هل تغيّر موقف أنقرة من دمشق؟ رصد الثابت والمتحوّل
د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات
ورقة سياسات
ملخص تنفيذي:
– تؤشّر تصريحات الرئيسين، السوري والتركي، مؤخرا إلى تقدّم المباحثات ونجاح الوساطات، لا سيما الروسية، في إزالة عقبات تطبيع في علاقات دمشق وأنقرة.
– تركّز الدبلوماسية التركية على مطلب توصُّل النظام والمعارضة في سوريا إلى تسوية تضمن وحدة سوريا وتمنع قيام كيان كردي مهدّد لأمن تركيا.
– بات أمن تركيا القومي وردّ خطر “الإرهاب الكردي” أولوية في سياسة تركيا حيال سوريا.
– رغم امتعاض المعارضة السورية من تحوّلات أنقرة، غير أن الأخيرة ما زالت تدفع إلى حلّ وفق القرار الأممي 2254.
– هاجس الهجرة السورية إلى تركيا بات عاملاً مهما في دفع تركيا لحلول جديدة، منها العلاقة مع دمشق، لوقف موجات الهجرة وتنظيم عودة طوعية للمهاجرين.
تقديم: أعطت تركيا في الأسابيع الأخيرة مجموعة من المؤشّرات المتراكمة التي تدل على استقرار في الشكل لمقاربة جديدة حيال سوريا تقوم على انفتاح مع دمشق ومضيّ في مسار تطبيع العلاقات مع النظام السياسي في سوريا.
والأرجح أن هذا التحوّل يأتي متناسبا مع مؤشّرات أُخرى صدرت عن دمشق تشي بتقدّم مباحثات خلفية بين البلدين من أجل تجاوز مرحلة القطيعة منذ عام 2012.
وفيما لاحت وساطة عراقية جديدة إلى جانب وساطة روسيا التقليدية في هذا الملف، إلا أن لهذا التطوّر أبعادا وتداعيات على شكل المشهدين الإقليمي والدولي وخرائطه.
الابعاد الإيجابية وشروطها:
توّج الرئيس رجب طيب أردوغان مؤشّرات التقارب بين تركيا وسوريا في تصريح أدلى به، في 28 يونيو 2025 قال فيه إنه “لا يوجد أي سبب لعدم إقامة علاقات بين تركيا وسوريا”. وجاءت تصريحات أردوغان تعليقاً على تصريح صدر عن الرئيس السوري بشّار الأسد، في 26 من الشهر نفسه خلال لقاء جمعه مع المبعوث الخاص للرئيس الروسي ألكسندر لافرنتييف في دمشق، قال فيه بأن “سوريا منفتحة على جميع المبادرات التي تهدف إلى تحسين علاقاتها مع تركيا”.
وتُعتبر تصريحات الرئيسين المتعاقبة أعلى مستويات التعبير عن تحوّل كبير حصل في دمشق وأنقرة مخالفا لسلسلة المواقف العدائية والمتشنّجة والمشكّكة التي شابت مواقف العاصمتين والرئيسين حيال احتمالات التقارب والمصالحة خلال السنوات السابقة. وقد رأى أردوغان في موقفه الجديد أنه “لا يوجد سبب لعدم إقامة العلاقات بين البلدين ومستعدون للعمل معاً على تطوير هذه العلاقات مع سوريا بنفس الطريقة التي عملنا بها في الماضي”.
وذهب الرئيس التركي إلى الإشارة بأنه “لا يمكن أن يكون لدينا أبدا أي نيّة أو هدف مثل التدخل في الشؤون الداخلية لسوريا”، مذكّراً بعلاقات جيدة بين البلدين في الماضي وبأنه عقدنا لقاءات (في الماضي) مع السيد (بشار) الأسد، وحتى لقاءات عائلية، ويستحيل أن نقول إن ذلك لن يحدث في المستقبل، بل يمكن أن يحدث مرة أخرى”.
وكان سبق تصريحي الرئيسين، السوري والتركي، موقف أدلى به وزير خارجية تركيا هاكان فيدان، في 24 يونيو 2024، قال فيه إن “تركيا تريد من النظام السوري استغلال حالة الهدوء ووقف إطلاق النار الحاصل “لحل المشكلات الدستورية” و”تحقيق السلام مع معارضيه”. وأشار إلى أن أنقرة لا ترى أن النظام “يستفيد من ذلك بما فيه الكفاية” وأكد على أهمية “توحيد سوريا حكومة ومعارضة”، “من أجل مكافحة الإرهاب في الحرب ضد حزب العمال الكردستاني”.
وقد أثار موقف الوزير التركي جدلا في صفوف المعارضة السورية، لا سيما لجهة دعوته إلى وحدتها مع النظام من دون شرح مسار احتمال من هذا النوع وشروطه. وبغضّ النظر عن هذا الجانب، فإن مواقف الوزير والرئيس التركيين بإمكانها أن تكون ثمرة مباحثات خلفية ناقشت أبرز ملفات الخلافات بين دمشق وأنقرة وقد تقود إلى عقد قمّة بين الأسد وأردوغان.
مرونة أردوغان وثوابت وزارة الخارجية:
وكانت محاولات بذلتها روسيا سابقا لم تنجح في إقناع البلدين في إنجاز تقارب على الرغم من لقاءات جرت بين أجهزة المخابرات وتطوّرت إلى لقاء جمع وزيري خارجية ودفاع البلدين برعاية روسية. وقد وصلت محاولات التطبيع إلى طريق مسدود مع إصرار دمشق على شرط مسبق يتمثل بانسحاب القوات التركية من الأراضي السورية. بالمقابل فإن أنقرة كانت رفضت هذا الشرط واعتبرت أن وجودها في شمال سوريا هو لدواعي دفع الخطر الذي يشكّله “حزب العمال الكردستاني” على أمنها القومي.
وتعتبر المواقف التركية الجديدة تطوّرا لافتا مختلفا تماما عن الثوابت التي ردّدتها أنقرة في مقاربة العلاقات التركية السورية. ورغم التقاط تغيّر في لهجة أنقرة حيال دمشق وودّ في تناول أردوغان لاحتمالات عودة العلاقات بين البلدين، غير أن تصريحات وزير الخارجية التركي قد لا تختلف في المضمون عن مواقف كان أدلى بها سلفه مولو جاويش أوغلو خصوصا لجهة التأكيد على المصالحة وتوحيد النظام والمعارضة.
وكان وزير الخارجية التركي السابق قد تحدث عن هذه الأهداف، في أغسطس 2022، ما أثار حينها غضبا واسعا في صفوف المعارضة في شمال سوريا ظهرت خصوصا من خلال مظاهرات شعبية. وكان جاويش أوغلو اعتبر حينها أنه “من الضروري تحقيق مصالحة بين المعارضة والنظام في سوريا، بطريقة ما”، وقال إنه “لن يكون هناك سلام دائم في سوريا دون تحقيق المصالحة”. فيما أشار وزير الخارجية الحالي في تصريحاته الأخيرة إلى أن “ما نريده أن يقيّم النظام السوري هذه الفترة من حالة عدم الصراع بعقلانية، وأن يستغل كل هذه السنوات كفرصة لحل مشكلاته الدستورية”، بما عبّر عن ثبات وليس تبدّلا في الموقف التركي.
وتوفّر تصريحات الرئيسين التركي والروسي بيئة راعية لمباحثات تجري على مستويات مختلفة ومن خلال وساطات متعدّدة (آخرها وساطة رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني) من دون أن تلامس مادة الخلاف. فيما بالمقابل، وتحريّا للموقف التركي الحقيقي، فإن ما صدر عن وزارة الخارجية في عهد جاويش أوغلو كما في عهد فيدان يعبّر بشكل واضح عن موقف أنقرة حيال ملفات الخلاف. كما أن تصريحات الجانبين الأخيرة أتت دائما على خلفية علاقات البلدين مع روسيا وتعليقا على سعيّها للتقارب بينهما. فإذا ما جاءت تصريحات الأسد في حضور المبعوث الروسي، فإن مواقف فيدان أتت بعد لقاء جمعه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو في 11 يونيو 2024.
الحلّ السوري: قواعد سياسة أنقرة:
تقوم مقاربة تركيا لتوحيد النظام والمعارضة على ثوابت في سياسة أنقرة حيال المسألة السورية تتعلق بالموقف من قيام كيان كردي في شمال سوريا على الحدود مع تركيا يكون تابعا لـ “حزب العمال الكردستاني” المصنّف تنظيما إرهابيا. ويمكن ملاحظة أن موقف أنقرة قد تحوّل منذ اندلاع الأزمة في سوريا من مساندة المعارضة وتطبيق القرار الأممي رقم 2254 كأولوية، إلى أولوية أخرى أكثر إلحاحاً تتعلّق بالأمن القومي التركي هدفها القضاء، عبر الأدوات العسكرية، أو الدبلوماسية الدولية، أو “الحلّ السوري” بين نظام ومعارضة لتقويض طموحات “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) و “حزب الاتحاد الديمقراطي” من ورائها لإقامة كيان قد يكون مشابها لسابقة قيام إقليم كردستان في شمال العراق.
ويؤكد خبراء في الشؤون التركية أن تقديم تركيا ملف المعضلة التركية على كافة الملفات، ولأسباب تركية ذاتية، يعيد تموضع أنقرة في موقع الدولة التي تدافع عن حقوقها ومصالحها لا في موقع المدافع عن حقوق المعارضة السورية ومصالحها ضد النظام. وهذا تحوّل يمكن أن يكون مفهوما من قبل النظام السوري، لا سيما أنه ينطوي على اعتراف من قبل أنقرة بالدولة السورية الحالية وشرعيتها ودورها في الحفاظ على أمن الحدود بين البلدين. ومع ذلك فإن أنقرة تدرك أن الأمر ليس تقنيا يمكن حلّه فقط باتفاقات جديدة أو العودة إلى تنفيذ اتفاق أضنة المُبرم بين الطرفين في عام 1998.
تلفت بعض التحليلات في تركيا إلى العوامل التالية في سياسة تركيا حيال سوريا:
•أنقرة ما زالت ترى أن أمن حدودها مع سوريا لا يمكن أن يتحقّق إلا من خلال حلّ جذري ونهائي للأزمة في سوريا.
•الموقف التركي من العلاقة بين النظام والمعارضة السورية لم يتغير وهو على حاله منذ سنوات.
•تركيا تريد حلا سياسيا في سوريا وفقا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 الذي ينصّ على تشكيل حكومة انتقالية ومصالحة بين النظام والمعارضة السورية.
•دعوة الوزير فيدان (وقبله جاويش أوغلو) إلى مصالحة النظام مع معارضيه تؤكّد أن تركيا بنّاءة وداعمة للحل السياسي، وأن المشكلة في دمشق التي ترفض الدخول في أي حوار بنّاء مع المعارضة السورية.
وتعتبر مصادر تركية مراقبة أن السياسة التركية حيال سوريا، وعلى الرغم من تأثّر التعبير عنها، بالتحوّلات والتكتيكات الظرفية، تقوم على عدّة قواعد:
1-العمل على إقامة حلّ سياسي في سوريا ينهي الصراع المتفاقم على حدودها. وفيما لم تنجح المساعي الأممية ولا المقاربات الروسية والإيرانية في فرض أمر واقع يحسم الصراع، وبالنظر إلى الموقف الأميركي الأوروبي الغربي الرافض لأي تعامل مع دمشق قبل الشروع بعملية سياسية جدّية، فإن تركيا ما زالت ترى في القرار الأممي 2254 مدخلا وحيدا حتى الآن للحلّ مع الدفع باتجاه الحوار بين السوريين لإنضاج تسوية خلاقة.
2-العمل على دعم وحدة الأراضي السورية ورفض أي سيناريوهات تقسيمية للبلاد، وخصوصا قيام كيان كردي مستقل أو يحظى بحكم ذاتي منفصل القرار والأجندة عن الدولة في سوريا. وسواء تحقّق الأمر بأدوات سورية أم تعذّر ذلك بسبب الانقسام الداخلي، فإن تركيا لن تسمح بإقامة “دويلة للعمال الكردستاني في سوريا”، وفق ما يُتشر من مواقف، وأن الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا الحالية تشكل تهديدا لسلامة الأراضي السورية، وأن الحفاظ على وحدة الأراضي السورية سيضمن الأمن القومي التركي.
3-العمل على إدارة أكثر تشدّدا لملف الهجرة من سوريا. ويجري ذلك من خلال إعادة تنظيم وقوننة الوجود السوري فوق الأراضي التركية، ومن خلال اتّخاذ إجراءات ميدانية لمنع تدفق موجات جديدة من المهاجرين وتسهيل العودة الطوعية للاجئين السوريين إلى بلادههم.
خلاصة واستنتاجات:
**من المهم ملاحظة التغيّر النوعي في لهجة المسؤولين الأتراك حيال احتمالات المصالحة والتطبيع مع دمشق. غير أن الواجهات الدبلوماسية لا تفصح عن أي أعراض لمعالجة ملفات النزاع بين البلدين وقدرة دمشق والوضع الإقليمي والدولي الراهن على تسهيل نوايا التقارب التي تفصح عنها أنقرة مع دمشق.
**تكرر وزارة الخارجية التركية ما قبل وبعد الانتخابات التركية الأخيرة ثوابت لم تتغيّر لجهة الدعوة إلى مصالحة بين النظام والمعارضة من دون أن تكشف أدوات جديدة لهذه المصالحة غير تلك التي ينصّ عليها القرار 2254.
**تخلت أنقرة عن أولوية في سياستها السورية تقوم على دعم المعارضة وانتقلت إلى أولوية أخرى تقوم على حماية أمن تركيا من أخطار “الإرهاب” المتمثل في قيام كيان كردي تابع لـ “حزب العمال الكردستاني” المصنّف إرهابيا في شمال سوريا. وتأتي الدعوة إلى “وحدة النظام والمعارضة” خدمة للأولوية الجديدة.
**المتوقع أن تتطوّر علاقات البلدين في الشكل حتى من دون حلّ جذري لملفات النزاع بسبب تعذّر أي حلّ سوري من دور بيئة دولية حاضنة مفقودة هذه الأيام بسبب الانقسام الدولي الذي تفاقم بعد حرب أوكرانيا.