الاحتجاجات في  العراق: بين العوامل الداخلية والصراع الامريكي الايراني 

هلا السامرائي ، وحدة السياسات في مركز التقدم العربي – لندن

انتفاضة عراقية ضد النخبة السياسية ام ثورة جياع ام معركة كسر عظم بين الولايات المتحدة وايران مسرحها العراق ، تلك هي الاسئلة . فالتظاهرات العنيفة  اندلعت في ثلاث عشرة محافظة ذات أغلبية شيعية ، هي ذاتها من يتحكم في المشهد السياسي العراقي منذ ثلاثة عشر عاما ، وهي المناطق التي تشكل الخزان البشري للميليشيات المسلحة ، الذراع العسكري للاحزاب السياسية المتنفذه . الصورة توحي ان  جمهور هذه الاحزاب انقلب عليها بعد أن توجهت الجماهير الغاضبة بالحرق والتدمير لمقراتها على وجه التحديد ،  بل وجرى حرق صور الزعيم الايراني التاريخي اية الله الخميني في النجف ، مما يعطي انطباعا قويا ان التظاهرات تتجاوز المطلبي المشروع ، بالكهرباء والمياه الصالحة للشرب ومعالجة الفقر والبطالة الى رفض كل الطبقة السياسية التي تتهم اليوم بالفساد وتبديد المال العام . بعض القراءات تبدأ بتفكيك الوضع الحالي انطلاقا من الانتخابات البرلمانية والتي وصل حجم الاستنكاف والمقاطعة  الى نحو ٥٥ ٪ من العراقيين . أكثر التحليلات تطرفا تذهب الى أن ايران هي صاحبة المصلحة الحقيقية في انفجار الوضع في العراق ، خاصة وان المتظاهرين في البصرة استهدفوا حقول النفط والتكرير في البصرة ، من اجل وقف الإنتاج ورفع الأسعار عالميا استعدادا لموجة العقوبات الجديدة التي ستفرضها واشنطن على طهران ، فيما ذهب اتجاه آخر من التحليلات الى ربطها بالسعودية والولايات المتحدة ومصلحتهما في توجيه ضربة للنفوذ الايراني في العراق .

العوامل الداخلية للاحتجاجات

تتقاطع المعلومات والتحليلات المختلفة للانتفاضة الشعبية عند أسبابها الداخلية المباشرة ، مع انقطاع للكهرباء في البصرة والتي تصل الى عشر ساعات يوميا في وقت تجاوزت فيه درجات الحرارة الخمسين مئوية، بل وزادت نسبة ملوحة مياه الشرب الى ما يزيد على الأربعين بالمئة، رغم كل الوعود المستمرة من كل الحكومات المتعاقبة بتخصيص الموازنات لحل ازمة الطاقة ولتحلية مياه الشرب، كما ان معدلات البطالة في البصرة تصل الى ٨٠٪  بين الشباب تحت سن الثلاثين. وعلى الرغم من تحكم النخبة السياسية الشيعيه بمفاصل الدولة منذ الغزو الأمريكي عام ٢٠٠٣ ، الا ان المناطق الشيعية في الوسط والجنوب ظلت تعاني من اهمال حكومي وسوء إدارة وفساد واضح . البعض يضع اللوم على طهران التي توقفت عن تزويد البصرة بالطاقة الكهربائية ( 1000 ميجاوات) بعد رفض حكومة العبادي دفع فاتورة الديون المستحقة على الطاقة لإيران بالعملة الصعبة . اللافت في المشهد ان الاضطرابات انتقلت الى محافظات ذي قار وميسان والمثنى والنجف وكربلاء العمارة والناصرية وصولا الى العاصمة بغداد ، أي مناطق الخزان البشري لكل الفصائل الشيعية المسلحة وحواضنها الاجتماعية. فالمتظاهرون اقتحموا مطار النجف الدولي ، مما أدى إلى توقف حركة الطيران. واستهدفوا المباني الحكومية والمنشآت النفطية بالفعل ، واحرق المحتجون مكاتب الجماعات المسلحة ، بما في ذلك الحشد الشعبي و مكاتب حزب الدعوة ، ومكاتب قائمة الفتح النيابية  وتيار الحكمة ، بمعنى اخر تلك القوى المرتبطة بالمشروع الايراني  .

حكومة العبادي المنتهية ولايتها ردت بحزمة من الوعود تبدأ بتعيين عشرة الاف موظف مدني جديد ، وتخصيص مبلغ ثلاثة مليارات دولار  لتحسين الخدمات العامة في البصرة وإيجاد حلول عاجلة للنقص المزمن في المياه والطاقة. وارفقت الحكومة هذه الوعود بتقليص خدمات الإنترنت وحظرت العديد من وسائل  التواصل الاجتماعي، كما فرضت أيضا حظر التجوال في البصرة وكربلاء والنجف والمثنى لكن الخبر الذي انتشر كالنار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي كانت صورة طلبات التوظيف ملقاة في حاويات القمامة ، ما يشير ان العبادي ووعوده للتهدئة لا تلقى تجاوبا لدى وزرائه الذي ينفذون اجندات احزابهم وكتلهم السياسية المتصارعة على السلطة والنفوذ  .

فالاحتجاجات تتواصل في مختلف المحافظات وبلغت ذروتها الجمعة ٢٠ يوليو \تموز في العاصمة بغداد ، ما يشير الى ان ثورة الجياع كما اطلق عليها ، بدأت تأخذ طابعا سياسيا  ، اذ يرى بعض المحللين أن الاحتجاجات يمكن أن تؤدي إلى تغييرات سياسية جوهرية في البلاد ، وهو الامر الذي سيعيد تدوير كل الاتفاقات والتحالفات التي اعلن عنها بين الكتل السياسية لتشكيل حكومة جديدة ، وهو ما اعلن عنه صراحة رئيس كتلة سائرون مقتدى الصدر . ويبدو الامر وكأن الانتفاضة الحالية قد بدأت في تحقيق أهدافها ، بإعادة تركيب المشهد السياسي بغير الطريقة التي ارادها وهندسها الحرس الثوري الايراني وقاسم سليماني شخصيا  .

فالترتيبات الاخيرة لتشكيل الحكومة انزلت الزعيم الشيعي عن الشجرة ، ودفعته الى توقيع اتفاق مع كتلة الفتح التي يقف حلفها رجل ايران القوي هادي العامري وكل الميليشيات المسلحة التابعة لايران تسليحا وتمويلا ، وضم الى الاتفاق كتلة الحكمة الشيعية برئاسة عمار الحكيم وابقى الباب مفتوحا لكتلة رئيس الحكومة العبادي اذا ما اعلن خروجه الرسمي من حزب الدعوة . ولم يبق خارج التحالف غير صاحب الدولة العميقة نوري المالكي وكتلته الحائزة على  اربعة وعشرين مقعدا . وإذا ما اعيد النظر في هذه الخريطة الائتلافية بسبب الظروف الحالية ، فان بابا واسعا يكون قد فتح على مصراعية ، لمساءلة كل نتائج الانتخابات المشكوك في نزاهتها ، والتي لم تنته اللجان بعد من اعادة فرز الاصوات في بعض الصناديق ، واعادة الانتخابات في بعض الدوائر التي شابها التزوير الواضح باختفاء اصواتها بالحرق والاتلاف المتعمد . واذا ما استمرت الاحتجاجات الحالية ودخلت اطوارا جديدة من العنف والمواجهات مع قوات الامن ، فان كل الاحتمالات ستكون مفتوحة لازمة سياسية مركبة لا افق لحلها سريعا ، ما يعني استمرار حكومة العبادي لتسيير الاعمال ، حتى تتفق القوى السياسية والعوامل الاقليمية والدولية على مخرج من الازمة الحالية .

العوامل الاقليمية والدولية

من الطبيعي ان تذهب التقديرات لمستقبل الوضع السياسي في العراق الى بعده الذي يتصل بالجغرافيا السياسية في المنطقة  ، فالعراق يقف في مقدمة ساحات المواجهة الامريكية والخليجية مع النظام الايراني ، وتتقدم التقديرات التي ترقى الى مستوى الامنيات غير الواقعية في ان تصل الاحتجاجات الشعبية وفي القلب منها الطائفة الشيعية وقواها السياسية وميليشياتها المسلحة الى مرحلة تغليب الوطنية العراقية على الولاءات الخارجية لإيران. بعد ان فشل مشروع تحويل البلاد الى منارة للديمقراطية في المنطقة تفيض بتأثيراتها الى الجوار الإيراني ، وبشر المستشرقون في السياسة والأكاديميا الامريكية على الدوام  ، بأن تمكين الشيعة العراقيين من شأنه المساهمة في اضعاف النفوذ الايراني في المنطقة. وراهن هذا التصور التبسيطي على النجف وكربلاء لاستقطاب شيعة العالم على حساب المركز الايراني في قم ، لكن السنوات التي تلت سقوط صدام حسين الى اليوم أظهرت بجلاء خطأ وضحالة هذا التحليل ، فطهران لا زالت لها اليد العليا  على الوضع الداخلي العراقي وقواه الشيعية المختلفة بما فيها تيار مقتدى الصدر الذي ناور في السنوات السابقة بابتعاده عن المحور الايراني وقدمه البعض باعتباره ممثلا للشيعية العروبية في مواجهة الشيعية الايرانية ، لكن التحالفات التي عقدها الصدر وتكتله الانتخابي الفائز في الانتخابات مع جماعات طهران ، أظهرت ان الصدر لا يمكنه الابتعاد عن طهران ، ولا يمكنه التحول الى معول بيد الامريكيين او السعوديين في صراعهم ضد الدولة الايرانية. وتملك طهران اليوم اكثر من مئة الف مسلح هم قوام عشرات الميليشيات العسكرية العراقية ، قادرة على مشاغلة الوجود الأمريكي وإرباكه ، ومنعه من تشكيل قاعدة انطلاق من العراق في صراعه المحتمل مع ايران. وفي ذات السياق، لا يمكن المراهنة على خطوة رئيس الحكومة العراقية المنتهية ولايته بالتوجه للسعودية طلبا لحل مشكلة الكهرباء بعد رفضه الاشتراطات الايرانية بدفع الديون المستحقة بالعملة الأجنبية والتسبب في الازمة الحالية . فالرياض المشغولة بالحرب اليمنية وازمات أخرى في المنطقة ، ليس لها النفوذ والأدوات السياسية التي تمكنها من التأثير في المعادلة السياسية القائمة في العراق، ولا يمكنها الادعاء بالنفوذ على القوى السياسية السنية في العراق التي تعاني أزمات تنظيمية وانفضاض قاعدتها الاجتماعية ، وتأثيرات الجماعات الإرهابية التي حكمت المشهد السياسي السني لسنوات خلت. وكان واضحا ان الرياض اعطت وعودا طيبة لزوارها العراقيين بانها جاهزة لتزويد العراق بالكهرباء والتوسع في الاستثمارات السعودية ، لكن ذلك مرتبط بتشكيل حكومة متوازنة ،ولا تخضع للنفوذ الايراني . وتظل الرياض في موقفها الرصين اقرب الى دعم حالة الاستقرار الهش في العراق، والى دعم توافقات سياسية داخلية، تؤمن تشكيل حكومة ائتلافية، تمنع الانفجار غير المحسوب وتأثيراته الخطرة على المنطقة برمتها. وينطبق الامر على الموقف الأمريكي، الذي أيد الاحتجاجات ذات الطابع السلمي، وأعربت الناطقة باسم الخارجية عن ثقتها بحكومة العبادي وطريقة معالجة حكومته للتظاهرات. حتى اللحظة لا يبدو في الافق ان واشنطن يمكن ان تتورط في التدخل العسكري المباشر ، لكنها تراقب الامر عن كثب، وتناور بالضغوط والوعود لمنع الاستفراد الايراني بالحكومة العراقية المقبلة ، وقدرتها على تحريك أوراق اللعبة العراقية باتت ضئيلة ، لكن تطور الاحداث في العراق لمزيد من العنف والفوضى قد يدفع واشنطن بإدارتها المتطرفة الى خيارات جديدة .

الخلاصة:

رغم كل التقديرات التي تغلب الاسباب الداخلية ، المعيشية والمطلبية للاحتجاجات العراقية ، الا ان استمرارها وتطور شعاراراتها ومطالبها ، يشير الى أزمة مركبة لصراع وولاءات القوى السياسية الرئيسية في البلاد . وكما حصل مع اغلب الثورات العربية التي بدأت مطلبية مشروعة الا انها اختطفت وذهبت بعيدا بما يتجاوز المطلبي الوطني الى أجندات خارجية وحسابات أقليمية ودولية . فالعراق يقف اليوم على تقاطع خطر للمصالح والصراعات الدولية ، والرابع من نوفمبر \ تشرين ثان القادم هو الفيصل والناظم لمستقبل العراق ، فهو الموعد النهائي لبدء الحصار الفعلي على ايران ومنعها من تصدير نفطها ، وفرض عقوبات مشددة على الشركات والافراد الذين يشترون النفط الايراني . والحديث يجري عن انتاج  مليون برميل يوميا وكان مرشحا للزيادة الى مليوني برميل ، وسيكون العراق هو الساحة الخلفية الامنة لتعاملات النفط الايراني . من المرجح ان تستجيب تركيا كغيرها من الدول الاوروبية للضغوط الامريكية لوقف التعاملات التجارية مع طهران ، ولهذا تعتبر ايران ان معركتها لفرض حكومة موالية لها في بغداد مسالة حياة او موت . وعاجلا ام اجلا ستكشف الازمة العراقية وانتفاضة شعب غاضب على طبقته السياسية المتنفذه والفاسدة ، ان مركز الصراع الحقيقي هو في مكان اخر تماما  ..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.