كلمة سرّ قلبت الموازين: نواف سلام رئيسا لحكومة لبنان
د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات
تقدير موقف
تقديم: خارج التوقعات ذهبت الاستشارات النيابية التي جرت في 13 يناير 2025 في لبنان إلى تكليف نواف سلام بتشكيل الحكومة الجديدة، بعد أيام على انتخاب رئيس جديد للجمهورية. فبعد معطيات سبقت يوم الاستشارات عن ارتفاع حظوظ عودة نجيب ميقاتي إلى منصبه، سُجلت تطوّرات الساعات الأخيرة تبدّلا في توجهات البوصلة باتجاه سلام فما هي معطيّات هذا التحوّل؟
– بعد أن كان رئيس الجمهورية يملك صلاحيات تعيين رئيس للحكومة، فرض اتفاق الطائف، في عام 1989، اختيار رئيس الحكومة من قبل الكتل البرلمانية التي تبلغه بخيارها، على أن يعتمد رئيس الجمهورية الخيار البرلماني، ويُصدر وفقه مراسيم تكليف شخصية لتشكيل الحكومة.
– بعد انتخاب جوزيف عون رئيسا للجمهورية في لبنان في 9 يناير 2025، تردّدت أنباء عن صفقة تمت قبل ذلك مع الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) يعيد، من بين أمور أخرى، تكليف نجيب ميقاتي، بتشكيل أول حكومة في عهد الرئيس الجديد.
– عقب أول زيارة قام بها ميقاتي للرئيس عون في قصر بعبدا، في اليوم التالي لانتخابه، وردّا على سؤال بشأن شكل الحكومة الأولى للعهد، ردّ ميقاتي بأنه سيخبرهم بعد انتهاء المشاورات البرلمانية بذلك، قبل أن يستدرك مصحّحا بأن “الرئيس المكلف” سيخبرهم بذلك. وكشفت زلّة اللسان عن مقدار ثقة ميقاتي بعودته.
– في الأيام الفاصلة ما بين الانتخابات الرئاسية (9 يناير) ويوم الاستشارات النيابية لاختيار رئيس للحكومة (13 يناير)، أظهرت التقارير تقدما مريحا لميقاتي على حساب منافسيه المعلنين: فؤاد مخزومي الذي رشّحته “المعارضة”، أي حزب “القوات اللبنانية” (بقيادة سمير جعجع) وقوى أخرى (31 صوتا من أصل 128)، وإبراهيم منيمنة، وهو من النواب التغييرين من خارج الطبقة السياسية التقليدية.
– حصلت تطوّرت سريعة في الليلة التي سبقت يوم الاستشارات، بحيث أن اتصالات أدت إلى انسحاب مخزومي ومنيمنة لصالح القاضي الدولي، نواف سلام، الذي لطالما تردّد اسمه كلما تمّ الحديث عن شخصية نزيهة إصلاحية تحظى بثقة المجتمع اللبناني والدولي.
– نواف سلام هو ابن عائلة بيروتية. بدأ مسيرته المهنية كمحام وأستاذ جامعي، قبل أن يشغل منصب سفير وممثل دائم للبنان لدى الأمم المتحدة لعقد من الزمن (2010-2011). وانتخب عام 2018 قاضيا في محكمة العدل الدولية، ليتوج مسيرته المهنية بانتخابه رئيسا للمحكمة في فبراير 2024، ليصبح ثاني عربي يتبوأ هذا المنصب. له العديد من المؤلفات والمقالات في مجالات القانون الدولي، والدستوري، والسياسة والتاريخ. يعرف عنه توجهاته العروبية المناصرة للقضية الفلسطينية.
– تتحدث المعلومات عن أن اللجنة الخماسية بشأن لبنان (الولايات المتحدة، فرنسا، السعودية، مصر، قطر) أجمعت على دعم ترشّح عون للرئاسة وممارسة الضغوط القصوى على الطبقة السياسية اللبنانية لانتخابه، من دون أن يكون لها أي رأي أو اهتمام في عملية اختيار رئيس الحكومة وترك أمر ذلك للمداولات الداخلية.
– تقول معلومات إن السعودية لم تكن تريد معارضة رغبة فرنسا في تكليف نجيب ميقاتي وبالتالي لم تعبّر عن أي رأي معارض لإعادة تكليفه. وكانت أوساط باريس نفت وجود أي خيار فرنسي معتبرة أن الأمر يعود للبنانيين.
– تسرّبت معطيّات عن تحرّك السفير السعودي في لبنان، وليد البخاري، للتشاور في أمر هذا الاستحقاق بعد اندلاع جدل في لبنان بشأن رفض التجديد لميقاتي واعتباره ينتمي إلى العهد القديم ولا يتناسب مع حدث انتخاب جوزيف عون رئيسا. ويعتقد ان “كلمة سرّ” تدخلت لارتفاع أسهم سلام على حساب ميقاتي.
– قالت أساط مراقبة إن رعاة الخارج، بما فيها السعودية، آثرت عدم تظهير موقف في أي اتجاه لتجنّب الإفراط في فرض طاقم حاكم من شأنه أن يكون استفزازا لنفوذ إيران وحزبها في لبنان، ما من شأنه عرقلة انسيابية بداية عهد الرئيس الجديد.
– اعتبر انسحاب مخزومي، مرشح جعجع، لصالح سلام، مؤشر على استجابة لإرادة سعودية. ومخزومي هو رجل أعمال لديه علاقات ومصالح في السعودية، كما أن جعجع يمتلك علاقات متقدمة مع الرياض. بالمقابل فإن انسحاب منيمنة جاء منطقيا مع موقفه بالاستعداد للانسحاب لصالح سلام إذا ما توفّر أجماع وازن لاختياره.
– كان لافتا أن الكتلة الجنبلاطية البرلمانية حسمت خيارها لصالح سلام ما عبّر عن معطيّات يملكها وليد جنبلاط بهذا الاتجاه. كانت معلومات أفادت أن اتصالات رسمية، عالية المستوى، أجريت مع السعودية، أفادت أن الرياض لن تتدخل في تعيين رئيس الحكومة، فيما فهم من موقف وليد جنبلاط عدم ميل المملكة إلى ميقاتي.
– اللافت أيضا أن عضو إحدى الكتل الداعمة لميقاتي (كتلة الاعتدال الوطني) أكد ان الخيار الأول للتكتل هو الرئيس ميقاتي، مضيفا أنه إذا كان هناك توجه عربي وتحديداً سعودي لأي خيار آخر فسقف “الإعتدال” والرئيس ميقاتي سعودي عربي. لاحقا صوّت التكتل لصالح سلام. ما أوحى بوجود احتمال آخر مصدره الرياض.
– بحسب معلومات أخرى، فإن حزب الله والرئيس نبيه بري، أبلغا رئيس الجمهورية عشية الاستشارات النيابية، ثم صباح يوم الاستشارات، أن أي إخلال بالاتفاق المبرم معه، بما فيه بقاء ميقاتي في رئاسة الحكومة، سيؤدي إلى رفض الثنائي الشيعي المشاركة في الحكومة، وتاليا تعذر تأليفها في حال فاز نواف سلام بالتكليف.
– كان لافتا أن كتلة “التيار الوطني الحر” التي يتزعمها جبران باسيل حليف حزب الله، قد صوتت لصالح سلام، على الرغم من أن الكتلة لم تصوّت لصالح جوزيف عون رئيسا.
خلاصة:
**قلبت إرادة خارجية، يعتقد أنها سعودية، موازين القوى لصالح تكليف القاضي نواف سلام بتشكيل الحكومة الجديدة. التقت هذه الإرادة مع مطلب لبناني داخلي باختيار شخصية من خارج الطبقة السياسة القديمة، تتماهى مع انتخاب جوزيف عون رئيسا للجمهورية ووعود “خطاب القسم”.
**في ما عدا حزب الله، فإن سلام يمثل قبولا داخليا وعربيا ودوليا، لا سيما وأنه شخصية معروفة دوليا، ويمتلك سجلا يحظى بثقة داخلية وخارجية، لوضع برنامج إصلاحات وتشكيل حكومة تستجيب للتحوّلات اللبنانية والإقليمية، لا سيما سقوط نظام الأسد في سوريا.
**لطالما كان سلام شخصية غير مرغوبة من قبل حزب الله بسبب موافقه السيادية حين شغل منصب ممثل لبنان في الأمم المتحدة، كما عبّر عن أفكار معادية للسلاح خارج إطار الدولة.
**أمسك الثنائي الشيعي في السنوات الأخيرة بالمناصب الثلاث الأساسية، لا سيما في عهد الرئيس ميشال عون، بحيث بات رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان من حلفائه. يفقد الحزب خلال الأيام الأخيرة نفوذه على رئاستي الجمهورية والحكومة.
**يمثل الحدث توسّع النفوذ السعودي في لبنان وانكفاء النفوذ الإيراني، لا سيما بعد خروج هذا النفوذ نهائيا من سوريا.