لقاء مسقط بين واشنطن وطهران: مداخل لفهم مسار المفاوضات وعقدها

د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات

ورقة سياسات:

ملخص تنفيذي:

-جرى جدل غير مفهوم له دوافعه في إيران بشأن المرور عبر مدخل غير مباشر للمفاوضات قبل الانتقال بشكل كان متوقعا نحو المفاوضات المباشرة.
-ترمي إيران ورقة الاتفاق المؤقت كحل مرحلي للأزمة بين واشنطن وطهران يخفض التصعيد ويسهّل بروية ومن توتّر التفاوض من أجل اتفاق أشمل ونهائي.
-تبقى ملفات التفاوض غامضة يشوبها تناقض بين تأكيد طهران أنها محصورة بالبرنامج النووي فقط، فيما الأجواء الأميركية توحي بتناول البرنامج الصاروخي وسلوك إيران في الشرق الأوسط.
-فيما تناول اتفاق فيينا آليات وقواعد وشروط لضبط البرنامج النووي الإيراني، تلوّح واشنطن بالحاجة إلى تفكيك البرنامج كليا أو جزئيا.
-يجري الحديث في واشنطن عن أن سلمية البرنامج النووي يتطلب سلمية إيران نفسها ما من شأنه إجراء تحوّل عقائدي سيكون مثيرا للجدل في طهران.
تقديم:
بعد تمكن الولايات المتحدة وإيران من اجتياز “تجربة” الجلسة الأولى من المفاوضات بينهما والإعلان عن بدء مسار محدود زمنيا، تتدافع الأسئلة بشأن ملفات التفاوض وآلياته والسقوف التي يمكن الوصول إليها. ويطرح الحدث أسئلة بشأن فلسفتي طهران وواشنطن في اجتراح اتفاق جديد داخل مرحلة جيوستراتيجية دقيقة تختلف عن الظروف الدولية التي واكبت انتاج اتفاق فيينا بين البلدين. كما يفرد الجدل مساحات بشأن دور ووظيفة ومكانة إيران في المنطقة تحت سقف أي اتفاق محتمل.

الشكل والمضمون: تناقض العاصمتين:

بعد تواصل عبر قنوات متعددة المستويات بين واشنطن وطهران تمّ في 12 أبريل 2025 عقد جلسة مفاوضات بين وفد أميركي يقوده مبعوث الرئيس الأميركي، ستيف ويتكوف، ووفد إيراني يقوده وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي. جرت المفاوضات في العاصمة الُعمانية، مسقط، برعاية وزير الخارجية العُماني، بدر البوسعيدي، الذي تولى على مدار ساعتين ونصف، نقل أوراق عمل بين الوفدين. وقد انتهت هذه المفاوضات غير المباشرة بلقاء تعارف مباشر، ما يعني أن الجلسات المقبلة ستكون مباشرة.
ركّزت طهران، منذ تأكيد ما كان أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في 7 أبريل، عن أن المفاوضات ستكون مباشرة، على أن هذه المفاوضات ستكون غير مباشرة، على الأقل في المرحلة الأولى، ولن تكون مباشرة إلا بعد اختبار النوايا والتأكد من جدية الطرف الأميركي. وكررت طهران التأكيد أن المفاوضات تتعلق فقط بالبرنامج النووي ولا تتطرق إلى ملفات أخرى.
بالمقابل، كررت المنابر الرسمية الأميركية التأكيد على ما أعلنه ترامب من أن المفاوضات ستكون مباشرة، وإن لم تستبعد أن يكون هناك مدخل غير مباشر لها. وسرّبت واشنطن أنباء تتحدث عن عدم توجه ويتكوف إلى مسقط إذا لم تكن المفاوضات مباشرة. ورغم عدم وجود نصّ أو تصريح واضح بشأن جدول أعمال المفاوضات والملفات التي ستناقشها، فإن وسائل الإعلام الأميركية استنتجت مما أعلنه ترامب بعدم السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي وإبرام اتفاق “أقوى” أن المفاوضات ستشمل برنامج إيران للصواريخ الباليستية وعلاقة طهران بأذرعها العسكرية في المنطقة.
خرجت المواقف الرسمية الصادرة عن طهران وواشنطن، لا سيما عن عراقجي وويتكوف تتحدث بإيجابية عن جلسة التفاوض وعن الاتفاق على عقد جلسة أخرى في 19 أبريل 2025، قد تجري في مكان آخر، وفق تصريح وزير الخارجية الإيراني، فيما اعتبر الرئيس ترامب أن الأمور جيدة من دون مبالغة بالتفاؤل “قبل تنفيذ نتائجها”. ولم تفصح المصادر الرسمية للبلدين عن مضمون الأوراق التي تمّ تبادلها بين الوفدين والمواضيع التي ستتم مناقشتها.

طهران: الترويج لاتفاق مؤقت:

اهتمت إيران بالتركيز على إصرارها على الشكل الذي تجري وفقه الجلسة الأولى للمفاوضات وكأنه هدف بحدّ ذاته، وسط استغراب الدوائر الدبلوماسية بشأن رمزية عدم لقاء الخصم مباشرة، وخصوصا أن الأمر أظهر الولايات المتحدة في موقع القوي الذي لا حرج لديه من ملاقاة الخصم وجها لوجه، فيما بدت إيران في موقع أضعف لجهة التحدث من خلال الوسيط العماني وبعيدا عن مواجهة دبلوماسية مباشرة مع الخصم الأميركي.
يُعتقد أن موقف إيران في هذا الصدد موجه إلى الداخل في إيران، لا سيما إلى تيار محافظ عقائدي، رافض مبدئيا لفكرة التفاوض مع الولايات المتحدة، متمسك بما سبق للمرشد الأعلى، علي خامنئي، أن كرره من رفض للتفاوض مع الولايات المتحدة ومع إدارة ترامب بالذات. ويُعتقد أن التمسك بالطابع غير المباشر لجلسة المفاوضات ليس مطلبا شعبيا في إيران ولا يهم الرأي العام هناك، لكنه آلية نزول تدريجي لتبريد مسار التحوّل من نقطة اللا تفاوض إلى مرحلة التفاوض المباشر.
ما رشح عن جلسة التفاوض الأولى يفيد، وفق مصادر إيرانية، أن واشنطن مستعجلة لإبرام اتفاق مع إيران ضمن مهلة محدودة، بحيث لا تتحول هذه المفاوضات إلى مسار لا نهاية له. وتفيد نفس المصادر أن طهران أيضا مهتمة بإبرام اتفاق جديد، لكنها تعتبر الأمر معقّدا وليس بالسهولة التي تتيح التوصل إلى اتفاق كامل خلال فترة زمنية عاجلة. وقد يكون هذا التقييم هو الأرضية التي تقف عليها طهران للترويج إلى إمكانية التوصل إلى اتفاق مؤقت يسمح بترسيخ عوامل ثقة وبالعمل بروية ومن دون توتّر من أجل التوصل إلى اتفاق أشمل قد يكون نهائيا.
تلمّح المصادر الإيرانية إلى استعداد إيران في إطار اتفاق مؤقت إلى التوقف عن تخصيب اليورانيوم بالمستوى المرتفع الحالي الذي وصل إلى 60 بالمئة بشكل رسمي وإلى خفض حجم المخزون من اليورانيوم المخصب ومناقشة تدابير أخرى مقابل قيام واشنطن باتخاذ خطوات بناءة من بينها رفع بعض العقوبات وخفض تهديدات البنى التحتية العسكرية التي تمّ تحريكها في الأسابيع الأخيرة والتهديد بها كخيار بديل في حال فشلت المفاوضات.

نووي إيران: ضبط أم تفكيك؟

تقوم فلسفة موقف ترامب من اتفاق فيينا الموقع مع إيران عام 2015 بشأن برنامجها النووي على ما وصفه بأنه “اتفاق سيء”. وكانت “خطة العمل الشاملة المشتركة”، وهي الاسم الرسمي للاتفاق، قد وضعت شروطا مكبّلة، لكن مؤقتة، تفرض من بين أمور أخرى، أن لا يتجاوز مستوى تخصيب اليوارنيوم نسبة 3.67 بالمئة، كما تفرض سقفا لحجم اليورانيوم المخصب. ولئن رفض ترامب هذا الاتفاق وسحب بلاده منه عام 2018، فإن منطق الأمور يقول إن الرئيس الأميركي لن يكتفي في أي اتفاق جديد، بالعودة، كما تعرض طهران، إلى التقيد فقط ببعض شروط اتفاق فيينا بما في ذلك النسبة القصوى المسموحة للتخصيب.
وفي ظل غياب وثيقة رسمية أميركية دقيقة بشأن ما تريده الولايات المتحدة التوصل إليه مع إيران سواء عبر التفاوض أو “البدائل الأخرى”، فإن أدوات البحث تقوم على هدف كان أعلنه ترامب أثناء حملته الانتخابية وبقي يردده منذ دخوله البيت الأبيض في ولايته الحالية منذ 20 يناير 2025، يعدم السماح لإيران بامتلاك أسلحة نووية. وبناء على هذا الهدف فإن آليات التوصل إلى تحقيقه يفترض أن تفوق تلك التي اعتمدت في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، وأن تنقل إيران من موقع جيوستراتيجي إلى وضعية جديدة في الشرق الأوسط.
وقد استخدمت إدارة ترامب خطابا جديدا لم يستخدم إبان ولايته الأولى، بحيث دخل إلى قاموس الموقف من البرنامج النووي الإيراني تعبير “تفكيك” البرنامج، خصوصا في تصريحات لمستشار الأمن القومي، مايكل والتز. وكان ويتكوف قد أشار أيضا، بشكل موارب، إلى مسألة التفكيك هذه من دون أن يستبعد التوصل إلى خيارات وسطية تمنع إيران من إمكانات إنتاج سلاح النووي مع المحافظة، وفق قواعد جديدة، على برنامج نووي سلمي الأهداف منضبط للمراقبة الدولية.
تدور فكرة “التفكيك” على حقيقة أن البرنامج النووي الإيراني، لاسيما بعد انسحاب الولايات المتحدة منه وإسقاط إيران لما يفرضه من التزامات، بات واسعا معقّدا لا يمكن ضبطه من خلال نصّ جديد لا يلحظ تخلّص ذلك البرنامج من البنى التحتية التي تسمح له بتحقيق مستويات تنقله إلى مستوى الأغراض العسكرية. ويعني ذلك أن عملية إنهاء احتمال إنتاج قنبلة نووية تتراوح ما بين القضاء التام على البرنامج النووي برمته أو تفكيك أجزاء باتت أساسية في ذلك البرنامح ما قد يفرض وصاية ومراقبة دولية صارمة عليه.

مستقبل وظيفة إيران:

تقوم فكرة منع إيران من حيازة قنبلة نووية، وفق المداولات الأميركية، على منع إيران من حيازة وسائل حمل رؤوس نووية مهدّدة للمنطقة والعالم من خلال ضبط برنامج الصواريخ الباليستية القادرة على حمل هذه الرؤوس. وعلى الرغم من أن إيران تؤكد أنها لن تسمح بالتفاوض بشأن حقّها في الحصول على دفاعات استراتيجية، فإن واشنطن قد تتعامل مع هذا الملف بصفته جزءا من النقاش المتعلق أصلا بالسلاح النووي الإيراني المحتمل وليس خارجه. ومن المتوقع أن يخضع مبدأ تناول هذا الملف إلى جدل قانوني وسياسي شديد الحساسية بالنسبة للنواة الصلبة للنظام في إيران، التي يعتبر أن الأمر يمثل مسّا بأيديولوجية النظام القائمة على وظيفة السلاح من أجل “المقاومة”، كما قد يمثّل تهديدا وجوديا لنظام الجمهورية الإسلامية.
تعتبر إيران أن لها الحقّ في نصرة أي مقاومة طالما أن هناك احتلال. وأن علاقتها بـ “محور المقاومة” في المنطقة من ثوابت السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية. وكان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قد أشار إلى أن الولايات المتحدة تريد مناقشة مسألة علاقة إيران بأذرعها ونفوذها في المنطقة. واعتبرت تصريحات لافروف أول إقرار رسمي من جهة دولية بخطة واشنطن بعد أن كانت إثارة هذا الملف قبل ذلك تأخذ شكل التحليلات والتسريبات غير الرسمية. ولم يُفهم القصد الحقيقي من كشف لافروف هذا الأمر، على الرغم من تعبيره عن قلق من “حرمان” إيران من نفوذ تملكه دول عديدة في ساحات متعددة في الشرق الأوسط.
ويعتقد أن واشنطن تقوم بمفاوضات سياسية وليس فقط تقنية مع إيران. تأخذ هذه المفاوضات تبدّل موازين القوى في المنطقة منذ انفجار الحرب في قطاع غزّة في اكتوبر 2023، وتغير قواعد اللعبة داخل المشهد الدولي عما كانت عليه في عام 2013، وهو العام الذي بدأت فيه الولايات المتحدة مفاوضات قادت إلى إبرام اتفاق عام 2015 الشهير.
بمعنى آخر، فإن سلمية البرنامج النووي، وفق الرؤى الأميركية، تتطلب سلمية إيران نفسها ووقف مشروعها العابر للحدود. بما يعني أيضا أن إدراج ملف سلوك إيران في المنطقة ، وفق ما يتسرّب من توجهات أميركية، هو جزء أصيل من المفاوضات التي تحمل تقليديا عنوان البرنامج النووي. ومن المتوقع أن تتعرض تلك المفاوضات المركبة إلى عثرات وعقد وأزمات يصعب توقّعها واستشراف ما يمكن أن تتوصل إليه المفاوضات وما يمكن أن يحدثه الفشل بها.

خلاصة واستنتاجات:

**تخفي التصريحات الأميركية الإيرانية الإيجابية إثر الجلسة الأولى للمفاوضات في مسقط تعقّد جدول الأعمال وغموض ملفات التفاوض والأهداف القصوى للتفاوض.
**يُعبّر تمسّك إيران بالشكل غير المباشر لبدء المفاوضات عن حرج داخلي بعد تراجع المرشد عن رفضه السابق للتفاوض، والحاجة إلى مظهر شكلي قد يرضي نواة النظام المحافظة.
**وتؤكد طهران أن المفاوضات تتناول ملف البرنامج النووي فقط، وتكرر رفضها أي نقاش يتعلّق ببرنامج الصواريخ الباليستية وعلاقتها بـ “محور المقاومة”. ومن غير الواضح الخيط الفاصل بين المعلن وآفاق التنازل والمرونة.
**لا تتحدث المراجع الرسمية الأميركية عن ملفات التفاوض لكنها تميل إلى أن المفاوضات ستكون سياسية تطال موقع ووظيفة إيران الجيوستراتيجية.
**التقدير أن منع إيران من امتلاك السلاح النووي، وفق هدف ترامب المعلن، قد يستدعي تفكيك البرنامج النووي أو أجزاء استراتيجية منه تقضي على أي تطوّر للبرنامج نحو الأغراض العسكرية.
**فكرة الاتفاق مع إيران، وفق إدارة ترامب، قد يتطلب إضافة إلى سلمية البرنامج النووي، سلمية إيران نفسها، من خلال ضبط إمكاناتها العسكرية وعلاقتها بأذرعها في المنطقة، ما قد يدفع إلى تحوّل أيديولوجي سيكون مثيرا للجدل في طهران

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.