري لغاية عام 2011 تقريباً حيث فقد النظام السوري السلطة على أغلب المناطق ومنها المناطق الكردية، وبالتالي كانت الأحزاب الكردية سباقة في فتح الجمعيات ومقرات الأحزاب السياسية في مدنها لممارسة نشاطاتها بشكل علني.

الصبر الكردي في امتحان المواطنة

كانت انتفاضة القامشلي الكردية عام 2004 نقطة هامة من تاريخ هذه الأحزاب ونضال الكرد السوريين في العصر الحديث، استطاع النظام السوري من خلال بعض ضباطه خلق حدث دموي أدى إلى مقتل العديد من الشبان الكرد في ملعب القامشلي واعتقال ما يزيد عن 5000 شاب، لتتحول الحادثة إلى انتفاضة كردية في كل سوريا، فكان ذلك كفيلاً لاختبار وجهة النظر السورية الأخرى للأحزاب السياسية المعارضة من خلال تضامنهم مع مواقف الحركة الكردية وقتها من أحداث القامشلي، حيث تضامن بعض المعارضين السوريين شركاء الحركة الكردية في “إعلان دمشق” المعارض مع الحدث بجانب تجاهل اجتماعي سياسي آخر لتلك الحادثة، الخوف الكردي من تكرار الحدث كان له الدور الأكبر هنا في شعوره بتهديد باطني لوجوده ومصيره ككردي على تلك الأرض.

كانت الثورة السورية امتحاناً آخراً للاعتراف بالحقوق الكردية ولكن هذه المرة ليس من طرف النظام السوري بل من قبل المعارضة التي كانت جنباً إلى جنب مع الحركة الكردية قبل الثورة السورية، شارك الكرد في الاحتجاجات ضد الأسد واندمجوا بالكتل السياسية المعارضة التي مثلت الثورة، لكن فشلت الأجسام السياسية السورية من جديد للوصول إلى إقناع الطرف الكردي بوجوده كطرف قومي وطني ضمن هذه الكتل، كان للإخوان المسلمين وأجهزة المخابرات التركية والسورية الدور البارز من تحت الطاولة في نشوب خلافات مصيرية بين المعارضة والكتل الكردية الأخرى. وتحديداً بعد أحداث رأس العين والهجوم عليها برئاسة أحد أطراف المعارضة السورية “نواف البشير”، وحرب داعش على “كوباني” بتسهيلات تركية، وصولاً إلى الحرب الجديدة من قبل الجيش التركي والمعارضة السورية المسلحة المتحالفة معه على مدينة “عفرين” في ريف حلب.

عدم تضامن الكتل العربية المعارضة مع المدنيين في عفرين، والتحريض التركي الذي جرى ومازال بين العرب والكرد في سوريا، خلق حالة عدم الثقة بين الطرفين “الكردي العربي”، وزاد من رصيد حزب العمال الكردستاني ممثلا بحركة المتجمع الديمقراطي الذي يقاتل ويدافع عن مصالحه وبالتالي استهداف التركي للمدنيين، حيث زادت أسهم العمال الكردستاني في سوريا “كردياً” ودخلت من جديد الحركة الكردية إلى أزمة صراعات داخلية بين أحزابها من خلال موقفها من هذه الهجمة، وردة فعلها من الصراع “الكردي العربي” المصطنع من قبل القوى الدولية “الروسية التركية” في المنطقة.

بناء الثقة محلياً ودولياً

لم تعد الأزمة الحالية بين كرد سوريا هي أزمة أحزاب وفكر وسياسة، إنما بعد معركة عفرين ومشاركة المرتزقة السوريين بالهجمة عليها ودمار منازل المدنيين وقتلهم بحجة وجود حزب العمال الكردستاني فيها؛ حدثت حالة عدم ثقة بالطرف المقابل الذي يمثل الثورة السورية سياسياً وعسكرياً ممثلة بتركيا، والنظام السوري المتخاذل ممثلا بروسيا. مما يشكل خوفاً بتنامي هذا الصراع وحالة عدم الثقة لتتحول إلى الحشود الاجتماعية المتعاطفة مع الأطراف السياسية كلا من طرفه.

وسط حالة الانقسام بين الكتل الكردية السياسية حاولت بعض القوى الدولية والمحلية المجاورة وبمشاركة حثيثة من النظام السوري بتحويل الصراع السياسي مع الكرد إلى صراع عربي كردي اجتماعي، وبالتالي اتهام الكرد بالانفصاليين والقومجيين المتحالفين مع قوى امبريالية وصهيونية، ولرأب هذا الصدع على الطرفين بناء الثقة محلياً بطرق اجتماعية وسياسية مساعدة للوصول إلى حالة من التعايش بين هذين المكونين سياسياً.

بالتأكيد صعود موجة العنف في سوريا خلال سبعة أعوام ماضية جعل صوت السلاح أقوى، إلا أننا يجب أن لا ننسى أن الكرد في سوريا جزء من الشعب السوري، شارك في الحياة السياسية والاجتماعية والفنية عبر القرون الماضية، ورغم ما حدث من حالات عدم الثقة مثل مارس/آذار 2004 “أحداث القامشلي” ومعركة عفرين وكوباني ورأس العين حافظت الحركة الوطنية الكردية في سوريا على وطنيتها كحركة تقدمية ديمقراطية مرتبطة بالهم الوطني. فالكرد أبناء الجبال ينسجون أحلامهم الوطنية / القومية بزرع شتلة زيتون أو حفنة من القمح في الأرض، ومنها يبنون أحزابهم السياسية ليندمجوا مع المحيط المنوع.

الخلاصة:

بالرغم من صعوبة وصول الخطاب السياسي الكردي وتشتت أحزابها داخلياً إلا أن الحركة الوطنية الكردية في سوريا بذلت جهوداً كبيرة للتقارب الكردي العربي في المنطقة بشكل عام وسوريا بشكل خاص، وساهمت لتعزيز الموقف الوطني بجانب الاعتراف الدستوري بديمقراطية الدستور واحترامه لحرية الشعوب في سوريا، وكانت سباقة في تعزيز مفهوم المواطنة والفكر المؤسساتي ضمن أحزابها وجمعياتها، بالتزامن مع خطاب سلمي واقعي مشكل لأرضية ديمقراطية لكل الحركات الوطنية في سوريا، وباعتراف كامل بالقومية الكردية التي تشكل جزءاً أساسياً من المزيج السوري المتصارع حالياً.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.