قراءة في تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة التونسية: الإشكاليات والفرص

*وليد زايد 

أصدرت  لجنة الحقوق والحريات الفردية والمساواة التونسية، في 12 يونيو/ حزيران 2018، تقريرها النهائي بعد تقديمه لرئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، والذى كلفها بإعداد تقرير عن الإصلاحات التشريعية المتعلقة بالحريات والمساواة وفقًا لدستور 2014 والمعايير الدولية لحقوق الإنسان. الأمر الذى أدى إلى جدل كبير فى المجتمع التونسى ، حول مدى مخالفة هذا التقرير للشريعة الإسلامية، والعادات والتقاليد التى عرفها المجتمع العربى. وعلى الرغم من تقدمية القانون والدستور التونسى، إلا أن هذا التقرير يعتبر طفرة فى إنهاء العلاقة مع التراث، والبدء فى مرحلة جديدة أكثر مدنية وعلمانية. 

كما أن الجدل حول التقرير، شمل بٌعد أكثر أهمية فى مدى نخبوية وفوقية عملية التحديث والعلمنة التى شهدتها تونس منذ الخمسينات، فقد كانت التجربة البورقيبية فى التحديث تجربة سلطوية، مفروضة من أعلى إلى أسفل، وهذا لا يعنى عدم وجود قطاعات كبيرة مؤيدة للعلمانية، خاصة أن المناهج التعلمية، وعملية التثقيف السياسى، كان يغلب عليها الطابع العلماني. تقدم الورقة قراءة فى تقرير اللجنة، ومن ثم النظر فى الوضع السياسى والاجتماعى فى تونس ومدى قدرة الحكومة على تنفيذ هذه الإصلاحات خاصة فى ظل اقتراب الاستحقاق الإنتخابى الرئاسى فى 2019 

أولا- ملامح تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة: 

1-  إعادة قراءة النص الدينى من منظور حقوقي:

لم يخلو تقرير لجنة الحقوق الفردية من اللمحة الدينية المعتادة فى أى حديث حول الحقوق والحريات، فلم يعتمد التقريرعلى الإيدلوجية الليبرالية أو العلمانية فى مدخله الفكرى، بل أعتمد على تقديم مقاربة دينية واجتماعية تقوم على إعادة قراءة للنص الدينى بشكل مغاير عن السائد، حيث حاول تقديم فهم جديد أكثر تقدمية لما ورد ذكره فى القرأن والسنة النبوية. فقد بدأ التقرير من منطلق ديني وهو ” لا إكراه فى الدين” و”من شاء فليمؤمن ومن شاء فليكفر”، فقد رأت اللجنة أن الإسلام كفل حرية العقيدة، وحرية الاختيار، ولا توجد لأحد السلطة لإجبار الناس على القيام بأفعال مخالفة لما يعتقدونه أو يرونه صحيح من وجهة نظرهم. 

وقد رأت اللجنة أن الدولة ليست من المفترض أن تتخذ موقفا معاديا للحريات الفردية، وحتى إن استندت إلى الدين الإسلامى كأساس للتشريع، لأن جزءاً أساس من الإسلام منع إنتهاك حرمة الحياة الخاصة، فقد حرم الإسلام التجسس على الغير وخاصة داخل بيوتهم، حتى وإن خالف سلوكهم الدين ذاته. وقد ذكرت اللجنة فى ديباجة التقرير الأية القرأنية “وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا” بإعتبارها جزء أساس من الإطار العام لرؤية اللجنة لدور الدولة فى الحريات الخاصة. بالإضافة إلى أنهم أعتبروا أن تدخل السلطات فى تفسير النص الديني، جزء من عملية الاستبداد السياسي والاجتماعي، لأن احتكار تفسير الدين يمنع أى اجتهادات مخالفة لرؤية أجهزة الدولة، وهذا ما قد نجده على سبيل المثال فى محاولات طمس معنى الخلافة، فتم تحجيم حرية الإنسان بإعتباره خليفة الله فى الارض لصالح المجتمع والدولة، وأصبحت حريات الإنسان محدودة للغاية فى العالم الإسلامى والعربى. 

أما فيما يخص المساواة، فقد ظهر تيار ديني فى تونس منذ عقود تميز بإنه يميل إلى البعد المقاصدى فى تفسير التراث الدينى، وكان لهذا التيار دور كبير فى معالجة بعض أشكال الظلم والتمييز ضد المستضعفين والمهمشين مثل قضية الرق والعبودية، والتى قامت تونس بإلغاءها فى عام 1846. ومن هذا المنطلق بدأ التقرير يتحدث عن المساواة فى الميراث ما بين الرجال والنساء، بإعتباره مسألة اجتماعية فى المقام الأول قبل أن تكون مسألة دينية، وبالتالى فهي متأثرة بالسياق الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع البشرى وليست عابرة للتاريخ. واستنادًا إلى مقصد الدين والذى يهدف إلى العدل والمساواة، يمكن الاعتماد على روح الدين من أجل تحقيق مساواة كاملة بين الجنسين لتحقيق العدالة . 

وقد أعتمد التقرير على جوهر الدين المساواتي بين الرجال والنساء فيما يخص، التكليف والثواب والعقاب، بناءاً على ذكر الله فى الأية رقم 35 من سورة الأحزاب ” إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا”، وغيرها من الأيات والاحاديث التى يمكننا استخلاص مقاصد المساواة والعدل منها.

2- توسيع نطاق الحريات والحقوق الفردية:

قدم التقرير إطار أكثر اتساعًا للحقوق الفردية والحريات العامة والخاصة، تماشيًا مع مبادئ الاعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية. 

  1. إلغاء عقوبة الاعدام: دعا التقرير إلى إلغاء عقوبة الإعدام بإعتبار أن الحق فى الحياة مقدس وأبدي، ولا يجوز لأحد أن يسلب الانسان حياته، خاصة فى ظل وجود تشريعات تحتوى على عقوبات إعدام فى حالات لا يقوم المجرم فيها بجريمة قتل. وهذا بدوره قد يؤدي إلى استخدام الاعدام كأداة سياسية واجتماعية للتخلص من المعارضين أو أداة للقتل بمباركة القانون، لذلك يدعو التقرير على إنه إذا تم إبقاء عقوبة الاعدام، فعلى الأقل أن تتم فى أضيق الظروف ولا يتم تطبيقها على الاطفال أقل من 18 عام أو على النساء الحوامل.
  2. تجريم الدعوة إلى الانتحار: تدعو اللجنة إلى معاقبة الداعين إلى الانتحار، بإعتباره يؤثر على الاخرين والذين قد يكونوا ليست لديهم أهلية كافية لمقاومة هذه الدعوات. وفى ذات الوقت تتفهم اللجنة فكرة الموت الرحيم.  
  3. الحق في الكرامة الانسانية ومناهضة التعذيب:  تتبنى اللجنة التعريف الدولي للتعذيب، مع عدم قصره على أجهزة الأمن فقط ولكن لكل من يمارس التعذيب ضد أى إنسان، حيث تؤكد اللجنة على حرية الشخص في جسده، مؤكدة أن هذه الحرية لصيقة بالنفس البشرية. 
  4. تدعيم الحريات الجنسية: ترى لجنة الحريات الفردية أن الحياة الخاصة للمواطنين لا دخل للحكومة بها، بل على الدولة حماية الحياة الخاصة للافراد، ومنها على سبيل المثال مظهره، وحياته العاطفية والجنسية والاجتماعية، وقناعاته وافكاره، وأيضًا سلوكه ومحادثه فى الاماكن الخاصة وسرية معلوماته. وتعتبر المثلية الجنسية فى صلب الحريات الجنسية، فقد رأت اللجنة أن الممارسات الجنسية بين الراشدين لا دخل للدولة بها، بالإضافة إلى مطالبتهم بإلغاء أى قوانين بها مصطلحات فضفاضة مثل الحفاظ الأخلاق العامة والأداب العامة، وأيضًا إلغاء عقوبات التجاهر بفاحش، بإعتبارها من بدهيات الحديث حول الحريات الفردية.
  5. تجريم التكفير وخطابات الكراهية: حيث يؤكد التقرير على ضرورة إلغاء كافة قوانين إزدراء الأديان، التى فى الأغلب تستخدم ضد الملحدين واللادينين، كما أنها ترفض كافة خطابات التكفير والكراهية إيمانًا بحرية الفكر والتعبير وحرية المعتقد والضمير الإنسانى. 
  6. حرية المعتقد المطلقة: يؤكد التقرير على أهمية إتاحة حرية المعتقد على الإطلاق بما فى ذلك حرية الإلحاد أو عدم الاعتقاد بأى دين، مؤكدة على أن وجود ديانة مهيمنة على القانون والدستور يفرغ حرية المعتقد من معناها. 

 

  1. التأكيد على قيم المساواة والعدالة: 

ترى لجنة الحقوق الفردية أن التمييز يظهر فى عدة مواضع أهمها التمييز على أساس الجنس أو العرق واللون والمظهر الخارجي أوالسن أوالحالة الصحية أواللغة أوالدين أوالرأي أو الطبقة الاجتماعية أوالميول الجنسية…الخ، وتؤكد إنه يجب القضاء على كافة أشكال التمييز والعنصرية، وتحقيق المساوأة بين جميع المواطنين والبشر، بإعتبار أن المساواة حق لصيق بالإنسانية، بالإضافة لكونه يتماشى مع الاتفاقات الدولية لحقوق الانسان. ويؤكد التقرير أن النصوص التشريعية التونسية يظهر فيها جانب من التمييز ضد النساء والاقليات، وأن نص الدستور على أن الإسلام دين الدولة لا يمنع من اقرار المساواة. 

  1. فيما يخص قضايا الزواج: 

قدم التقرير رؤية تقدمية متكاملة فى محاولة منها لإلغاء التمييز الإيجابي للرجال مقابل النساء. ولم تخل هذه الرؤية من قضايا الزواج وعلى رأسها قضايا المهر والحضانة والنفقة والولاية والعدة، حيث دعا التقرير إلى إلغاء المهر بإعتباره مهانة للمرأة وتقليلًا من كرامتها لإنه يعتبر ثمنًا مقننا لشراء النساء، كما دعا التقرير إلى إلغاء الولاية على السيدات فى الزواج بإعتبار أن المرأة كاملة الأهلية ويمكنها تزويج نفسها بدون ولي، لأن نظام الولاية أدى إلى انتشار زواج النساء بدون موافقتهن. وكذلك مسألة العدة التي تبدو وكأن العصر قد تجاوزها وأن الطب يمكن أن يعوض الانتظار الذي لا يلزم سوى المرأة دون الرجل. بإلاضافة إلى الدعو إلى المساواة بين الرجال والنساء فى الإنفاق على الأسرة وبالتالى إلغاء أى ميزة للرجال فى الانفاق وبالتالى فى القوامة والسيطرة.  

ودعا التقرير إلى تغيير قوانين منح الجنسية، إذ يرى القانون أنّ زواج التونسية بأجنبي هو زواج مشبوه في صحته، وبالتالى لابد من المساواة بين الرجال والنساء فى منح الجنسية لشركائهم فى الزواج. وطالبت اللجنة أيضًا بمنح الأفراد الرشّد الحق فى اختيار لقب أمه أو فى الهوية الوطنية. 

  1. فيما يخص قضايا المواريث: 

دعا التقرير إلى ضرورة تطوير نظام المواريث بإعتباره نظامًا اجتماعيًا بالاساس قبل أن يكون نظامًا دينيًا، بالإضافة إلى أن النظام التونسى هو مدنى وليس ثيوقراطي، وبالتالى فأن أى مبررات دينية حول رفض المساواة فى الميراث غير متسقة مع طبيعة الدولة المدنية فى تونس. وبما أن الشعب هو صاحب السيادة وهو مصدر السلطات، فإنه يحق له تطوير قوانينه بما يناسبه ويناسب عصره وظروفه الاقتصادية والاجتماعية. 

والسياق الاجتماعى الحاضر لا يدعم أى استمرار فى بنية المواريث القائمة، خاصة أن النساء أصبحن يشاركن بقوة فى سوق العمل وينفقون على أسرهم بجانب أزواجهم، وبالتالى فأن مبرر الانفاق وقوامة الرجال غير موجود. وأيضًا القانون والدستور ينص على مساواة المواطنين والمواطنات كافة فى الحقوق والواجبات، ومن هنا فإن وجود أى ينص تميزي هو يخالف صراحة الدستور والقانون، وكذلك الاتفاقات الدولية. ولا يمنع الابناء غير الشرعيين من الميراث، بل لابد من المساواة بين الابن الشرعي والابن الطبيعي (غير الشرعى) في الميراث وغيره من الحقوق المدنية.    

ثانيا – إشكالية الدين والدولة المدنية والمجتمع المحافظ: 

فتح تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، باب الجدال الحاد على مصراعيه، بين النخب السياسية والاجتماعية وبين المواطنين أنفسهم، وكان من المنتظر أن يؤدي ظهور التقرير إلى حدوث نقاش جاد وعميق حول هوية المجتمع التونسى، وشكل الدولة والنظام السياسى الأفضل. ولكن جاءت ردود الفعل الأولى أكثر هجومية وضحالة ما بين جميع الاطراف، فالبعض يؤمن بالدولة العلمانية والبعض الأخر يؤمن بسلطة الدين الإسلامي، وكان التكفير وسيلة الجميع فى النقاش، سواء الكفر بالدين أو الكفر بالدولة المدنية الحديثة. وكأنه لا توجد مسارات أخرى للنقاش تضمن للجميع العيش المشترك وقبول الأخر وتضمن الحريات الفردية.

هذه اللحظة تحديدًا هى لحظة كاشفة فى التاريخ التونسى المعاصر، كاشفة لمدى هشاشة التجربة التونسية فى التحديث والتمدن والعلمانة. ورغم كونها لحظة تاريخية مخيبة للأمال لأن تونس دوما ما يتم الحديث عنها بإعتبارها الأكثر تقدمية فى منطقة الوطن العربى، إلا إنها فرصة حقيقية لإعادة النظر فى تركيبة المجتمع التونسى ومساحة لتعميق قبول الاختلاف والتنوع.

تطرح هذه الأزمة إشكاليات عدة أهمها، إشكالية الطابع السياسى للتقرير، وإشكالية الاسلوب الفوقي فى تطبيق الاصلاحات الاجتماعية. فيمكننا القول أن أحد أهم أسباب أزمة الجدل المثار هو الطابع السياسي الذى ظهر من خلاله التقرير وتشكيل اللجنة من الاساس، فقد تم اختيار أعضاء الجنة من قبل رئيس الدولة بطريقة سياسية بحتة؛ فكل أعضائها من نفس الخلفية الفكرية ولهم نفس الأراء تقريبا، المأخوذة من سياق التحديث الفرنسى اللائكي، ولم تتضمن اللجنة مندوبون من التيارات الدينية المحافظة أو أشخاص أخرين غير مؤيدين للإيدلوجية الليبرالية أو العلمانية. وهذا ما أدى إلى ظهور ردة فعل دفاعية رافضة للتقرير بين قطاعات مجتمعية كبيرة على عكس ما كان متوقع. 

وقد ساد شعور لدى البعض أن التقرير جاء بهدف التوريط السياسى لحزب النهضة والفاعلين الإسلاميين فى المشهد السياسى التونسي، خاصة أن البلاد فى مرحلة الاستعداد لانتخابات 2019، والتى تعتبر انتخابات محورية فى تاريخ الثورة التونسية، لان الجماهير التى أتت بحزبي النهضة ونداء تونس إلى الحكم، قد خاب أملهم فى الحزبين، خاصة بعد أن فشلوا فى إخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية، وفشلوا فى تقليل حدة الاستقطاب السياسي. وبالتالى يتم حصر الناخب التونسى بين تيارات الحداثة والتقدم وتيارات الرجعية والتخلف، وهذه المعادلة يخاف منها حزب النهضة طيلة الوقت. 

فحزب النهضة يسوق لنفسه دائما بإعتباره الحزب المدني الديمقراطي ذي المرجعية المحافظة (الإسلامية)، ليخرج من الزاوية التي حشرت فيها جميع الأحزاب والتيارات ذات المرجعية الإسلامية فى الوطن العربى، وبالتالى وضعه فى معادلة الرجعية أوالتحديث، تفقده جزءًا من شرعيته السياسية والاجتماعية، خاصة أمام الغرب.  فإذا تظاهر بالرفض الشديد سيفقد تأييد الغرب له، الذى يعتبر الحزب حتى الان فرصة لظهور مقاربة إسلامية ديمقراطية جديدة فى الوطن العربى. وأما إذا تظاهر باللامبالاة أو القبول، فهذا قد يفقده جزء كبير من ثقة الناخبين، الذين مازالوا يعتقدون فى إسلامية الدولة التونسية، وأن الحزب سيعيد الحكم بما أنزل الله في أمور الأسرة والمجتمع. وقد أكتفى الحزب رسميًا بالتعليق على التقرير بأن ” بعض المسائل قد تهدد كيان الأسرة ووحدة المجتمع”، وإنه سيقوم بالتعليق تفصيلًا عندما يتحول التقرير إلى مشاريع قوانين يتم مناقشتها فى البرلمان. 

أما الإشكالية الأخرى، هى أن معركة الحريات لا تحسم بالقوانين بل هي معركة ميدانية، بين العقول، ولا يمكن أن يتم ترسيخ قيم الحرية والمساواة من خلال القوانين فقط، بل لابد من تغيير الثقافة ذاتها، فالمعركة ثقافية وليست قانونية. وأسلوب التغيير من أعلى إلى أسفل، فى المسائل الثقافية والاجتماعية لا تجدى نفعًا كبير خاصة فى منطقة الوطن العربى، التى يدين أغلب سكانها بدين يقال عنه أنه دين ودولة. والجدير بالذكر أن مسيرة العلمنة والتحديث فى تونس فرضت على المواطنين بالقوانين بداية من عهد الحبيب بورقيبة، خاصة فيما يخص مجلة الأحوال الشخصية، ولم تحدث النقاشات والحوارات المجتمعية مع نخبة المجتمع حينها بشكل جدي، خاصة فى الاعتراضات على قانون منع تعدد الزوجات. 

ولكن السؤال هو ما إذا تم إلغاء قانون منع تعدد الزوجات بالنسبة للمسلمين، هل سيلتزم المواطن  بتعدد الزوجات أم إنهم سيلتزمون بالقانون القديم لإنه تجدر فى وجدانهم ؟ حين يحدث ذلك سنستطيع معرفة نتيجة عملية التحديث السابقة. فالشعب ذاته هو من أتى بحزب النهضة والإسلاميين إلى السلطة بعد الثورة، وهذا يدل على بعض الجذور المحافظة لدى الناس، رغم أن جماعات الإسلام السياسي فى تونس أكثر انفتاحًا منها فى دول أخرى مثل مصر. 

هذه الاشكاليات لم تطف على السطح بقوة إلا بعد الانفتاح الذى شهدته تونس بعد الثورة، فالمجال العام المنفتح بعد الثورة أتاح الفرصة أن يمارس المواطنين حرية الضمير المنصوص عليها فى دستور البلاد، فقد شهد الشارع التونسي اختبار أشكال جديدة ومختلفة من الحريات، لم يكن يراها من قبل بشكل واضح ، وهذا أدى إلى خلق حالة من الصدمة والهلع لدى فئة من الشعب ترجمت برفض بلغ حدّ المطالبة بتنقيح الدستور أو إلغائه بدعوى تعارض بعض فصوله مع الدين الإسلامي ومع الأعراف التي يفرضها المجتمع. ومن هنا رأى الجميع أن التمتع بالحريات لم يكن بالسهولة التى كتب بها الدستور. 

الخلاصة:

يطرح تقرير لجنة الحقوق الفردية والمساواة، مجموعة من الاشكاليات، كما إنه يطرح عدة فرص جوهرية، مرتبطة بالمرحلة الانتقالية التى تشهدها تونس منذ سبع سنوات، فالفرصة الحقيقة هو وجوب وجود نقاش هادئ حول التقرير، يفتح من خلاله مسارات لتطوير المجتمع ، ويكون أكثر انفتاحًا واتساقًا مع الافكار التى يمكن للمجتمع أن يتوافق حولها بشكل أكثر عقلانية، بعيدًا عن المهاترات السياسية والثنائية والاستقطاب بين الفرقاء السياسيين. ويطرح فرصة للنقاش العقلاني والمنطقي فى مدى جدوى تطبيق التحديث بشكل نخبوي، ويطرح حوار مجتمعي جاد حول أولوية النص القانونى على الفعل الاجتماعى.  

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.