فرنسا ترعى ترسيم الحدود اللبنانية السورية: إغلاق ملف “مزارع شبعا”.

د. محمد قواس، مركز تقدم للسياسات

ورقة سياسات.

ملخص تنفيذي:

-قد يساهم تدخّل فرنسا من أجل ترسيم الحدود اللبنانية في حلّ ملف إشكالي قديم بسبب رفض نظام الأسد، الأب والابن، في سوريا التعاون لتثبيت النقاط الحدودية بين البلدين.
-يمنح ترسيم الحدود السورية اللبنانية بيروت وثيقة رسمية بشأن هوية مزارع شبعا السياسية التي ظل التنازع على هويتها بين لبنان وسوريا.
-كشف فرنسا عن أرشيف خرائط تعود لمرحلة الانتداب كان مفاجئا، بالنظر إلى أن المسألة مثارة منذ الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000 من دون ظهور تلك الخرائط.
-التدخل الفرنسي في هذا الملف يجري بالتنسيق مع واشنطن، ويستفيد من مبادرة الرئيس الفرنسي بدعوة الرئيس السوري لزيارة باريس.

تقديم:

بقيت قضية ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا إشكالية في عهدي الأسد، الأب وابن، في سوريا. وقد تراوحت أسباب ذلك ما بين ما هو أيديولوجي يرفض في دمشق عقائديا الاعتراف ضمنا باستقلال لبنان عن سوريا، وتجسّد ذلك بعدم وجود سفارة سورية في بيروت حتى عام 2008، وما هي أسباب ظرفية كتلك التي ارتبطن بهوية مزارع شبعا بالذات السياسية من بين مناطق حدودية أخرى متنازع عليها. وفيما دعمت دمشق حجّة احتلال إسرائيل “المزارع” لمنح حزب الله ودمشق فضاء أوراق تماسّ ميداني مع إسرائيل، فإن سقوط النظام السوري السابق وتغير طبيعة الطبقة الحاكمة في لبنان وانقلاب التوازنات الجيوستراتيجية بعد اندلاع حرب غزّة، يطلق ورشة دولية تقودها فرنسا لترسيم الحدود السورية اللبنانية وإغلاق ملف مزارع شبعا.

ظهور ورقة مزارع شبعا:

انسحب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان في 25 مايو 2000 بعد احتلال دام قرابة 18 عاما. ووضعت إسرائيل هذا الأمر في إطار تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 425 الصادر عام 1978 والقاضي بانسحاب إسرائيل من كامل الأراضي اللبنانية. واعتبرت إسرائيل بانسحابها أنها أغلقت ملف لبنان، ما يفترض أن يحتم على لبنان آلياً استعادة الأراضي التي كانت محتلة ونشر جيشه وعودة الحدود إلى اتفاقية الهدنة لعام 1949.
غير أن السلطات اللبنانية التي كانت تخضع حينها لوصاية نفوذ النظام السوري برئاسة بشّار الأسد ونفوذ إيران خلفه، من خلال حزب الله، رفضت نشر الجيش اللبناني في جنوب لبنان، معتبرة أن إسرائيل لم تنفذ القرار 425 بشكل كامل كونها لم تنسحب من كافة الأراضي اللبنانية، لا سيما من منطقة مزارع شبعا، وبالتالي فإن أراض لبنانية ما زالت محتلة تستلزم بقاء “المقاومة” على حالها.
وفيما تُعتبر مزارع شبعا “منطقة متنازع عليها” بين لبنان وسوريا، فإن دمشق رعت الرواية الرسمية اللبنانية ودعمتها بغرض إبقاء الحدود الجنوبية منطقة قتال، ما يبرر شرعية استمرار “المقاومة” التي أشارت إليها وثيقة “الطائف” لعام 1989 كما استمرار شرعية النصّ على حقّ “المقاومة” لتحرير الأرض في كافة البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة حتى عام 2025.
ورغم أن القوى السياسية اللبنانية المناوئة لحزب الله والوصاية السورية في لبنان اعتبروا أن ظهور مسألة مزارع شبعا هي مناورة مصطنعة لتبرير بقاء سلاح الحزب واستمرار دمشق في استخدم جنوب لبنان ورقة ضغط بيدها تعوضها عن عدم استخدامها ورقة الحدود الجنوبية السورية في الجولان، فإن الحكومات التي تعاقبت في لبنان بعد انسحاب القوات السورية عام 2005، لا سيما تلك التي تشكّلت بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، برئاسة فؤاد السنيورة، طالبت سوريا بترسيم الحدود بين البلدين لتشمل مزارع شبعا. وكانت بيروت تطالب بذلك بتثبيت لبنانية أو سورية تلك المنطقة ليبنى على الشيء مقتضاه.

قصة “المزارع”:

يدور النزاع بشأن مزارع شبعا على نحو لا تقرره إلا الإرادات السياسية. وتتركز النقاشات حول أن هذه الأراضي كانت في الأصل لبنانية ودخلتها أدوات الدولة السورية الشرطية والأمنية في خمسينات القرن العشرين وتجنّبت بيروت فتح صدام مع دمشق في تلك الحقبة الزمنية من أجل منطقة حدودية تضاف إلى أخرى متنازع عليها بين البلدين. بالمقابل فإن إسرائيل تعتبر أن هذه المناطق تمّ احتلالها في حرب عام 1967، وكانت سورية، ما يعني أن القرار 425 الخاص بالأراضي المحتلة في لبنان لا يشملها، وأن مصير هذه الاراضي يتقرر في أي اتفاق بين إسرائيل وسوريا.
ويذكر تقرير أممي، صدر في 22 مايو 2000، أن “الأمم المتحدة تلقت خريطة مؤرخة في عام 1996، من حكومة لبنان توضح موقف الحكومة بأن هذه المزارع كانت واقعة داخل لبنان. غير أن في حوزة الأمم المتحدة عشر خرائط أخرى أصدرتها، بعد عام 1996، مؤسسات حكومية لبنانية، منها وزارة الدفاع، تضع المزارع داخل الجمهورية العربية السورية”. وكانت بيروت طلبت من دمشق إيداع الخرائط لدى الأمم المتحدة التي تثبت الوضع الحقيقي لهذه المنطقة، إلا أن نظام بشّار الأسد الداعم لحجةّ لبنان بالمطالبة بمناطق مزارع شبعا اللبنانية، رفض تسليم لبنان والأمم المتحدة أية وثائق تثبت ذلك، أو حتى تقديم تنازل سوري عنها لصالح لبنان، واكتفت منابر دمشق في القول إنه سواء كانت “المزارع” لبنانية أو سورية، فإنها أراض محتلة عربية يحب على إسرائيل الانسحاب منها، وهو قول شعبوي لا يستقيم في العلاقات القانونية الدولية.
وفي تقرير لمجلس الأمن في 12 سبتمبر 2006 بشأن تطبيق قرار 1701 (والذي أمر بوقف العمليات القتالية بين حزب الله وإسرائيل) أكد الأمين العام أن حل قضية مزارع شبعا يلزم التوصل لاتفاق لبناني سوري بشأن ترسيم الحدود الدولي بينهما، بما يعني أن المعضلة هي سياسية تتطلب إرادات البلدين لتسوية تطوي صفحة هذا الملف. وقد أعاد المسؤولون اللبنانيون الذين التقوا بالرئيس السوري أحمد الشرع، لا سيما رئيسي الحكومة، نجيب ميقاتي ونواف سلام إثارة مسألة ترسيم الحدود بين البلدين.

فرنسا تفرج عن أرشيفها:

ظهر جديد في هذا الملف حين أبلغ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نظيره اللبناني جوزيف عون، أثناء زيارة الأخير لباريس، في 28 مارس 2025، بأن الجيش الفرنسي يملك خرائط للبنان وسوريا تعود إلى زمن الانتداب، توضح حقيقة الحدود المشتركة بينهما، وصولًا إلى مزارع شبعا. وقد طلب لبنان الاطلاع على هذه الخرائط، وطلب مساعدة فرنسا في ترسيم الحدود البرية، ما من شأنه أن ينهي مشكلة الحدود في مزارع شبعا.
وإثر استقبال ماكرون للرئيس السوري أحمد الشرع، في في 7 مايو 2025، أرسلت باريس خرائط الحدود المشتركة إلى لبنان وسوريا كخطوة أولى على طريق الشراكة في ترتيب العلاقات والترسيم البري مع سوريا، والبحري لاحقًا بين سوريا ولبنان وقبرص.
أتى هذا التطوّر أيضا إثر قمّة رعاها ماكرون، في 28 مارس 2025، حضوريا وعن بعد مع رؤساء لبنان وقبرص واليونان وسوريا وتركز البحث على الحدود البحرية والبرية المشتركة، والمشاكل التي تشهدها الحدود بين لبنان وسوريا. ويكشف الأمر توق فرنسا للعب دور في ملف ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وسوريا وقبرص.
وتعود الخرائط الفرنسية التي تسلمها لبنان إلى أيام الانتداب عام 1943، وقد أُعدّت بإشراف اختصاصيين في الجغرافيا وترسيم الحدود، وهي دقيقة إلى درجة اعتمادها كمستند في عملية ترسيم الحدود بين البلدين. وتؤمّن عملية ترسيم تنهي الصراع المستمر على الحدود البرية، لا سيما فيما يخصّ مزارع شبعا، وتُحقق للبنان حالة “ستاتيكو” أمني على حدوده مع إسرائيل، بحسب المصادر

مهمات باريس:

وجدت مصادر لبنانية في خطوة باريس سعيا فرنسيا لمنح لبنان حجّة موثّقة دوليا تمكنه من حسم الجدل الداخلي بشأن مزارع شبعا، بحيث يمكن إما الطعن بحجّة لبنانيتها وبالتالي الذهاب إلى ترسيم الحدود البرية مع إسرائيل من دون هذا الملف واسقاط مبرر وجود “المقاومة” وسلاحها، أو التثبت من أنها لبنانية، فيجري إيداع وثائق الأمر لدى الأمم المتحدة، وتجري مفاوضات الترسيم وفق تلك الحقائق القانونية، وتتولى الدولة حصريا مهمة المطالبة بحقوقها وإعادتها إلى السيادة اللبنانية.
ويعتقد أن السلوك الفرنسي ليس بعيدا عن مركز القرار بشأن لبنان وسوريا في واشنطن. بمعنى أن فرنسا التي تتشارك العضوية مع الولايات المتحدة داخل اللجنة الخماسية الإقليمية الدولية بشأن لبنان (تضم الدولتان إلى جانب مصر والسعودية وقطر) تعمل على اتخاذ إجراءات “تكميلية” لتلك التي أنتجت ضغوطا أدت إلى انتخاب جوزيف عون رئيسا للجمهورية وشجعت على تشكيل حكومة برئاسة نواف سلام، بما يعني أن الإفراج “المفاجئ” عن أرشيف فرنسا بشأن الحدود السورية اللبنانية هو قرار دولي لإقفال هذا الملف.
والأرجّح أن فرنسا مهتمة بالإشراف على ترسيم الحدود البرية بين لينان وسوريا بالنظر إلى طموحات فرنسا في البلدين واستحسان وساطتها في هذا الشأن بعد أن خطت باريس خطوة متقدمة واستثنائية في استقبال الرئيس السوري أحمد الشرع، في 7 مايو 2025، كأول دولة أوروبية وغربية تستقبل الرئيس السوري الجديد وسط أنباء عن تخطيط الرئيس الفرنسي لزيارة سوريا، في سبتمبر 2025، وهي زيارة قد تشمل لبنان. وتفيد معلومات أنه ومن ضمن الأفكار المطروحة، بعد الترسيم، تشكيل لجنة شبيهة بلجنة المراقبة لوقف النار في الجنوب، للإشراف على الحدود المشتركة على طول الحدود بين لبنان وسوريا، مع احتمال وجود قوات “اليونيفيل” لحفظ الأمن هناك، بما يعني أن أي اتفاق على ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا قد يخضع لمراقبة أممية ستحتاج إلى موافقة الدول الأخرى الدائمة العضوية داخل مجلس الأمن.

خلاصة واستنتاجات:

**ترسيم الحدود البرية التي تشرف الولايات المتحدة على رعاية المفاوضات بشأنه تحتاج إلى اتفاق ينهي الجدل بشأن لبنانية “مزارع شبعا” من عدمها.
**تتوفر الظروف الجيوستراتيجية بعد تغير طبيعة الحكم في لبنان وسوريا وانقلاب موازين القوى في المنطقة بعد حرب غزّة لتحضير بيئة حاضنة لاتفاق حدود بين سوريا ولبنان.
**يُسقط ترسيم الحدود السورية اللبنانية ورقة “مزارع شبعا” التي أثارتها بيروت في عهد الوصاية السورية ونفوذ حزب الله لتبرير استمرار انتشار حزب الله في جنوب لبنان.
**يعتقد أن مصلحة فرنسية مباشرة ومتاحة في لبنان وسوريا دفعت باريس للإفراج عن أرشيف الخرائط الذي يحدد في مرحلة الانتداب الفرنسي خطوط الحدود اللبنانية السورية.
**يُعتقد أن باريس تطمح لتكون راعية للمفاوضات الحدودية بين لبنان وسوريا، وأنها مستفيدة من تطوّر علاقاتها مع سوريا بعد استقبال الرئيس الفرنسي للرئيس السوري ما قد يسهل
مهمتها في هذا الملف.
**الأرجح أن التحرك الفرنسي يحظى بتشجيع من الإدارة الأميركية بما يكشف تعاون الدولتين لإنهاء النزاعات الحدودية بين لبنان وإسرائيل وبين لبنان وسوريا.
**تتوق فرنسا للعب دور في ملف ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وسوريا وقبرص.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.