قراءة في تموضع “دول الصراع” داخل سوريا
د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات
ملخص ورقة سياسات
-الأرجح أن تقف تركيا وراء توقيت العملية، وداعمة لها، وتتعامل رسميا بدبلوماسية وحذر لعدم استفزاز المجتمع الدولي، لا سيما حليفها في روسيا.
-تمثّل العملية تحديا للنفوذ الإيراني، وهو أمر تجتمع تركيا وروسيا والولايات المتحدة على الاستفادة من إضعافه.
-رغم غموض الموقف الروسي، مراقبون لا يستبعدون ضلوعا، وسببا لممارسة مزيد من الضغوط على الأسد للاستجابة لتسويات تعدها موسكو.
-تبدو العملية ساعية إلى فرض واقع جديد عشية تسلم دونالد ترامب منصبه، وسط احتمالات جديدة لسحب القوات الأميركية من سوريا.
-ستمثّل الحالة الكردية تحديا يحرج واشنطن، لكنها تحمل أيضا تعارضا محتملا لأجندات موسكو وأنقرة في مستقبل سوريا.
• تقديم:
تفرض التطوّرات العسكرية في شمال سوريا، التي بدأت في 27 نوفمبر 2024، طرح أسئلة بشأن دور هذا التحرّك المفاجئ في التأثير على المشهد المقبل لسوريا داخل التحوّلات الجارية في المنطقة. وسيكون صعبا، رغم وجاهة أن يكون الأمر مستقلا وله ظروفه الخاصة، فصل الحدث السوري عن تطوّر الحالة اللبنانية إثر ما خلفته الحرب في هذا البلد، كما فصل الأمر عن بداية ظهور أعراض تبدّل في المقاربة الغربية بقيادة الولايات المتحدة لملف إيران بكل جوانبه في الشرق الأوسط.
ويعتبر الصراع في سوريا مرآة لمصالح وأجندات عدد من الدول المتدخلة مباشرة بشؤون هذا البلد، بأشكال وإيقاعات متفاوتة، وتمتلك قوات عسكرية فوق الأراضي السورية. ورغم أن التطوّر ما زال في أيامه الأولى ومن المبكر الاهتداء إلى استنتاجات وخلاصات واضحة نهائية له، فإن الحدث يسلّط المجهر على ما قد يؤثّره على مصالح الدولة التالية:
• تركيا: تموضع بانتظار ترامب:
انتقلت تركيا بعد عام 2011، أي تاريخ انطلاق الصراع الداخلي في سوريا، من دعم متدرّج، ثم كامل، للمعارضة السورية، وخصوصا أطراف منها، لا سيما التابعة للإسلام السياسي، إلى تدخّل عسكري مباشر في شمال البلاد عام 2016. وكانت حجّة أنقرة تستند على ما باتت الحالة الكردية في شمال وشمال شرق سوريا تشكّله من خطر على الأمن الاستراتيجي التركي، كونها تعتبر تلك الحالة امتدادا لحزب العمال الكردستاني (PKK) في تركيا المدرج على لوائح الإرهاب.
في الأشهر الأخيرة، وبسبب ضغط اللجوء السوري في تركيا وتداعياته على شعبية حزب “العدالة والتنمية” وما يهدده لنظام حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، روّجت أنقرة لخطاب جديد يدعو إلى المصالحة مع النظام السوري. وقد عملت روسيا على لعب دور الوساطة بين موسكو ودمشق، ونجحت في استضافة اجتماعات بين أجهزة المخابرات السورية والتركية، ثم بين وزراء الدفاع والخارجية في البلدين، على أن تتطور مسارات التطبيع باتجاه قمّة تجمع الرئيسين التركي والسوري.
مارس الرئيس بوتين، ضغوطا على الرئيس السوري، بشّار الأسد، لملاقاة نظيره التركي في سعيه للتطبيع بين البلدين. وقد ظهرت نتائج هذه الضغوط في تراجع دمشق عن شرط انسحاب القوات التركية من سوريا قبل أي لقاء بين الرئيسين، إلى شرط إعلان تركيا عزمها الانسحاب ووضع برنامج زمني للأمر. وظهر لاحقا، وفق مراقبين، أن الأسد، وبضغط من طهران، ما زال متلكئا في قبول فكرة التطبيع واللقاء مع أردوغان.
يُعتقد أن العملية العسكرية لفصائل المعارضة في شمال سوريا حظيت برعاية تركيا، وأنها تسعى إلى فرض أمر واقع يحسّن من شروطها ونفوذها داخل سوريا، وأن ذلك يأتي في سياق أي تحوّلات مقبلة في المنطقة، وسوريا بالذات، كما تفرض خريطة جديدة أمام كافة اللاعبين، وخصوصا الولايات المتحدة عشيّة استلام دونالد ترامب منصبه رئيسا لبلاده.
• إيران: خسارة سوريا
تعتبر إيران سوريا مركز نفوذ لها داخل ما يطلق عليه وصف “ممر طهران-بيروت” الذي سبق للعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني أن وصفه بـ “الهلال الشيعي” وحذّر منه. وقد تحرّكت طهران باكرا إثر اندلاع الصراع في سوريا عام 2011 واستثمرت في العقيدة والسياسة والمال والعسكر والأمن دفاعا عن النظام في دمشق. وعلى مدى سنين هذا الصراع شارك “مستشارون” إيرانيون معزّزون بميليشيات موالية لإيران من أفغانستان وباكستان والعراق ولبنان لردّ الأخطار التي تهدّدت النظام. وتؤكد معلومات، وفق خبراء، أن قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري، قاسم سليماني، الذي قتلته مسيّرة أميركية في بغداد عام 2020، هو الذي زار موسكو واجتمع بالرئيس الروسي وعرض عليه حراجة الموقف الذي يتهدد النظام، وأقنعه بتدخل روسيا في الصراع.
تعرّضت مصالح إيران، خلال السنوات الماضية، لضربات موجعة من قبل إسرائيل نالت من مواقع وقيادات عسكرية تابعة لها ولميليشياتها الموالية على الرغم من التحالف الذي يجمعها مع روسيا. وقد تسبّب قصف إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق، في أبريل 2024، بانتقال الصراع مع إسرائيل إلى مستوى مباشر أدى لاحقا إلى تبادل القصف المباشر بينهما.
غير أن اندلاع الحرب في لبنان وما تطالبه إسرائيل من وقف للدعم التسليحي الإيراني من سوريا للحزب، ناهيك من ضغوط عربية على نظام الأسد بأخذ مسافة من إيران، إضافة إلى تنافس إيراني روسي على تقاسم النفوذ والثروة في سوريا، معطوفا على تحوّل المزاج الغربي حيال الحالة الإيرانية العامة في المنطقة، عوامل توفّر أرضية لإمكانية وجود تفاهمات ما زالت غامضة لإضعاف الوجود والنفوذ الإيرانيين في سوريا.
وتكشف العملية العسكرية في شمال سوريا عن “انهيار” في صفوف القوى العسكرية التابعة لإيران، سواء بالتراجع أمام الضغوط العسكرية أم من خلال قرار بالانسحاب. ويعتقد أن إيران قد لا تكون جاهزة لردّ هذا الهجوم واستعادة نفوذها ما يهدد أحد أهم أوراقها في المنطقة.
• روسيا: الإمساك بخيوط سوريا
تعتبر روسيا سوريا موطئ قدم استراتيجي لها منذ مرحلة الاتحاد السوفياتي، خصوصا لجهة إطلالتها على المياه الدافئة. وقد تحرّكت موسكو لنجدة النظام في سوريا عام 2015 بعد مرور 4 سنوات على بداية الصراع. وتكشف المعلومات عن تفاهمات جرت بين الرئيس الروسي ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ثم مع الرئيس الأميركي، باراك أوباما، مهّدت لإطلاق العمليات العسكرية الجوية في 30 سبتمبر من ذلك العام.
اعتمدت روسيا على التدخل الناري جوا مستندة على تحالف الجيش السوري والميليشيات التابعة لإيران براً لقلب موازين القوى ومنع سقوط النظام. ورعت موسكو عام 2017 اتفاقات خفض التصعيد في مناطق الصراع داخل سوريا بمشاركة إيران وتركيا، بما أسس لحالة الستاتيكو التي عرفتها سوريا خلال السنوات الأخيرة. وتم دعم هذه الحالة باتفاق بين روسيا وتركيا لوقف إطلاق النار في إدلب عام 2020.
ورغم التحالف المعلن بين روسيا وإيران، وانخراط الأخيرة في دعم روسيا في الحرب في أوكرانيا، غير أن علاقة البلدين بقيت ملتبسة في سوريا تكشف تنافسا حادا بين مصالحهما. وقد صدرت عن طهران، بشكل غير رسمي، مواقف متبرّمة من روسيا اتهمتها ضمنا بالتواطؤ فيما تتعرض له مصالحها من ضربات إسرائيلية موجعة من قبل إسرائيل.
يظهر هذا التناقض بشكل أكثر حرجاً في فشل بوتين في إقناع الأسد بدعم سياق تطبيع العلاقات مع تركيا، ما يؤشر إلى معاندة إيرانية لمساعي روسيا، ولما يمثله تطبيع علاقات دمشق أنقرة من تشريع لنفوذ تركيا داخل بلد تعتبره جزءا من نفوذها الإقليمي.
رغم صدور بيان رسمي من موسكو منتقد للعملية العسكرية في شمال سوريا واعتبارها “انتهاكا لسيادة” البلد، غير أن اللهجة الروسية بقيت حذًرة لم تأت على ذكر تركيا. وفيما يغري غموض ظروف هذه العملية بصدور سيناريوهات، منها تواطؤا روسيا، فإنه كان غريبا أن تتم دعوة الاسد لزيارة موسكو في نفس يوم انطلاق العملية وتأخر بوتين في استقباله إلى ما بعد سقوط مدينة حلب.
الولايات المتحدة: غموض الانسحاب:
لم تهتم الولايات المتحدة بالصراع في سوريا إلا من بوابة ما يشكّله من خطر على أمن إسرائيل. وقد تراجع الرئيس الأميركي باراك أوباما عن تهديدات كان أطلقها إذا ما استخدمت دمشق أسلحة كيماوية، وقبل بالحلّ الذي اقترحته روسيا بعد اتهام دمشق بهجوم كيماوي في الغوطة الشرقية بدمشق في 31 أغسطس 2013. وتولّت موسكو حينها الإشراف على عملية إخراج الأسلحة الكيماوية التي يمتلكها النظام السوري إلى خارج البلاد. وقد أسّس هذا التعاون بين بوتين وأوباما في هذا الملف لعقد تفاهمات بينهما تتيح تدخلا عسكريا روسيا في سوريا عام 2015. ترافق هذا التدخّل، من ضمن تلك التفاهمات، حسب باحثين، مع توقف واشنطن وحلفائها الغربيين عن تقديم أي دعم عسكري نوعي للمعارضة السورية من شأنه التشويش على التدخل الروسي.
وضعت الولايات المتحدة حضورها العسكري في سوريا في سياق مشاركتها داخل “التحالف الدولي ضد داعش”. ويبلغ عديد القوات الأميركية في سوريا حوالي 900 فردا منتشرين شرق سوريا. وتتحالف الولايات المتحدة (في إطار مكافحة الإرهاب) مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تهيمن عليها قوى كردية. ولطالما كان هذا التحالف موضع انتقاد من قبل تركيا التي تعتبر القوى الكردية إرهابية تهدد أمنها كونها امتدادا لـ PKK وتبرر وفق ذلك تدخلها العسكري شمال سوريا.
ورغم صدور عدة مواقف للرئيس دونالد ترامب في ولايته الأولى تعلن نيته سحب هذه القوات من سوريا، إلا أن ذلك لم يحصل، وبقي هذا الوجود، يشكّل تحدّيا لروسيا وتركيا وإيران. وقد نشرت الصحافة الأميركية بعد انتخاب ترامب رئيسا في 5 نوفمبر 2024 تقارير عن استمراره في التفكير في سحب هذه القوات من هذا البلد.
يعتبر المراقبون أن احتمالات انسحاب القوات الأميركية من سوريا قد تكون وراء العملية العسكرية في شمال سوريا استعدادا لتموضع جديد. علما أن كافة الأطراف (أنقرة، طهران، موسكو) تعتقد أنها قد تكون مستفيدة من هذا الانسحاب. بالمقابل فإن واشنطن لن تعاند عملية عسكرية شمال سوريا تضعف نفوذ طهران، لكن موقفها سيكون تحت المجهر إذا ما طالت العملية مناطق نفوذ “قسد” حليفتها في المنطقة.
• خلاصة واستنتاجات:
**تدشن العملية العسكرية في الشمال السوري مرحلة تُحرّك المسألة السورية وتنهي حالة الستاتيكو والمراوحة التي اتسمّ بها ملف سوريا داخل المشهد الدولي.
**الأرجح أن تركيا تقف وراء العملية، رغم النأي بالنفس عنها رسميا، وتهدف إلى تحسين موقع أنقرة داخل المشهد السوري في الموقف من “قسد”، ومستقبل العلاقة مع دمشق، وحجم حصتها داخل خرائط التحوًلات المحتملة.
**ما زال الموقف الروسي غامضا ملتبسا وحذرا ويبقى تدخل موسكو العسكري محدودا، ما زال بوتين، الذي استضاف الأسد أثناء تلك العملية، ممسكا بخيوط اللعبة في سوريا ومستفيدا مما ستسببه العملية من إضعاف لنفوذ إيران في سوريا.
**تبدو إيران خاسرة من هذه العملية إثر انسحاب القوات التابعة لها من مناطق العمليات. وقد يبدو السياق مستفيدا من أجواء إقليمية ودولية حاضنة لضغوط لإخراج النفوذ الإيراني من سوريا.
**يظهر الموقف الأميركي حذرا، ويظهر أيضا أن بقية أطراف الصراع تسعى لعدم استدراج موقف أميركي عدائي.
**لا يضير الولايات المتحدة انقلاب موازين القوى في سوريا على حساب إيران، لكن ما زال غامضا الكيفية التي ستقارب بها واشنطن هذه العملية إذا ما هددت نفوذ حلفائها الأكراد (قسد) في سوريا.