ما هي حسابات إيران في إدارة أزمة الردّ على اغتيال هنيّة في طهران؟
د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات
ورقة سياسات
• ملخص تنفيذي:
• تضع إيران توعّدها بالردّ ضد إسرائيل في إطار قانوني، انتقاما لانتهاك سيادتها، وليس في إطار سياسي، نصرة لغزّة وقضية فلسطين.
• فرضت حرب غزّة على طهران واقعا جيوستراتيجياً يملي ذهابها إلى الردّ، مقارنة بما قبل هذه الحرب، حين لم يحصل أي ردّ على انتهاك إسرائيل للسيادة الإيرانية.
• ترفض إيران الانجرار إلى حرب يريدها نتنياهو، وممكن أن تكون الولايات المتحدة جزءا منها، تنال من المكتسبات التي حقّقتها في برنامجها النووي.
• تسعى إيران لإدارة “أزمة الرد” والاستفادة من مكاسب يمكن تحقّقها أو من مخاطر يمكن أن تبعدها، من خلال الهجمة الدبلوماسية الدولية لتجنّب حرب كبرى في المنطقة.
• تمّ الاعتراف إقليميا ودوليا بإيران شريكاً في مفاوضات غزّة، وتبدو منخرطة مع الولايات المتحدة في لجم احتمالات نشوب حرب كبرى في المنطقة
•تقديم:
منذ عملية اغتيال اسماعيل هنّية، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” في 31 يوليو 2024، فرضت إسرائيل على إيران واقعا يفاقم الإخلال بـ “قواعد الاشتباك” المعتمدة. وعلى الرغم من قيام طهران بتنفيذ سابقة تاريخية في 13-14 أبريل 2024، حين ردّت بشكل مباشر بالصواريخ والمسيّرات على إسرائيل انتقاما لقيام الأخيرة بقصف القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من نفس الشهر، غير أن اغتيال هنيّة أثبت عدم نجاح الردّ الإيراني في رفع جدران الردع ضد إسرائيل ومنعها من مواصلة انتهاك السيادة الإيرانية والقيام بعمليات أمنيّة موجعة داخل الأراضي الإيرانية. وفيما توعّد مرشد الجمهورية الإسلامية، علي خامنئي، بردّ إيراني حتمي مباشر انتقاما لعملية اغتيال هنيّة وهو في ضيافة إيران، فأن جدلا يدور بشأن توقيت وطبيعة ومنافع “أزمة الردّ” داخل السياق الدولي العام.
• حسابات القانون والسياسة :
وضعت إيران سياق الردّ العسكري الواسع والمباشر من الأراضي الإيرانية، الذي نفّذته في أبريل 2024، ضد أهداف داخل إسرائيل في إطار الدفاع عن البلاد وأمنها وسيادتها، وهو أمر وجدت له تشريعا في القانون الدولي.
وكانت طهران التي استنكرت قيام إسرائيل باستهداف القنصلية الإيرانية في دمشق اعتبرت أن الأمر انتهاك للسيادة الإيرانية كون القنصلية هي ممثلية دبلوماسية تُعتبر، وفق اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961، جزءا من الأراضي الإيرانية. بمعنى آخر، فإن حوافز إيران ومسوّغاتها القانونية والسياسية لم تخلط ما بين الدوافع السيادية الإيرانية وموقف طهران السياسي من حرب غزّة المندلعة منذ 7 اكتوبر 2023.
غير أن حجّة انتهاك السيادة ليست كافية بحدّ ذاتها لتكون ذريعة مقنعة لانتقال إيران من الحرب بالوكالة، من خلال أذرعها في المنطقة، إلى مواجهة مباشرة قد تتسّبب في حرب شاملة مباشرة.
كان سبق لإسرائيل أن قامت بعمليات أمنية متعدّدة داخل الأراضي الإيرانية خلال السنوات الماضية استهدفت مواقع وشخصيات من دون أن تعمد طهران إلى الردّ على ما هو انتهاك للسيادة الإيرانية. ولئن استعانت إسرائيل في بعض الأحيان على تنفيذ عملياتها بالكتمان، غير أنها تفاخرت في أحيان أخرى بأنها وراء تلك العمليات. ومن أبرز العمليات الإسرائيلية تفجير في مفاعل نطنز في 11 أبريل 2021، والاستيلاء على أرشيف البرنامج النووي الإيراني في يناير 2018، واغتيال فخري زاده “أبو القنبلة النووية الإيرانية” في 27 نوفمبر 2020.
• النأي بالنفس عن حرب غزّة
لم تكن حجّة انتهاك السيادة كافية لانتقال إيران إلى مقاربة جديدة في وسائل وأنماط ردّها في مراحل سابقة. والواضح أن دوافع سياسية وجيوستراتيجية هي التي أملت تنفيذ ردّ مباشر إثر قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، في أبريل الماضي، وردّ موعود إثر اغتيال هنيّة، في يوليو الماضي.
ويمكن هنا ملاحظة أن التدخّل العسكري الإيراني المباشر لم يتمّ تفعيله إلا عندما أصبح يطال هيبة النظام الإيراني ومنعته في لحظّة إقليمية تتطلّب صيانة قوة ونفوذ الجمهورية الإسلامية في المنطقة وداخل المشهد الدولي.
ويمكن أيضا ملاحظة استمرار طهران في تجنّب أي انزلاق نحو المواجهة المباشرة مع إسرائيل لأسباب فلسطينية على الرغم من الدعم المعلن للقضية الفلسطينية وعلاقة الدعم المباشر لفصائل مقاتلة مثل حركتي “حماس” والجهاد”، وإدراجها الردّ الإيراني المباشر في إطار الدفاع عن إيران والأراضي الإيرانية.
لم تعلن إيران، حتى على لسان المرشد، توعدها بالردّ على مقتل هنيّة انتقاما للرجل بذاته بل انتقاما لتنفيذ عملية الاغتيال في العاصمة طهران، أي داخل الأراضي الإيرانية في قلب عاصمة البلاد. بمعنى أن طهران لم تكن لتكون معنيّة لو أن هنيّة قُتل في بلد آخر. يتّسق هذا الموقف مع تأكيد إيراني جرى ترويجه بعد تنفيذ “كتائب عز الدين القسام” التابعة لحركة “حماس” عملية “طوفان الأقصى” في غزّة في 7 اكتوبر 2023، بعدم علاقة الدولة الإيرانية بتلك العملية.
وفيما تدافعت التصريحات الصادرة آنذاك عن وزير الخارجية الراحل، حسين أمير عبد اللهيان، وقيادات سياسية وعسكرية إيرانية أخرى على أخذ مسافة من العملية بموازاة تأكيد استنكار الحرب الإسرائيلية في غزّة، فإن وكالة “رويترز” نقلت عن مصادر إيرانية أن المرشد، علي خامنئي، وجّه “تأنيبا” للراحل هنيّة (حين زاره في طهران في أوائل نوفمبر 2023) بسبب قيام حركة “حماس” بالعملية من دون إخطار طهران. وأكد خامنئي لضيفه حينها، وفق تسريبات إيرانية الأرجح أنها مقصودة لبعث رسالة دولية، بأن: “إيران لن تقاتل بالنيابة عنكم.
• السيطرة على الثوابت وضبط المتغيرات
بناء على قواعد المصالح وظروف الداخل ومتغيّرات المشهد الدولي تدير طهران بعناية “أزمة الردّ” بصفتها ميدان تجاذب تتقاطع داخله ضرورات “الهيبة” واستعادة “الشرف” (وفق تعبير منابر إيرانية) من جهة، ومتطلّبات الواقعية السياسية ومصالح النظام وشروط بقائه من جهة ثانية. وتتضح هذه الدينامية من خلال العوامل التالية:
1-تؤكد إيران أنها عازمة على الردّ على اغتيال هنيّة وترمي كثيرا من ظلال الغموض بشأن التوقيت، حتى أنها جعلت من الإطالة في تنفيذ الردّ تكتيكا هو جزء من الردّ الموعود.
2- ما زالت إيران تؤكد أن الردّ سيكون مباشراً، لكن الأمر قد يكون أيضا، وفق سيناريوهات ملوَّح بها، بمشاركة بعض أو كل الفصائل التابعة لها في المنطقة داخل “محور المقاومة”.
3-صحيح أن الخبراء يتحدثون عن ردّ عسكري قد يستخدم صواريخ دقيقة إضافة إلى المسيّرات والصواريخ الباليستية، غير أن ترجيحات دولية لا تستبعد اللجوء إلى هجمات سيبرانية شاملة تحدث شللا في قطاعات عسكرية ومدنية.
4- توحي الإجراءات اللافتة التي اتخذتها الولايات المتحدة لجهة توسيع وجودها العسكري البحري في الشرق الأوسط، بما في ذلك إرسال حاملتي طائرات استراتيجية (“يو إس إس أبراهام لينكولن” و “يو إس إس ثيودور روزفلت”)، إضافة إلى الدفع بمقاتلات من طراز F-22، وتأكيد واشنطن، لا سيما على لسان وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، تعهد الولايات المتحدة بالدفاع عن أمن إسرائيل، أن إدارة الرئيس جو بايدن تتخوّف جدّيا من أن يؤدي الردّ الإيراني إلى توسيع رقعة الحرب في غزّة لتشمل جبهات أخرى تكون إيران جزءا منها.
5- لا ينطوي توسيع الحضور العسكري الأميركي في المنطقة على شكوك فيما يمكن أن تذهب إليه إيران في ردّها فقط، بل أيضا على شكوك بشأن الردّ الذي قد تلجأ إليه حكومة بنيامين نتنياهو والذي قد يخدم أجندة الحرب التي يريدها نتنياهو مع إيران وتكون الولايات المتحدة جزءا منها.
6- بالمقابل فإن إيران، التي تعترف بوجود محادثات مع الولايات المتحدة عبر قنوات خلفية، يهمها في هذه الظروف البحث عن نقطة توازن بين ما تطمح إلى نيله من مكتسبات وما تتجنبه من نتائج في المديات العاجلة والبعيدة.
• تعظيم الأرباح وتحجيم الخسائر
تعمل طهران على إدارة “أزمة الردّ” من خلال ضبط التطوّرات الميدانية وإدراجها داخل دائرة إقليمية دولية أوسع. وتأخذ إيران في الاعتبار موازين القوى وميزان الخسائر والأرباح وفق المعطيات التالية:
أ- إضافة إلى قواها الذاتية التي كشفت عن جانب منها في الردّ الذي نفّذته ضد إسرائيل في أبريل الماضي، فإن إيران تمتلك تحريك جبهات في المنطقة، لا سيما في البحر الأحمر من خلال جماعة الحوثي، وفي العراق وسوريا ولبنان، من خلال الفصائل الموالية لها. بما يعني أن طهران تسيطر على هامش رشيق للمناورة في مداولات السلم والحرب.
ب- يدل التواصل الذي تقوم به قطر مع القيادة الإيرانية في الأسابيع الأخيرة لـ “وضع طهران في صورة” المفاوضات الحديثة بشأن صفقة لإنهاء الحرب في غزّة وفي أعقاب تعيين يحيّ السنوار رئيسا للمكتب السياسي لحركة “حماس” خلفا لهنيّة، أن طهران باتت جزءا من تلك المفاوضات، ولو بشكل غير مباشر، مع أطراف التفاوض الأخرى.
ج- تسعى طهران للاستفادة من عملية “استدراج عروض” ظهرت من خلال الحملة الدبلوماسية الإقليمية والدولية، برعاية الولايات المتحدة، لحثّها على عدم الردّ أو جعله مدروسا محسوبا لا يؤدي إلى مواجهة شاملة.
د- من مصلحة إيران، وهي التي أحرزت تقدما هائلا في مستويات تخصيب اليورانيوم داخل برنامجها النووي، أن لا تفقد هذا الامتياز بالانزلاق إلى حرب كبرى (قد تكون الولايات المتحدة جزءا منها) تستجيب لطموحات نتنياهو لضرب البرنامج النووي وإبعاد احتمالات القنبلة النووية الإيرانية.
هـ- يهمّ إيران أن لا تساهم الأزمة الحالية في رفع حظوظ دونالد ترامب للعودة إلى البيت الأبيض، بما يعني أن من مصلحتها عدم مراكمة الظروف المعطّلة لمسعى الإدارة الديمقراطية في واشنطن لإنتاج اتفاق في غزّة في الحدّ الأقصى أو عدم رفع مستوى العنف في المنطقة بالحدّ الأدنى.
و- تحاول إيران ألا تفقد زخم انتخاب الإصلاحي المعتدل، مسعود بزشكيان، رئيسا للجمهورية. وفيما يُعتقد أن “هندسة” حذقة قادت إلى فوز بزشكيان وإزاحة منافسيه المحافظين، فإن طهران تعوّل على نجاحه في تنفيذ برنامجه في الانفتاح على الغرب، والولايات المتحدة خصوصا، ما يقود إلى الاعتماد على نهج، حتى في حال الردّ على إسرائيل، لا يطيح بخطاب الرئيس الجديد وطموحاته.
ز- رغم خطورة الردّ الذي نفّذه حزب الله في 25 أغسطس 2024 انتقاما لاغتيال القيادي فؤاد شكر في 30 يوليو 2024، فإن ضبط الردّ والسيطرة على تداعياته، حتى الآن، يكشف عن استفادة طهران من شراكة مع واشنطن لتجنيب المنطقة حربا كبرى.
خلاصة واستنتاجات:
**تفرض عملية اغتيال اسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” على القيادة الإيرانية واقعا محرّجا يملي ردّا إيرانيا مباشرا مضادا انتقاما لـ “انتهاك إسرائيل لسيادة” البلاد.
**تحتاج إيران إلى إدارة “أزمة الردّ” بما يحمي سمعتها وهيبتها داخل “محور المقاومة” كما داخل المشهدين الإقليمي والدولي.
**رغم تعدد سيناريوهات الردّ، بما في ذلك مشاركة الفصائل التابعة لطهران في المنطقة، غير أن طهران تسعى إلى ضبط الردّ وجعله تحت سقف محسوب.
**من مصلحة طهران عدم استدراج حرب تنال من برنامجها نووي، وعدم تهيئة ظروف عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وعدم فقدان أوراقها في ملفات عديدة في المنطقة.
**الاعتراف بإيران شريكا في مفاوضات غزّة، يمثل اعترافا إقليميا دوليا من شأنه دراسة طهران لميزان الأرباح والخسائر في أي ردّ.