مستقبل التعليم الالكتروني بعد كورونا (2)
الدكتور نهاد خنفر
ملخص تنفيذي
نستكمل في هذه الورقة ما بدأناه حول مستقبل التعليم الالكتروني والتعليم عن بعد، إثر الجائحة الكونية. كما نتطرق لتأثير الثورة الرقمية على مسارات التحول القادمة. بعد توقف الحياة الطبيعية والحجر المنزلي واضطرار البشرية للتحول للتعليم عن بعد، اختبرت خلالها المشاكل والحاجات الضرورية لكل القطاعات بدءا من المراحل الاولى للتعليم المبكر وحتى التعليم الجامعي بكل مستوياته. وفي هذا السياق لاحظنا غزارة الكتابات والأبحاث التي تناولت هذا الموضوع الحيوي، والذي لم يلق الاهتمام الكافي في بلداننا العربية والأخرى النامية، رغم المشاكل الجمة التي رافقت التجربة الاجبارية بالانتقال للتعليم عن بعد. قدمت الكتابات المختلفة في العالم المتقدم تصورات جديدة، تشير إلى أن التعلم عبر الإنترنت بات حقيقة أساسية في المستقبل وانه سيضيف أبعادا جديدة ومتطورة على المسار التعليمي، ما يعني أن التغييرات التي فرضها الفيروس التاجي على هذا القطاع مرشحة للبقاء والتحول الى نمط سائد في عملية التعلم والتعليم.
من الضروري الانتباه الى ان ارقام الاستثمارات العالمية القادمة في مجال تكنولوجيا التعليم” edtech ” ستقفز من 18.66 مليار دولار أمريكي في عام 2019 الى ما يقارب الـ 350 مليار دولار بحلول عام 2025. يشمل ذلك طبعا تطبيقات اللغة، الدروس الخصوصية، أدوات المؤتمرات، أو اي وسيلة وبرمجية اخرى للتعلم عبر الإنترنت، والتي شهدت طفرة كبيرة في الاستخدام منذ COVID-19. ما يجب الالتفات اليه ايضا بأن هذه الفترة ربما ستشهد تغييرا في التعليم عبر الانترنت على المدى الطويل، وسيعمل ذلك حتما على ازالة كثير من العقبات العملية التي تقاوم التحول، سواء في اوساط الطلاب او المدرسين على حد سواء.
مع انتشار الشكوك بإمكانية الحسم النهائي للوباء خلال فترة قصيرة وتزايد الآراء العلمية التي تتحدث عن إمكانية تجدده مرة أخرى وعلى نطاق واسع، فان الاستمرار في تطوير وتعميم الأفكار حول التعليم الالكتروني، ترتدي اليوم أهمية خاصة لأنها تخص كل بيت وتتجاوز حسابات الجغرافيا والسياسة والمصالح الاقتصادية الضيقة. فالتعليم باستخدام التقنيات الرقمية، يتيح للطلاب التوسع في الوصول الى المصادر المعرفية والمهارات الخاصة المساندة للمنهاج، كما تحمل ميزات مهمة مثل التقييمات المستمرة التي تمكنهم من التقدم في مجال البحث وتطوير الافكار، وربما اتاحة المزيد من الفرص لتوسيع الاطلاع والحث على التفكير النقدي الذي يتشكل جراء اعتماد الطلاب على أنفسهم بشكل أكبر. لذلك فان العديد من الخبراء يعتقدون بان هذه الفترة الطارئة من اعتماد وتجريب طرق ومنهجيات مختلفة في التعليم الالكتروني سوف يسرع اعتماد وتبني التعلم عبر الإنترنت وغيره من أشكال التعلم القائم على التكنولوجيا بعد انتهاء الازمة، لكونها فرصة حاسمة في تجاوز عقبات تقنية وعملية لها علاقة بثقافة أطراف العملية التعليمية.
متطلبات التحول والياته
من واقع تجربتي الخاصة كمحاضر جامعي، ومارست التعليم عن بعد قبل الجائحة وخلالها، أجد ان الامر يحتاج الى بعض الوقت حتى تستقر المؤسسات التعليمية على قرار نهائي للاشكال والاساليب التي ستتبناها في التعليم الالكتروني، لانها غالباً ما تفتقر حتى في الدول المتقدمة الى الوحدات والدوائر التي تدعم التعليم والموارد عبر الإنترنت، وهذا الموضوع يعود الى قصور الاستثمار المؤسسي اللازم لتحقيق تعليم فعال عن بعد على نطاق واسع.
سيكون مطلوبا من المؤسسات التعليمية توجيه أعضاء هيئة التدريس ومساعدتهم على ترجمة خبراتهم التعليمية إلى طريقة تعلم مختلفة، لكنها لا تعتمد على نواياهم الحسنة، وانما ترتبط بأطراف أخرى وسيطة وبالتطورات والابداعات التكنولوجية المدعمة لتقنيات التعليم عن بعد. لهذا فان المؤسسات التي استثمرت في تدريب أعضاء هيئة التدريس لممارسة التعليم عبر الإنترنت وصممت وطورت النماذج المنهجية المتعلقة ببرامج الدراسة الاكاديمية على الشبكة العنكبوتية ستكون في وضع أفضل. إلى جانب تكيف او تكييف أعضاء هيئة التدريس لأسلوبهم القديم في التعليم، ستحتاج المؤسسات التعليمية إلى خطط واضحة حول كيفية تقديم خدمات اكاديمية وادارية معينة للطلاب. وقد تشمل هذه الخدمات الإصدارات المتكاملة رقميا والمصممة لدعم الطلاب، وضمان وصولها الى الجميع وفي كل الظروف، ما يحتم على المؤسسات التعليمية تخصيص التمويل اللازم لسد الفجوة في هذا المجال.
في كل الاحوال على المؤسسات التعليمية ان تحدد الأدوات التي تتناسب مع برامجها التعليمية، وقد تحتاج بعضها الى تصميم برامج من الصفر للتواؤم مع مدخلات ومخرجات التعليم الالكتروني واهدافه وحيويته بالكامل ليخدم فكرة التعلم الذاتي، مثل المحاضرات المسجلة مسبقًا أو مساحات النقاش المفتوحة، والأدوات التفاعلية بين الطلاب والمحاضرين لتداول الافكار وتحليلها وابداء الرأي والمشورة والتوجيه بخصوصها. ولعل الاستثمار في تكنولوجيا الواقع المعزز سيكون له أثر هام في تطوير تقنيات التعليم الالكتروني عن بعد، حيث ان تقنية STEM للواقع المعزز على سبيل المثال يمكن ان تستخدم في تطوير اساليب تعليم الهندسة والرياضيات والبرمجيات وغيرها من مواضيع التكنولوجيا، بالاضافة الى موضوعات متنوعة في اللغات والعلوم الاجتماعية على اختلافها. وهناك الكثير من التطبيقات التي توفرها تقنيات الواقع المعزز والافتراضي يمكن من خلالها تطوير عملية التعليم عن بعد وبما يضمن بيئة تعليم تفاعلية قادرة على احداث فروقات هامة في مسيرة الطلاب اثناء تحصيلهم العلمي.
ان ذلك يساعد في خلق تجارب تعلم نشطة، يتم من خلالها انشاء الاتصال المتزامن، وتصميم الجلسات الصفية حسب الحاجة والموضوع، واتاحة فرص متكررة للطلاب للإجابة على الأسئلة والدفاع عن الإجابات، ومناقشة أقرانهم واساتذتهم، ومعالجة المشاكل التي تبرز اثناء التطبيق. يتوفر ذلك على سبيل المثال في منصة ” 3DBear ” التي تتيح للطلاب تشكيل المجموعات والفرق الدراسية؛ وتدفعهم الى العمل كفريق من خلال التعاون، والنقاش، ومحاولة تصميم الحلول للمشكلات التي تقابلهم، وهذا بحد ذاته ميزة اساسية في تطوير قدراتهم الاجتماعية، وكذلك اعدادهم ورفع جاهزيتهم لعملهم المستقبلي وحياتهم في اوساط مجتمعاتهم. تفيد عدد من التجارب التعليمية عن بعد ان الواقع الافتراضي والمعزز قد زودت الطلاب بإمكانية القيام بتجارب مخبرية كما لو كانت تجري في الغرفة الصفية او قاعات المحاضرات. الفارق الاساسي في كل ذلك هو تشجيع الطلاب على مشاركة ملاحظاتهم أسبوعيًا حول تجارب التعلم التي يقدمها أساتذتهم باستخدام التكنولوجيا التعليمية الجديدة. وبالممارسة العملية، استطاع المحاضرون استخدام ردود فعل الطلاب السلبية لتحسين ممارساتهم التعليمية عن بعد، وقد ساعد ذلك على تعلم وتطوير أفضل السبل لتلبية احتياجات التعلم من خلال الطلاب وتقييماتهم.
شروط واقعية لقيادة التحول
هناك شروط اساسية في الظروف الحالية لتبني خيار المنصات ليسهل على الجامعات تقديم تجربة تعلم عالية الجودة عبر الإنترنت. وذلك بالعمل على :
– توفير إمكانية الوصول إلى النطاق العريض في خدمة الانترنت مع أدوات اتصالات موثوقة، وتوفير الشروط المتساوية لاقتناء الاجهزة الذكية اللوحية والهاتف. وكمثال على ذلك أنشأت بعض الكليات في الجامعات البريطانية محطات “واي فاي” لأعضاء هيئة التدريس الذين لم تكن لديهم اتصالات قوية وموثوقة بما يكفي للسماح لهم بتحميل المواد على الإنترنت وتحسين جودة التواصل المرئي مع طلابهم.
– تصميم البرامج المناسبة للدورات التدريبية واتاحتها على الإنترنت للأفراد والمؤسسات التي تعنى بالتعليم، كنوع جديد من المواد الرقمية التفاعلية.
– على الجامعات تطوير ورفع كفاءاتها الرقمية الخاصة بها، بحيث يصبح ما بدأ كاستجابة قصيرة الأجل للأزمة ، تحولاً رقمياً دائماً في التعليم، او على الاقل عاملا مساعدا للعملية التعليمية خارج ظروف الازمة. وهنا يمكن للإداريين وأعضاء هيئة التدريس من أي كلية أو جامعة دمج برامج الدورات التدريبية الجاهزة وعالية الجودة على الإنترنت مع المؤسسات التعليمية الأخرى الموثوق بمناهجها الدراسية. وحتى تستقر كل مؤسسة تعليمية على اسلوبها ومنهجها الخاص، يمكن للجامعات البدء في تأليف المحتوى الرقمي باستخدام أدوات متاحة وفعالة من حيث التكلفة. ان التجربة العملية التي اطلقتها FutureLearn، كحرم جامعي الكتروني استجابة لهذه الأزمة تعطي المجال للجامعات بتقديم برامجها الحالية عبر الإنترنت للطلاب دون مقابل ويوفر مساحة لتطوير دورات مستقبلية مفتوحة للجميع، ومتاحة لطلاب الجامعة نفسها. كما يسمح لأعضاء هيئة التدريس باستخدام منصة يعرفونها بدلاً من تعلم التقنيات الجديدة، مما يوفر فرصة أفضل لنجاح تجربة أعضاء هيئة التدريس والطلاب معا .
تبرز الحاجة في هذه المرحلة الانتقالية في نوعية التعليم الى ادارة عملية ومتكاملة للتعلم (بدلاً من التدريس فقط). بحيث يكون للطلاب دور أساسي في العملية بدل الاعتماد فقط على المدرسين. يحتم ذلك أيضا المزيد من التعاون بين المؤسسات وبين المهنيين في ذات المجال وبين أعضاء هيئة التدريس والطلاب. سيساعد ذلك على الاقتراب من الطلاب وواقعهم اليومي وخلق بيئات تعليمية أكثر مرونة وتفهما. وكمثال على نجاح على ذلك عمليا، فان ByteDance المنبثقة عن منصة Lark التعليمية استطاعت ان تساعد المجتمع التعليمي في دمج المنصات التعليمية وتزويدها بقدرات الترجمة التلقائية، مع اتاحة الفرصة لتحرير المواد الخاصة بالمشاريع والابحاث الدراسية بشكل مشترك في الوقت الحقيقي المتزامن، مع انشاء اليات التقييم الذكية. كل ذلك يساعد في تخطي الكثير من العقبات الجدية في استمرار العملية التعليمية وتخفيف وقع الازمة عليها، وتحويلها الى ممارسة دائمة ومألوفة ليس فقط لوقت الازمات وانما للظروف الطبيعية.
خلاصة
تطوير البنية التحتية الرقمية ودعمها بتقنيات الاجيال المتقدمة لانترنت النطاق العريض ذو السرعات العالية يعتبر اساسا في تقديم حلول التعليم الالكتروني عن بعد. يضاف اليه رفع سوية وتأهيل أطراف العملية التعليمية وتزويدهم بما يلزم من الادوات التي تسهل انخراطهم في هذه العملية. وفقًا لبيانات منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي على سبيل المثال، فان 95٪ من الطلاب في سويسرا والنرويج والنمسا لديهم جهاز كمبيوتر لاستخدامه في انجاز مهامهم التعليمية، وتنخفض النسبة في اندونيسيا مثلا الى 34٪ فقط. حتى في دولة متقدمة مثل الولايات المتحدة، هناك فجوة كبيرة بين قدرة الطلاب على امتلاك الادوات المناسبة لتمكينهم من خوض غمار التعليم الالكتروني عن بعد، حيث أن جميع الأشخاص فوق ال15 عاما ويأتون من خلفية اقتصادية مميزة قالوا إن لديهم جهاز كمبيوتر للعمل عليه، في المقابل هناك ما يقرب من 25% فقط من أبناء الفئات المهمشة والفقيرة قالوا إنهم يمتلكون ذلك. بعض المؤسسات التعليمية والحكومات تقدم معدات رقمية للطلاب المحتاجين، كما هو الحال في نيو ساوث ويلز، أستراليا، بريطانيا، الا ان عدم القدرة على توفير جهاز كمبيوتر في مناطق كثيرة من العالم، يثير مخاوف حقيقية من أن الانتقال مع استمرار الوباء وبعده ، سيعمل على توسيع الفجوة الرقمية في المجتمعات ، ما لم يكن هناك جهود خاصة لجسرها.
وفي كل الاحوال فان الحكومات والقطاع الخاص مطالبون بالعمل على الاستثمار في البنى التحتية الرقمية وتطويرها لخدمة عملية تعليمية مفتوحة الافاق، ما يساهم في عملية التنمية وتوفير فرص أفضل للعمل. تشير الدراسات المتخصصة الى أن الوصول إلى التكنولوجيا الصحيحة لاستخدامها في التعلم عبر الإنترنت يمكن أن يكون أكثر فاعلية في المستقبل القريب ، حيث يستطيع الطلاب الاحتفاظ بما نسبته بين 25-60 ٪ من المواد عند التعلم عبر الإنترنت مقارنة فقط 8-10 ٪ في الفصول الدراسية. ويرجع ذلك في الغالب إلى أن الطلاب قادرين على التعلم بشكل أسرع عبر الإنترنت، يضاف الى ذلك الحاجة الى وقت أقل يصل الى النصف للتعلم مقارنةً بالتعليم التقليدي.
مصادر إضافية :
https://www.weforum.org/agenda/2020/04/coronavirus-education-global-covid19-online-digital-learning/
https://www.insidehighered.com/digital-learning/article/2020/03/18/most-teaching-going-remote-will-help-or-hurt-online-learning
How to Rethink Your University’s Approach to Online Learning