التيارات السلفية في السودان

تلخيص لورقة سياسات

مركز تقدم للسياسات – لندن

 

البدايات:يعود تاريخ تأسيس نواة السلفيين في السودان إلى عام ١٩٣٦م على يد الشيخ أحمد حسون الكنزي الذي تتلمذ على يد شيخ مغربي يدعى عبدالرحمن أبو حجر الذي الذي طردته الحكومة البريطانية إلى الحجاز كونه من أنصار منهج ابن تيمية. غير أن أحمد حسون سافر إليه وأكمل تعليمه على يديه قبل أن يعود إلى السودان حامل أفكاره السلفية، بعدها بدأت آثار دعوة أبو حجر في التبلور في السودان إثر تجمع عدد من السلفيين بالبلاد إضافة للشيخ الكنزي، أبرزهم الشيخ الفاضل التقلاوي، والشيخ محجوب مختار، والأمين سيد أحمد، وجعفر الثوري، وأحمد ياسين، فتكونت بذلك “جماعة أنصار السنة المحمدية “بالسودان، تيمنا بجماعة أنصار السنة المحمديةبمصر، والتي تعتبر الحركة السلفية الأكبر، وصار الشيخ التقلاوي أول رئيس لها. أعلنت عن نفسها عام ١٩٣٩ وسجلت رسميا في ١٩٤٧ وتعاقب على رئاسة الجماعة ( عبد الله حمد، عبد الباقى يوسف النعمة ،عبد الله الغبشاوى) بعدها جاءت فترة محمد هاشم الهدية والتي كانت نقطة تحول في تاريخ الجماعة، ففي عام ١٩٥٦ حصلت الجماعة على التصديق بمنحها قطعة أرض لبناء الجامع الصغير الأول ثم الجامع الحالي سنة ١٩٦٧. بعد منتصف الستينيات بدأت علاقة الجماعة مع المملكة العربية السعودية عن طريق الشيخ العبيكان سفير المملكة بالخرطوم، الذي تعرف على الجماعة وتحمس لها ورتب علاقة الجماعة الرسمية بالرياض، وفتح لهم الابواب مع محمد ابراهيم آل الشيخ مفتي عام المملكة وبعده مع الشيخ بن باز، وكان الدعم السعودي المعلن في تلك الفترة للتيارات السلفية بهدف التصدي للمد الشيوعي والقومية الناصرية.
يعتبر أكثر من ٦٠% من أهل السودان مرتبطًا في ولائه الديني بالتصوف بينما لا تشكِّل الجماعات السلفية سوى ١٠% من الخريطة الدينية للسودان. 
والتطرف الديني في السودان الذي يكفر الحكام والمجتمع محصورًا في مناطق قليلة ومتباعدة مثل منطقة (أبو قوتة) في ولاية الجزيرة، ومنطقة (الفاو) شرق السودان، وبعض الجيوب الصغيرة في الدمازين ومنطقة كوستي، بالإضافة إلى تواجد بأعداد قليلة في العاصمة. وإلى وقت قريب، كانت السلفية السودانية محصورة بجماعة أنصار السنة المحمدية إلى أن أتت موجة ما يعرف بالأفغان العرب، والذين أتوا من أفغانستان بعد نهاية القتال ضد الاتحاد السوفيتي. وتوافدت هذه المجموعات، ومن بينهم أسامة بن لادن، للاستقرار بالسودان بداية التسعينيات مع انتهاج البشير ما يعرف بسياسة الباب المفتوح.

عوامل تطور التيار السلفي:

-أولا: التبني والدعم اللامحدود الذي وجده انصار السنة من المملكة العربية السعودية؛ فشيوخ السعودية كانوا يعتبرون انصار السنة هم المسلمون وما عداهم مبتدعة وقاموا بتزكيتهم لرجال المال فوجدوا دعما هائلا سخروه لنشر افكارهم وذلك عبر بناء المساجد والمعاهد وإنشاء مؤسسات الصحة والتعليم مع الالتزام بدفع مرتبات مريحة لمنسوبيهم من الدعاة؛ والطلاب الذين يرغبون في الدراسة في جامعات المملكة لا يتم قبولهم إلا بتزكية من المركز العام لجماعة انصار السنة.

-ثانيا: بعد انقلاب الإنقاذ ١٩٨٩ أصبح السودان مسرحا لنشاط السلفيين الذين قدموا من أفغانستان والمطرودين من بلدانهم العربية بحجة إقامة دولة الخلافة في السودان واحتضنهم النظام ووفر لهم ما يمكنهم من نشر افكارهم.

-ثالثا: بعد حرب الخليج الثانية أبعدت دول الخليج الشيوخ الذين رفضوا دخول القوات الامريكية للمنطقة وأعلنوا تأييدهم لصدام بدخول الكويت وعلى رأس هؤلاء عبدالحي يوسف ومحمد عبدالكريم ومدثر أحمد اسماعيل وغيرهم فوجدوا ترحيبا من النظام ومساعدة في إنشاء مراكز دعوية بتمويل من شيوخ الخليج الذين يتفقون معهم في أفكارهم.

-رابعا: استقرار أسامة بن لادن في السودان شجع ودعم الأفغان العرب الذين رافقوه، فانتشر فكرهم بصورة ملحوظة، مما شجع على ممارسة العنف الديني لأول مرة في السودان مثال على ذلك العدوان على مسجد انصار السنة ومسجد الجرافة وحادثة كمبو ١٠ في مدني.

-خامسا: شجع النظام السابق السلفيين في التسرب للمؤسسات الدينية والتعليمية مثل هيئة علماء السودان ومجمع الفقه الإسلامي وفي جامعة الخرطوم وجامعة القرآن. كما مكنهم من السيطرة على البرامج الدينية في الإذاعة والتلفزيون بل وأنشأوا قناة خاصة بهم تسمى “تلفزيون واذاعة طيبة.

-سادسا: مقابل الدعم الحكومي والخليجي اللامحدود مارس النظام قمعا وتضييقا على الكيانات الدينية غير السلفية مثل “هيئة شؤون الأنصار” والفرق الصوفية غير الموالية للنظام؛ فحرموا من حقهم المشروع في نشر الدعوة وصودرت مساجدهم ومراكزهم الدعوية وظللوا يترددون على المعتقلات والسجون طيلة فترة حكم الانقاذ ومنعوا من السفر مما أتاح الفرصة للتمدد السلفي.

جبهة الميثاق الإسلامي:

بعد قيام ثورة أكتوبر في منتصف الستينات كانت ذروة المد اليساري والناصري في الدول العربية، حينها شعر الإسلاميون السودانيون بالقلق والاستهداف من أن يصل الشيوعيون الى السلطة وينفردوا بها لينكلوا بهم مثلما فعلوا في مصر، ما دفعهم للتكتل في جبهة عريضة ضمت المتناقضات (أنصار السنة مع الإخوان والطريقة التيجانية). سميت بجبهة الميثاق الإسلامي وكانت هذه الجبهة تجسد لحظة تحول في تطور العمل السياسي لدى السلفيين.

لكن ممارسات زعيم الجبهة حسن الترابي «الاستبدادية» وقانون حظر الحزب الشيوعي الذي صدر من البرلمان عام ١٩٦٨م كانا سببًا في تصدع جبهة الميثاق؛ باعتبار ان ”الخطر“ الطارئ الذي تم التحالف على أساسه قد انتهى، فالشيوعيين الذي توحدت ضدهم الجبهة تم اعتقالهم وانهاء خطرهم وبالتالي لم يجد السلفيون أنهم بحاجة للإبقاء على تحالفهم مع الترابي.

جاء انقلاب ١٩٦٩م الذي قاده جعفر نميري بدعم من اليساريين بما فيهم الشيوعيين ليستهدف الإسلاميين في البداية وألقى بهم في السجون ثم ما لبث أن أطلق سراحهم مجددا شريطة عدم ممارسة النشاط السياسي وهذا ما التزم به مشايخ أنصار السنة فاعتزلوا العمل السياسي واتجهوا للدعوة.

انشقاقات الحركة السلفية

– شهدت حركة أنصار السنة المحمدية أول انشقاق لها عام ١٩٩٠ وأطلقت على نفسها تسمية” اللاجماعة“ وأهم مبادئها رفض العمل المنظم بأمير أو قائد، وتقول بان الانتماء للجماعات الإسلامية بدعة، ولا تؤمن بالعمل السياسي وترى أن ”من السياسة ترك السياسة“، وتدعو إلى وجوب طاعة الحاكم وتحرّم المعارضة السياسية، ومن أبرز قيادات هذه الجماعة الشيخ حسين خالد عشيش وهو داعية سوري استقر بالسودان منذ العام ١٩٩٠.

– فيما جاء الانشقاق الثاني للجماعة السلفية عام ١٩٩٢، بعد أن قامت مجموعة من أعضائها بتشكيل تجمع “الكتاب والسنة” التي شقت طريقا مغايرا يركز على الدعوة فقط و محاربة “الشرك والخرافة ومظاهر الشعوذة والدجل “، واهتمت بنشر الاسلام السلفي والتصدي للصوفية بالطرق الدعوية.

– أما الانشقاق الأكبر الذي ضرب صفوف الحركة فقد جاء بعد عودة نظام الإنقاذ الذي قاده عمر البشير متحالفا مع الترابي، والذي استطاع إقناع التيار السلفي -أنصار السنة- بالمشاركة في السلطة بوزير في الحكومة وبتمثيل في السلطات الولائية بعد توقيع اتفاقية  نيفاشا ٢٠٠٥ ثم تم التأكيد على تلك الخطوة بالمشاركة في فترة حكومة القاعدة العريضة ما بعد انفصال دولة جنوب السودان في ٢٠١١، وهو ما مكنهم من بناء استثمارات كبرى لاسيما في مجال الصحة والمستشفيات، والتي شكلت دخلا مستمرا وساهمت في انتشار شعبيتها بسبب تقديمها  خدمات مجانية للفقراء. غير أن قرار المشاركة في الحكومة كان كفيلا بشق الحركة السلفية بعد أن رفض أبو زيد محمد حمزة اقحام الحركة بالعمل السياسي والتحالف مع البشير والترابي، ما أدى لانقسامها إلى تنظيمين عام ٢٠٠٧، أحدهما بقيادة محمد حمزة وتم تسميتهم بأنصار السنة (الإصلاح) وحافظوا على معارضتهم لنظام البشير. والجزء الآخر بقيادة محمد هاشم الهدية واطلقوا على انفسهم  أنصار السنة (المركز) وهم ممن دخلوا بتحالف مع البشير والترابي، وبقيت الجماعة بشقيها تمارس العمل الدعوي بالوسائل السلمية حيث أنه لم يسجل عليهما أي دعوات للعنف أو العمل المسلح.

السلفية الجهادية أو السرورية السودانية:

تعتبر هذه المجموعة من أخطر التيارات السلفية ويمثل دخولها السودان تحولا في تاريخ السلفية ، رغم أنهم لم يؤسسوا  تيارا رسميا منظما، لكن أفكارهم ومنهجهم جمع بين العمل الدعوي والجهادي لتغيير الأنظمة السياسية، وتأتي تسميتهم نسبة إلى المنظر السلفي السوري محمد زين العابدين سرور الذي خرج من كنف الاخوان المسلمين، وبدأ بتشكيل مدرسة سلفية خاصة عرف منهجها بخليط أفكار من المنهج السلفي ومدرسة الإخوان والعقيدة الجهادية العنفية، لكنها حافظت على علاقات غير عدائية  بالاخوان المسلمين، تركزت دعوتها على وجوب تغيير الأنظمة بالعمل السياسي والعنف  إذا اقتضى الامر وليس الدعوي الديني فقط. ويعد عبد الحي يوسف من أبرز الوجوه التي تتبنى السلفية السرورية، كما يتردد اسم محمد عبدالكريم، وهو أقل تطرفا وكان قد صدر بحقة قرار ابعاد من السعودية بسبب تطرفه، ويتمتع ببعض الشعبية في الأوساط السلفية السودانية، وبين طلبة الجامعات. حيث كان إمامًا وخطيبًا لمسجد الكوثر بجدة قبل أن يتم ترحيله عام ١٩٩٣. وما أن استقر محمد عبد الكريم بالسودان حتى خلق تجمعًا كبيرًا من الشباب أطلقوا على كيانهم (الجبهة الإسلامية المسلحة) التي حاولت تنفيذ العديد من العمليات العسكرية، من بينها مذبحة كمب، كما أن عبد الكريم كان قد أفتى بتكفير الترابي وحلل قتله.

يبقى عبد الحي يوسف الصوت الأعلى في الأوساط السلفية المتطرفة والجهادية، وهو قد درس الشريعة في المملكة السعودية، ثم توجه إلى الامارات حيث كان امام جامع محمد بن زايد في أبو ظبي، تم ابعاده من الامارات عام ١٩٩٣ بسبب خطابه المتطرف، ومع عودته إلى السودان وجد احتضانا من نظام البشير والسلطة، وتم تعيينه في جامعة الخرطوم، ليصبح لاحقا رئيس لجنة الفتوى في مجمع الفقه الإسلامي ورئيس قسم الثقافة الإسلامية في جامعة الخرطوم، ويمتلك مجمعا إسلاميا ضخما يضم مسجدا وكلية للدعوة فضلا عن قناة وإذاعة طيبة.

 

السلفية الجهادية:
شكلت واقعة كمبو ١٠ في نهاية ١٩٩٣ أولى بدايات الظهور الجهادي المسلح في السودان وذلك بعد أن رفضت مجموعة من السلفيين المسلحين الذين يتبعون للشيخ السلفي محمد عبدالكريم الاستسلام للشرطة المحلية، ما أدى لوقوع مواجهات دامية، أدت لمقتل أمير الجماعة وعدد من أتباعه، بالإضافة لمقتل عدد من عناصر الشرطة السودانية.

بعدها بنحو عام قامت مجموعة أخرى من السلفيين يقودهم السلفي الليبي وأحد الحراس الشخصيين لأسامة بن لادن، عبدالرحمن الخليفي، بتنفيذ مجزرة بحق عناصر من جماعة أنصار السنة المحمدية في أم درمان، حيث أقدموا على إطلاق النار على المصليين في المسجد الرئيسي لجماعة أنصار السنة، ما خلف أكثر من ٦٠ قتيلا وجريحا. 
في العام ١٩٩٧ وقع اشتباك بين جماعة من السلفيين وجماعة من أنصار السنة بأحد مساجد الأخيرة بواد مدني عاصمة ولاية الجزيرة، حيث قُتل في الاشتباك ثلاثة من جماعة أنصار السنة وجرح آخرون.

وفي عام ٢٠٠٠، وقعت مذبحة أخرى لجماعة أنصار السنة، وذلك عندما قام شاب يدعى عباس الباقر من المجاهدين السابقين في أفغانستان، ومعه ثلاثة آخرون بإطلاق الرصاص على المصلين في صلاة التراويح وقتل وجرح أكثر من ٧٠ مصليا.

عام ٢٠٠٨ أثناء احتفالات رأس السنة، اغتالت مجموعة من الشباب السلفيين الدبلوماسي الأميركي غرانفيل وسائقه، وكان من بين المتهمين بالعملية عبدالرؤوف محمد حمزة، نجل زعيم جماعة أنصار السنة المحمدية(إصلاح) المنشقة عن المجموعة الأم عام ٢٠٠٧.

نهاية عام ٢٠١١ نشب توتر بين العناصر السلفية وأتباع الطرق الصوفية بعد أن قامت مجموعات مجهولة بنبش واحراق عدد من  أضرحة شيوخ الطرق الصوفية في منطقة العيفلون ٣٠ كم عن الخرطوم، ووجهت الاتهامات للعناصر السلفية في المنطقة، وبقيت الأجواء متوترة بين الطرفين، حتى توجت باشتباك مسلح خلال احتفالات المولد النبوي في يناير من العام ٢٠١٢، حيث أصيب على أثره العشرات من الطرفين قبل أن تتدخل الشرطة السودانية لفض الاشتباك.

 

خلاصة:

خصص نحو ٥٠ مسجدا في الخرطوم نهاية شهر ابريل\ نيسان، خطبة الجمعة، للهجوم على دعاة العلمانية وفصل الدين عن الدولة، والتشديد على التمسك بالدين والشريعة الإسلامية كمطلب لغالبية الشعب السوداني، وتزامن ذلك مع دعوات لمظاهرة تحشد لها كافة الأطراف الإسلامية في ميدان الاعتصام الرئيسي في الخرطوم. الامر الذي دفع المراقبين الى القول بأن تجربة (جبهة الميثاق الإسلامي) يعاد تجديدها، بعد أن استشعرت كافة الأطراف الاسلامية بتدني شعبيتها، وتوجسها من الاقصاء من الساحة السياسية ومن التأثير في المرحلة الانتقالية، لاسيما وان تيار الإسلام السياسي في السودان ممثلا بالمؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي تلقوا ضربة قوية بسقوط النظام السابق، ومعهم كل التيارات السلفية والاخوانية الأخرى. ومع تحول شعار فصل الدين عن الدولة والمواطنة المتساوية الى شعار رئيسي للثورة السودانية والادانة الواسعة لتجربة الإسلام السياسي التي انتجت دولة البشير بكل ما لحق بها من فساد وخراب اقتصادي واجتماعي وحروب أهلية مفتوحة وانفصال الجنوب، لا تستبعد المصادر، لقاء كل التيارات التي ارتبطت بالنظام السابق في تحالفات جديدة، ومواجهة مطالب القوى السياسية والمدنية، بفصل الدين عن الدولة والذي بات مطلبا شعبيا شاملا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.