لماذا لم يتقدم “اتفاق بكين”:

العوامل الكابحة للتطبيع الكامل بين السعودية وإيران
د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات.
ورقة سياسات.

ملخص تنفيذي:
– أنهى الاتفاق السعودي الإيراني في بكين التوتّر بين البلدين وأعاد تطبيع العلاقات بينهما، لكنه بقيّ محدودا ولم يرتق إلى مستويات متقدمة.
– رغم زلزال حرب غزّة وتناقض مقاربتي الرياض وطهران للحدث، أظهر البلدان حرصا على اتباع دبلوماسية لا تضرّ باتفاقهما، حتى لو اختلفت حساباتهما في التعامل مع الحرب ومآلاتها.
– لم تلاحظ الرياض مفاعيل لاتفاق بكين على سلوك إيران المعتمد على فصائلها الموالية في المنطقة. كما لم تجد مفاعيل للاتفاق لإنهاء النزاع في اليمن. ولم يمنع من اشتعال أزمة حقل الدرّة النفطي.
– استنتجت طهران عدم تقدم السعودية بشكل كبير في مجال الاستثمار في إيران وعدم مباشرة مسار لإقامة نظام أمني إقليمي مستقل عن القوى الكبرى.
تقديم:

بعد مرور 14 شهرا على إبرام اتفاق بكين بين إيران والسعودية في 10 مارس 2023 برعاية الصين، ورغم قيام البلدين باستئناف العلاقات الدبلوماسية وتراجع حدّة الخطاب المتبادل إلى حدود دنيا تكاد تكون صفرية، فإن مستوى تلك العلاقات لم يتقدم وبقي محدودا مكتفيا بالمظاهر الشكلية للعلاقة. وعلى الرغم من جديّة الخلافات وجذريتها على مدى العقود الماضية، فإن البلدين تمكنا مع ذلك من التمسّك بالاتفاق وروحيته على نحو جنّب الاتفاق الزلزال الذي أصاب المنطقة منذ 7 اكتوبر 2023. ومع ذلك فإن أسئلة تدور بشأن آليات الحفاظ على الاتفاق والكوابح التي تمنع تطبيعا كاملا لعلاقات البلدين في كافة المجالات.

بيئة حاضنة لنفوذ الصين:

اشتركت السعودية وإيران على نحو لافت في توفير بيئة ثنائية حاضنة لنفوذ الصين في الشرق الأوسط وتمدده داخل ملفات المنطقة. ولئن يُعتبر الأمر منطقيا بالنسبة لإيران بالنظر إلى علاقات البلدين والاتفاق الاستراتيجي بينهما (يونيو 2020) والموقف المشترك المنتقد لواشنطن، فإن شراكة السعودية في تمكين الصين من لعب أدوار جديدة في المنطقة تُعتبر خطوة مثيرة للاهتمام بالنظر إلى:
•العلاقات التاريخية بين الرياض والولايات المتحدة
•إدراك السعودية لحساسية واشنطن الشديدة من احتمالات توسيع التأثير الصيني في منطقة تعدها الولايات المتحدة من حدائق نفوذها التاريخي في العالم.
الواضح أن تناقض حسابات السعودية وإيران لم يمنع من الضلوع في “مغامرة” اتفاق بكين أيا كانت ردود الفعل الدولية عليها في ظل التحوّلات التي أحدثتها حرب أوكرانيا والمواجهة المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين.
وعلى الرغم من ارتباك واشنطن حيال ذلك الاتفاق، غير أن مستشار الأمن القومي جيك سوليفان اعتبر في ديسمبر 2023 أن “الصفقة التي توسّطت فيها الصين بين إيران والمملكة العربية السعودية خفضت جزئيا التوترات بين هذين البلدين، وهو تطور تريد الولايات المتحدة رؤيته أيضا”.

حدود الاتفاق: تحفّظات الطرفين:

يعترف البلدان أن الاتفاق خفّف من حدّة التوتّر في المنطقة، لا سيما لجهة سحب فتيل الفتنة المذهبية التي ظهرت أعراضها بحدّة بين جماعات شيعية وسنّية في عدد من دول المنطقة. وفيما كان من المفترض أن يتيح اتفاق بكين، كما أي اتفاق بين دولتين، إلى تطبيع كامل في كافة المجالات المشتركة في السياسة والأمن والدفاع والثقافة، إلا أن مفاعيله بقيت متواضعة محدودة بطيئة النمو. ويؤشر الأمر ربما إلى عدم إيمان الطرفين بنهائية هذا الاتفاق وصموده في عالم شديد التحوّل، وسعيهما مع ذلك إلى الاكتفاء بما يوفّره الاتفاق من منطلقات يمكن البناء عليها لاحقا.

*تحفظات إيران: وقد راقبت إيران تطوّر الجهود الأميركية لدى السعودية من أجل ضمّ المملكة للاتفاقات الإبراهيمية التي وقعتها كل من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان مع إسرائيل عام 2021. ورغم موقف إيران المدين لهذه الاتفاقات واللهجة المنتقدة للدول العربية الموقّعة عليها، غير أنه لم يصدر عن طهران أي موقف من هذا الاحتمال مع السعودية.
صحيح أن الرياض لم تؤكّد حتى الآن ذهابها باتجاه إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل واشترطت من أجل هذا الاحتمال اتفاقا أمنيا دفاعيا مع الولايات المتحدة و “مسارا لا رجعة عنه لإقامة دولة فلسطينية”، غير أنه كان بإمكان إيران، لولا وجود اتفاق بكين، مهاجمة الرياض وانتقاد مسار المفاوضات الجارية منذ أشهر مع واشنطن من أجل إبرام اتفاق تاريخي بهذا الاتجاه تحتاجه إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن قبل الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل.
ويتسرّب من بعض التعليقات الإيرانية على مسار الاتفاق استنتاج مفاده عدم انتقال السعودية إلى مرحلة أعلى في العلاقات الثنائية بما في ذلك دفع الاستثمارات باتجاه الاقتصاد الإيراني وتطوير علاقات البلدين الأمنية باتجاه إرساء منظومة أمنيّة إقليمية تدير شؤون المنطقة ذاتيا من دون تدخل القوى الكبرى. ولئن يمكن للعقوبات الأميركية أن تكون سبّبا وجيها رادعا للشركات السعودية للتعامل مع إيران، غير أن جهات إيرانية تتساءل كيف يمكن للإماراتيين أن يكونوا ثاني أكبر شريك تجاري لإيران فيما لا يستطيع السعوديون اتّخاذ خطوات في هذا الاتجاه. ويتخوّف الإيرانيون من أن تتمسّك الرياض بالحدّ الأدنى من اتفاق بكين بالمستوى الذي تستفيد منه السعودية من دون أن تستفيد إيران الكثير من نفس الاتفاق.

تحفّظات السعودية:
بالمقابل استنتجت السعودية منذ اتفاق بكين التزام طهران، وحتى الفصائل التابعة لها في المنطقة، بما تفرضه نصوص وروحية الاتفاق من ضبط للهجة الخطاب الإيراني حيال السعودية وانضباط مؤسّسات طهران العسكرية والأمنية والدبلوماسية بأصول العلاقة الجديدة بين البلدين. بالمقابل فإن المملكة لاحظت غياب مفاعيل للاتفاق على السياسة الخارجية لإيران داخل الدول التي تمتلك فيها نفوذا مباشراً.
فقد بقيت طهران تدعم وتموّل وتحرّك الميليشيات التابعة لها في العراق وسوريا ولبنان واليمن على النحو الذي كانت فيه الرياض والمحيط الخليجي يعتبر ذلك السلوك مزعزعا لاستقرار المنطقة وتدخلا في شؤونها الداخلية.
واستنتجت السعودية بشكل خاص عدم وجود مفاعيل إيجابية لاتفاق بكين على سلوك الحوثيين ومواقفهم ما يحرم اليمن من تسوية سياسية تنهي أزمته. كمان أن اتفاق بكين لم يمنع من اندلاع أزمة في يوليو 2023، حول الحق في استغلال وبيع الغاز من حقل الدرة / الأراش، الواقع على الحدود البحرية الشرقية للكويت. في أغسطس من ذلك العام، نشرت السعودية والكويت بيانا مشتركا يؤكد على “حقوقهما الحصرية” في الميدان،

حرب غزّة: إدارة التناقض:

بسبب حرب غزّة تحرّكت جبهات أشعلتها فصائل وجماعات موالية لإيران من العراق ولبنان واليمن. كما تصاعدت التصريحات الإيرانية المهدّدة لإسرائيل والداعمة لفصائل المقاومة في قطاع غزّة في مقدمها حركتي “حماس” و “الجهاد”. غير أن اللهجة الإيرانية الحادّة، وعلى لسان كافة مستويات السلطة في طهران، تركّزت على إسرائيل والموقف الغربي بقيادة الولايات المتحدة. ولم توجّه إيران أي انتقادات رسمية لمواقف الدول العربية وخاصة الخليجية على منوال ما كان يجري بمناسبة الحروب العديدة ضد غزّة أو على منوال ما جرى إبّان الحرب الإسرائيلية ضد لبنان في عام 2006.
بالمقابل اتّخذت السعودية مواقف مندّدة بالحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزّة واستنكرت الأثمان الإنسانية في صفوف المدنيين والممتلكات. وقد دعت السعودية إلى قمّة استثنائية عربية إسلامية جرت في الرياض في 11 نوفمبر حضرها قادة من العالمين العربي والإسلامي بما فيهم الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي. ولم تعلّق السعودية بشكل سلبي على الهجمات التي شُنّت من العراق ولبنان واليمن من قبل فصائل مسلّحة موالية لإيران ضد إسرائيل ردّا على حربها في غزّة. ولم تنخرط المملكة في أية عمليات بحرية تمّ تشكيلها من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتأمين الملاحة الدولية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب إثر تعرّض هذه المناطق لهجمات من جماعة الحوثي اليمنية.
وقد جرى التعايش بين السعودية وإيران لاجتياز المرحلة الصعبة التي تمر بها المنطقة، بما في ذلك التوتّر الخطير الإيراني الإسرائيلي إثر قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، من دون أن يؤدي اختلاف مقاربة البلدين للأزمة إلى تناقض في المواقف العلنية الصادرة عن الرياض وطهران. كما أن الرياض (والإمارات) منعت الولايات المتحدة من استخدام الأراضي السعودية لانطلاق مقاتلاتها لضرب مصالح إيرانية أو مواقع الحوثيين في اليمن أو الفصائل الولائية في العراق. وهذا يعني أن السعودية أجبرت تحالفاتها (بما في ذلك الولايات المتحدة) على الالتزام بما يفرضه اتفاق بكين السعودي الإيراني من التزامات، كثيرها غير مكتوب، للحفاظ على منجز بكين بعد سنوات من حوار بين البلدين استضافته بغداد برعاية حكومة مصطفى الكاظمي في العراق.

خلاصة واستنتاجات:

**لم تنضج الظروف الثنائية والإقليمية والدولية لرفع مستوى العلاقات بعد الاتفاق السعودي الإيراني في بكين. ومع ذلك أظهر البلدان حرصا على التمسّك بالاتفاق والتعايش مع التحوّلات التي تضعهما أحيانا في خيارات متقابلة من دون أن يؤثّر ذلك على صمود الاتفاق وبقائه.
**على الرغم من مقاربتهما المختلفة لحدث 7 اكتوبر والحرب في غزّة، لم يدلِ البلدين بأية مواقف منتقدة لمواقفهما وأظهرا تقاطعا لا سيما في حضور الرئيس الإيراني الراحل للقمة الاستثنائية العربية الإسلامية في الرياض.
**لم يغير الاتفاق من سلوك إيران الداعم للميليشيات في المنطقة وهو أمر تنتقده الرياض، كما لم يؤثّر إيجابا على مسار التسوية في اليمن. ولوحظ أن اشتعال أزمة حقل الدرة السعودي الكويتي ينذر بإمكانات فتح ملفات أخرى.
**استنتجت طهران عدم إقدام الرياض على ضخّ استثمارات داخل الاقتصاد الإيراني وعدم دخولها في مفاوضات لإنشاء نظام إقليمي أمنيّ لطالما دعت إليه طهران. وتشتبه طهران بغياب خطط سعودية لتطوير علاقاتها مع ايران.
**يمكن ملاحظة ركون البلدين إلى حالة تعايش وحذر وترقب لأدائهما ومقاربتهما للتطوّرات والتحوّلات الجارية من دون الذهاب بعيدا في توسيع كمية ونوعية ملفات التعاون والتكامل بينهما.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.