متغيّرات العلاقة الجديدة بين ترامب والخليج

د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات 

ورقة سياسات

 

 ملخص تنفيذي

طوّر دونالد ترامب علاقاته مع دول الخليج، في ولايته الأولى، مستفيدا من حالة نفوز في علاقة دول المنطقة مع سلفه باراك أوباما، وسعي الخليجيين من خلاله إنتاج سياسة تعاون بديلة.

تغيرت الظروف الإقليمية والدولية، وسيجد ترامب في ولايته الثانية مزاجا سياسيا خليجيا مختلفا، وقد يكون مناقضا لفلسفته في العلاقات مع العالم والشرق الأوسط.

 يتمسك الخليجيون بكسر حصرية العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، والإمعان في تنويع العلاقات مع دول العالم، لا سيما الصين وروسيا.

تغيرت علاقة دول المنطقة مع إيران، لا سيما منذ اتفاق بكين بين السعودية وإيران، ولم تجد واشنطن مذاك، وقد لا تجد، شريكا في المنطقة لسياسات أميركية معادية لطهران.

كشفت واشنطن في عهدي، ترامب وبايدن، عن سلوك متحفّظ على دعم أمن الخليج وشروط الدفاع عن دولهم، بما دفع المنطقة للاهتداء إلى بدائل ناجعة.

 

تقديم:

شكّل انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة عام 2016 حدثا رحبت به بعض دول الخليج كرد فعل على العلاقات الباردة التي اتّسمت بها علاقة الخليجيين مع الإدارة الأميركية خلال ولايتي باراك أوباما.

وعلى الرغم من إيجابية علاقات دول الخليج، لا سيما السعودية والإمارات، مع واشنطن إبّان ولاية ترامب الأولى، غير أن ردود فعل بلدان المنطقة على فوز ترامب في انتخابات عام 2024، بقيت بروتوكولية، كما تجنّبت خلال الحملة الانتخابية التعبير عن أي ميول صوب أحد المرشحيّن المتنافسيْن.

وقد تغيّرت على نحو لافت الظروف الخليجية والإقليمية والدولية بما يصعب معه مقارنة ظروف العلاقة مع ترامب سابقا بالظروف الراهنة. وقد لا تجد تلك العلاقة نفس البيئة الحاضنة والمرحبة التي توفّرت في مرحلة ولايته الأولى، لكنها تبقى علاقة أكثر إيجابية من تلك التي اتسمت بها العلاقة بإدارة بايدن.

 

*التخلّص من الأوبامية:

اتّسمت العلاقات الخليجية بترامب في الولاية الأولى، بتقاطع في الخطاب العام الأميركي-الخليجي، وجد واجهات حاضنة له في القمم الثلاث، الخليجية، العربية، الإسلامية التي دعت إليها السعودية بمناسبة زيارته إلى الرياض في مايو 2017. وتوّجت الزيارة بمجموعة اتفاقات دفاعية بقيمة 460 مليار دولار. كما وقع العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، وترامب إعلان رؤية استراتيجيةسعودية أميركية مشتركة‏ نص على “رسم مسار مجدد نحو شرق أوسط ينعم بالسلام وبسمات العمل الإقليمي والعالمي في القرن الـ 21”.

وقد التقت رؤية ترامب ودول الخليج في مسألة التعامل مع الحالة الإيرانية، لا سيما أخطار البرنامجين، النووي والصاروخي، والأنشطة المزعزعة للاستقرار في المنطقة. وأتى هذا الموقف الموحّد حيال إيران، مخالفا لما عملت عليه إدارة الرئيس باراك أوباما، سواء في إبرام اتفاق فيينا لعام 2015 المتعلّق بالبرنامج النووي الإيراني من دون أخذ مشورة وهواجس دول الخليج بعين الاعتبار، أم في النظرة إلى دول الخليج، والتي أفصح عنها أوباما في “عقيدته” التي نشرتها صحيفة “ذي اتلانتيك” عام 2016.

وقد أطلت الأوبامية من جديد بعد انتهاء ولاية ترامب واستلام الديمقراطي، جو بايدن، مهامه الرئاسية.

بدأت ولاية بايدن، في يناير عام 2021، باتخاذ مواقف سلبية في العلاقة مع بعض دول الخليج، على نحو مخالف لما كان سائدا في ولاية سلفه، ترامب. ورأى مراقبون أميركيون أن موقف بايدن جاء كيديا، والأرجح لدواعي تصفية حسابات مع ولاية ترامب. وكان لافتا أن بايدن وعد أثناء حملته الانتخابية بأن يجعل من السعودية دولة “منبوذة”، فيما اتّخذت إدارته قرارا مبكّرا بإزالة جماعة الحوثي في اليمن عن لوائح الإرهاب، مخالفا بذلك قرارا بالتعامل مع الجماعة بصفتها إرهابية كان اتّخذه وزير الخارجية، مايك بومبيو، قبل أيام من انتهاء ولاية ترامب في البيت الأبيض في يناير 2021.

 

ترامب والخليج الجديد:

تعرّضت العلاقة الخليجية مع إدارة ترامب في ولايته الأولى إلى شيء من التوجس في أعقاب تعرّض منشآت أرامكو في السعودية عام 2019 إلى ضربات صاروخية قيل حينها إن مصدرها قد يكون من إيران. وفيما أعلنت جماعة الحوثي مسؤوليتها عن الاعتداء، استغربت الأوساط الخليجية غياب أي ردّ أميركي على اعتداء تعرّض له حليف كالسعودية إضافة إلى أنه اعتداء يطال صناعة النفط وما يسببه من ضرر على سوق النفط العالمي. واستنتجت المنطقة لاحقا أن سلوك ترامب في هذا الصدد لم يختلف عن سلوك إدارة بايدن التي لم تُظهر أي رد فعل دفاعي حين تعرّضت أبو ظبي عام 2022 لهجمات شنّها الحوثيون.

ومع ذلك فإن دول الخليج، أو معظمها، تنظر بعين الارتياح إلى إدارة ترامب في ولايته الثانية، على الأقل في توفّر كيمياء بين الجهتين لم تكن موجودة في علاقة المجموعة الخليجية مع بايدن، حتى عندما تراجع عن مواقفه العدائية ضد السعودية وزارها في يوليو 2022. ومع ذلك فإنه يُعتقد أن تجربة ترامب في العلاقة مع الشرق الأوسط عامة، ومع دول الخليج خاصة، لن تكون شبيهة بتجربته في الولاية الأولى وامتدادا لها. لكنها بكل الأحوال لن تشهد نفورا على النحو الذي عرفته المنطقة في ولايات أوباما وبايدن وكان يمكن أن تعرفها في حال فوز منافسته، كامالا هاريس.

سيكتشف ترامب في ولايته الجديدة بيتا خليجيا تغيّر حاله عما عرفه وخبره أثناء ولايته الأولى. وعلى الرغم من مزاج خليجي عام يفضل التعامل مع ترامب في البيت الأبيض، إلا أن المنطقة تحفّظت عن إبداء أي علامات في شأن تعتبره شأنا داخليا أميركيا. غير أن دول مجلس التعاون الخليجي باتت تعيش واقعا آخر على علاقة بديناميات داخلية ذاتية، والموقف من التحوّلات الكبرى الذي شهدتها المنطقة والعالم.

 

*تحوّلات الخليج:

تعرّضت بلدان مجلس التعاون الخليجي لتحوّلات في السنوات الأخيرة نتيجة مجموعة من التجارب التي خبرتها من مرحلة الانقسام الداخلي، والتطورات الإقليمية منذ عملية “طوفان الأقصى” والحرب التي تلتها، والتطوّرات الدولية بسبب الحرب في أوكرانيا منذ فبراير 2022. ويمكن تسليط المجهر على التحوّلات الخليجية من خلال المعطيّات التالية:

1-أدرك الخليجيون، بعد تجربة ولايتي، ترامب وبايدن، خطأ التعويل على الولايات المتحدة ضامنا موثوقا وحيدا لأمن المنطقة. ما دفع الدول الخليجية إلى البحث عن وسائل جديدة، خلاقة، لتوفير مستوى أعلى من الأمن والدفاع، سواء عن طريق إيجاد أسواق أخرى للتسلّح، أم من خلال توسيع مروحة العلاقات مع دول العالم.

2-عملت دول مجلس التعاون الخليجي على تنويع علاقاتها في العالم، ورفع مستوياتها، وجعلها بنيوية، في الدبلوماسية العامة. وعمّقت هذه الدول علاقاتها مع دول مثل الصين وروسيا والهند وغيرها، بموازاة الحفاظ على العلاقات مع الدول الغربية لا سيما الولايات المتحدة.

3-اتّخذت دول المجموعة موقفا محايدا بعيدا عن موقف الولايات المتحدة وحلفائها من حرب أوكرانيا. وتمكنّت دول المنطقة من تطوير علاقاتها مع موسكو وعدم القبول بالانضمام إلى العقوبات التي فُرضت على روسيا، ومن تطوير علاقاتها بالمقابل مع كييف. كما لعبت السعودية والإمارات دورا مهما في التوسّط لتنظيم عمليات تبادل للأسرى بين طرفي الصراع.

4-باتت السعودية والإمارات دول أعضاء داخل مجموعة “بريكس” منذ يناير 2024، بما يؤكد مسارا لا رجعة عنه بمغادرة حصرية العلاقة مع الدول الغربية ومنظماتها الإقليمية.

5-أنهت دول الخليج “أزمة قطر” في قمّة العلا في 5 يناير 2021، وعملت وفقها على اتّخاذ إجراءات متدرّجة أعادت العلاقات الطبيعية البينية داخل مجلس التعاون الخليجي. ومن شأن ذلك أن يفرض واقعا واحدا بحمل هواجس واحدة.

6-رفضت دول المنطقة، لا سيما السعودية والإمارات الضغوط التي حاولت إدارة بايدن ممارستها على منظمة أوبك+ لرفع مستويات الانتاج والضغط على الأسعار في عامي 2021 و 2022. ومثّل الأمر حالة “تمرد” ضد محاولة واشنطن تجاوز آليات السوق وظروفها.

7-أظهرت دول المنطقة تبرّما من عدم نجاح “الاتفاقات الإبراهيمية” التي دفع بها ترامب، في التأثير على المسار الذي انتهجته إسرائيل في حربها ضد غزّة ثم لبنان، وغابت أي مبادرات لتطوير هذه العلاقات وتوسيعها.

8-أبدت السعودية حزما في عدم القبول بالاستجابة للجهود الأميركية، أثناء ولاية بايدن، من أجل تطبيع العلاقات مع إسرائيل من دون مسار يقود إلى قيام دولة فلسطينية. الأمر يجعل مشروع ترامبفي هذا الصدد يقف أمام استعصاء سعودي كبير يحول دون توسيع مجال “الاتفاقات الإبراهيمية” لتشمل دولا جديدة عربية وإسلامية.

9-تقود السعودية تحالفا دوليا لتنفيذ حل الدولتين أعلن عن تشكيله في سبتمبر 2024، وعُقد أول اجتماع له في الرياض، حضره ممثلون عن 90 دولة ومنظمة، في 30 اكتوبر 2024.

يعبّر هذا التوجه السعودي الخليجي العربي الدولي عن سير الرياض بوجهة مناقضة تماما لمشروع “صفقة قرن”، التي دعا ترامب إليها، واشتغل على إنجازها مستشاره وصهره، جاريد كوشنر.

10-أنهت دول المنطقة خلافاتها مع إيران من خلال مقاربات ثنائية وجماعية، تُوِّجت بالاتفاق الذيأبرمته السعودية وإيران في بكين في 10 مارس 2023. ووفق ذلك، فإن دول المنطقة رفضت انخراطها في أي عمل دولي ضد إيران ومصالحها في المنطقة، ولن تكون وفق هذا المنجز، من أدوات أية سياسات سينتهجها ترامب لمقاربة ملف إيران.

11-مقابل صمود دول الأوبك+، ومنها دول خليجية، أمام ضغوط إدارة بايدن، للتأثير على معدلات الإنتاج بما يخفّض الأسعار وبالتالي الموارد المالية للدول المنتجة، فإن خطط ترامب لرفع القيود عن أعمال الحفر لاستخراج النفط في الولايات المتحدة، والابتعاد عن سياسات دعم الطاقة النظيفة والانسحاب مجددا من اتفاقية المناخ، من شأنها رفع معدلات العرض في العالم وخفض أسعار النفط المنتج في الخليج.

 

*خلاصة واستنتاجات

**سيجد دونالد ترامب في ولايته الجديدة منطقة خليجية قد تغيّرت عما عرفه في ولايته الأولى. وهي منطقة أكثر تمسّكا بوحدتها، وحرصا على تنويع علاقاتها الدولية، والخروج من حصرية العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وحلفائها.

**لم تعد دول الخليج تجد، بحكم التجربة، وأيا كان الحزب الحاكم وهوية الرئيس في البيت الأبيض، في الولايات المتحدة الشريك الموثوق لضمان الأمن والدفاع عن المنطقة.

**باتت دول الخليج تبحث، بديناميات ذاتية وتنويع مصادر التسلّح والعلاقات الدولية عن استراتيجية دفاعية أخرى لتوفير شروط الأمن في بلدانها.

**أنهت المنظومة الخليجية انقسامها الداخلي وخلافاتها مع دول مثل تركيا وإيران، وحريصة على ألاتكون شريكة في أي سياسات وتدابير معادية لإيران.

**تتمسك المنطقة بعلاقاتها التاريخية مع الولايات المتحدة لكنها متمسكة في الوقت عينه بعلاقات متينة واستراتيجية مع دول أخرى مثل الصين وروسيا وغيرها، ولن تنحاز لواشنطن، لا سيما في إطار الصراع الاستراتيجي الأميركي مع الصين..

**تفرج المنطقة عن تبرّم من “الاتفاقات الإبراهيمية” التي دفع ترامب بها. فيما تفرج السعودية، في قيادتها لتحالف دولي لتنفيذ حل الدولتين، عن عزم على المطالبة بقيام دولة فلسطينية كشرط للانخراط في أي مسار لتطبيع العلاقات مع إسرائيل.

**قد لا تكون دول الخليج مرتاحة لسياسات ترامب في رفع القيود في بلاده عن التنقيب عن النفط، ما يوسّع العرض النفطي ويضغط على الأسعار وموارد دول الخليج المالية.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.