غياب التوافق الدولي والإقليمي حول ليبيا: استعادة الدولة ومؤسساتها أقرب إلى النوايا الحسنة
لا تحظى ليبيا بالاهتمام الدولي والإقليمي الكافي لحل أزماتها السياسية والأمنية، وباستثناء الجهود الفرنسية والإيطالية لدعم إنشاء حكومة موحدة، والجهود المصرية لتوحيد الجيش، فإن الجهد الدولي يبدو مشتتا وعاجزا عن تقديم حل ناجح.
وعلى الرغم من الاختلافات بين إدارتي أوباما وترامب، إلا أن الرئيس الأمريكي الحالي يتبع سياسات مشابهة لسلفه فيما يتعلق بالأزمة الليبية، حيث يترك العبء الأكبر على الدول الأوروبية، وفي أبريل 2017 قال ترامب: “لا أرى أي دور للولايات المتحدة في ليبيا”، سوى “مطاردة تنظيم داعش، وهو هدف أمريكي بغض النظر عن المكان الذي يكون فيه، سواء العراق أم ليبيا أم أي بلد آخر”.
أما الموقف الروسي، فرغم أنه تردد كثيرا الحديث عن دعم روسي لحفتر، فإن ذلك لم يتعد على أرض الواقع بعض الدعم السياسي، بينما حافظت روسيا على موقفها القريب من كل الأطراف، واستقبلت في أبريل 2017 وفدًا من قوات “البنيان المرصوص” وهي ميليشيات من مصراتة تعمل تحت قيادة حكومة الوفاق، وهاجم الوفد في موسكو حفتر وجيشه واتهمه بدعم الإرهاب، وتحاول روسيا الاحتفاظ بعلاقات مع كل الأطراف المؤثرة في ليبيا، دون أن تتورط في الصراع بشكل مباشر.
الأوروبيون وهم الأكثر تورطا في الساحة الليبية، كان دورهم متخبطا منذ دعم الثورة لإسقاط نظام القذافي، لكن تزايد أعداد المهاجرين من ليبيا إلى السواحل الأوروبية، إلى جانب قلق وتخوف أوروبي من أن يستقدم التسيب الموجود فى ليبيا بعض المهزومين في الموصل والرقة، دفع دولا أوروبية على رأسها إيطاليا وفرنسا لبذل جهود أكثر تنسيقا لحل الأزمة الليبية.
التدخل الإيطالي جاء في البداية عبر تمويل الميليشيات لمكافحة عصابات تهريب المهاجرين، وقد أدى هذا الإجراء لتقليل عدد المهاجرين الذين وصلوا لإيطاليا بالفعل، لكنه خلق مشاكل أخرى فادحة؛ فصراع الميليشيات في مدينة صبراتة غرب طرابلس التي تعد مركز عصابات التهريب في ليبيا، للتنافس على الأموال الإيطالية، أدى لسقوط عشرات الضحايا في المدينة، كما تعرض المهاجرون لمعاملة وحشية داخل مراكز الاحتجاز التابعة للميليشيات، إلى جانب أن عصابات التهريب حين فشلت في تهريب المهاجرين إلى إيطاليا باعتهم عبيدا في ليبيا.
أدى هذا الوضع إلى ضغوط دولية على إيطاليا لتحمل مسؤولياتها عن الوضع السيئ للمهاجرين في ليبيا، والتوقف عن تمويل الميليشيات التي تزيد الوضع الداخلي الليبي سوءا، فحولت إيطاليا دعمها من ميليشيات مكافحة المهربين إلى دعم القوات التابعة للمجلس الرئاسي، فأرسلت معدات وآليات لتعزيز البحرية الليبية في طرابلس ودعمت قوات مصراتة عسكريا ولوجستيا، وصوت مجلس النواب الإيطالي في يناير 2018 بالموافقة على تعزيز قدرات البعثة العسكرية والأمنية الإيطالية في ليبيا ورفع عدد أفرادها إلى 400 عنصر، وهو ما اعتبره الجيش بقيادة حفتر تدخلا أجنبيا مرفوضا في بلاده.
وعلى النقيض من الموقف الإيطالي، كانت فرنسا أحد أبرز الداعمين للجيش بقيادة حفتر في الشرق، فقدمت له دعما عسكريا سريا عبر طلعات جوية حربية وتقديم معلومات استخبارية ومشاركة مستشارين عسكريين فرنسيين في العمليات العسكرية، وقد اضطرت فرنسا لإعلان دعمها العسكري لحفتر عام 2016 حين قتل ثلاثة عسكريين فرنسيين على متن مروحية في بنغازي.
ويكمن الاختلاف الجوهري بين فرنسا وإيطاليا في الأولويات التي يضعها كل منهما لتبرير تدخله في ليبيا، فمكافحة الإرهاب هي الأولوية بالنسبة لفرنسا، ولذلك دعمت قوات حفتر التي تعتبر الإسلاميين خطرا ينبغي استئصاله، بينما مكافحة الهجرة غير الشرعية هي أولوية إيطالية، ولذلك قدمت إيطاليا دعمها لمجموعات إسلامية بعضها مقرب من المتشددين، مثل سرايا الدفاع عن بنغازي وميليشيات مصراتة؛ لأنهم ساهموا في مكافحة الهجرة غير الشرعية.
وتغير مؤخرا الانحياز الفرنسي لحفتر، فبعد استقباله كما لو كان رئيسا في باريس، خلال لقاء جمعه بالرئيس ماكرون ورئيس حكومة الوفاق السراج، تبدى غضب الفرنسيين منه إثر إعلانه في ديسمبر 2017 انتهاء صلاحية اتفاق الصخيرات الذي تشكلت بموجبه حكومة الوفاق الوطني، حيث سرعان ما أعلن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في مؤتمر صحفي من بنغازي بعد لقائه بحفتر: “قلت له إنه لا بديل لخطة الأمم المتحدة أمامك”.
إقليميًا، تؤثر الخلافات المحلية على موقف مصر والإمارات وقطر وتركيا من أطراف الصراع، فالإمارات ومصر يدعمان حفتر ماديا وعسكريا ولوجستيا، وهو انحياز يبدو منطقيا، إذ يعتبر الأطراف الثلاثة تنظيم الإخوان تنظيما إرهابيا، كما أن حفتر مهم لمصر بسبب سيطرته على المنطقة الشرقية وتعاونه مع السلطات المصرية في وقف المجموعات الإرهابية التي تتسلل من ليبيا تجاه مصر عبر الحدود الطويلة للصحراء الغربية بين البلدين.
أما قطر وتركيا فانحيازهما واضح للإخوان والإسلاميين في ليبيا والمنطقة عموما، وقد دعمت قطر الإخوان وحلفاءهم في تحالف “فجر ليبيا” العسكري، كما دعمت حكومة الإنقاذ بقيادة الإخواني خليفة الغويل، ومازالت قطر تتمتع بعلاقات قوية مع ميليشيات مقربة من الإسلاميين مثل ميليشيات مصراتة، وقد أدت زيارة بعض قيادات قوات “البنيان المرصوص” وهي ميليشيات من مصراتة تابعة لحكومة الوفاق إلى قطر ولقائها بأميرها، إلى إثارة غضب رئيس حكومة الوفاق فائز السراج، الذي أكد عدم علم المجلس الرئاسي بالزيارة، مطالبا العسكريين بعدم زيارة دول خارجية دون تنسيق مع الحكومة.
لا تلتفت أوروبا ولا أمريكا وحتى دول الجوار مثل مصر وتونس والجزائر، إلى الأزمة الليبية بالجدية الكافية، باستثناء حين يشن تنظيم من ليبيا أو إرهابي مرتبط بتنظيم ليبي هجوما إرهابيا في الخارج، وحتى حين يحدث ذلك لا يأتي الاهتمام على صورة تدخل مخطط طويل الأمد هدفه وضع استراتيجية تحل المشكلة الأساسية وهي انقسام الدولة، بل عبر ضربات جوية ضد مجموعات إرهابية، وهي ضربات تكون مؤثرة أحيانا إذ تقضي على معسكرات تدريب أو معدات أو تقتل أفرادا مطلوبين، لكنها غير ذات جدوى على المدى البعيد.
خفوت الاهتمام الإقليمي والدولي بليبيا مؤشر على مستقبل الصراع في شمال وغرب إفريقيا، فالمنطقة ليست دولا كاملة الأهلية، بل ساحات للقصف ضد الإرهاب، وموارد رخيصة لتأمين الثروات والمصادر الطبيعية، ومادامت الميليشيات مهتمة بأمن أوروبا وتمنع وصول المهاجرين، ومادام النفط والغاز الليبيان يصدران بسلاسة، فلا أحد سيهتم بما يعانيه الليبيون، ولهذا تبدو جهود بعض الأطراف لاستعادة الدولة الليبية ومؤسساتها أقرب إلى الأمنيات الطيبة، لكونها بعيدة عن حسابات المصالح.