غضب جزائري من تأييد فرنسا “مغربية” الصحراء: الدوافع والخلفيات

د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات
ورقة سياسات.

•ملخص تنفيذي.

– تتجه فرنسا لدعم خطة المغرب لإقامة “حكم ذاتي” في الصحراء وسيادة المغرب الكاملة عليها.
– تلتحق فرنسا بمواقف دول غربية أخرى بهذا الاتجاه مثل الولايات المتحدة وألمانيا واسبانيا
– الجزائر تعبّر عن غضبها وتدين توجه فرنسا الجديد ما يهدد بانهيار العلاقات بين البلدين.
– بذلت باريس جهودا لتحسين علاقاتها مع الجزائر في السنوات الأخيرة لكن من دون تقدم لاسباب تعتبرها فرنسا جزائرية.
– تعوّل فرنسا على تطوير علاقاتها السياسية والاقتصادية مع المغرب حتى لو جاء على حساب تراجع علاقاتها مع الجرائر.

•تقديم:

على الرغم من خطوات تقارب تمّ تحقيقها في السنوات الأخيرة، عاد خطاب التوتّر بين فرنسا والجزائر بسبب خلاف البلدين بشأن موقفهما من نراع الصحراء الغربية. ففيما تدعم الجزائر جبهة البوليساريو المطالبة باستقلال الصحراء وإقامة دولة ذات سيادة، فإن فرنسا تستعد للالتحاق بمواقف دول غربية أخرى، مثل الولايات المتحدة وألمانيا واسبانيا، في الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء ودعم خطّتها لإقامة حكم ذاتي في هذه “الأقاليم الجنوبية المغربية” وفق التسمية المعتمدة في الرباط.

•الصحراء: خلاف المغرب والجزائر

تعد قضية الصحراء أحد أهم أسباب الخلاف بين المغرب والجزائر الذي وصل إلى حدّ قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وإقفال الحدود البريّة بينهما. وتجدّ دول العالم صعوبة في إيجاد توازن في علاقاتها مع المغرب والجزائر بسبب مطالبة الدولتين من دول العالم بموقف منحاز يتّسق مع رؤيتهما للحلّ الأمثل للأزمة في الصحراء. وكان العاهل المغربي الملك محمد السادس قد أوضح أن “ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم”، وفق خطاب ملكي ألقاه في أغسطس 2022، بما يفسّر المقياس الذي تعتمده الرباط في تقويم علاقات دول العالم مع المغرب.
ويعتبر المغرب مسألة الصحراء مسألة سيادية وطنية تُجمع عليها كافة التيارات السياسية في البلاد منذ تخلي اسبانيا عن الصحراء في 14 نوفمبر 1975. ويطلق المغرب على الصحراء التي كانت تحتلها إسبانيا اسم “الصحراء المغربية” كدليل على أنها “جزء لا يتجزأ من التراب الوطني”. وفيما اهتمت الأمم المتحدة بحلّ نزاع الصحراء وأنشأت بعثة خاصة لهذا الملف (MINURSO)، وفيما رفعت جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر لواء الاستقلال الكامل، تمسّك المغرب بخطّته لإقامة استفناء يقود إلى إقامة “حكم ذاتي” يكون جزءا من المملكة المغربية.
بالمقابل، فإن لا مطالب جزائرية في النزاع في الصحراء يخصّ الجزائر. ويقوم الموقف الجزائري على حيثيات أيديولوجية مدافعة عن “حرية الشعوب في تقرير مصيرها”. وتستند هذه القاعدة المبدئية على تاريخ قيام دولة الاستقلال في الجزائر عام 1962 إثر حرب التحرير التي خاضتها جبهة التحرير الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي (1954-1962). ومع ذلك فإن الخبراء في شؤون هذا النزاع يعيدون سبب الموقف الجزائري إلى توتّر علاقات النظامين السياسين التقليدي منذ نهاية حرب التحرير الجزائرية، بسبب تناقض في طبيعة النظامين الأيديولوجية واختلاف خياراتهما في السياسة الخارجية وموقعيهما في المشهد الدولي.

•تحوّلات فرنسا: المزاج الدولي

سعت باريس دائما، وبحكم ماضيها الاستعماري الخاص في المنطقة، إلى اتخاذ سياسات حذرة ومتحفّظة في علاقاتها مع دول شمال أفريقيا، لا سيما مع الجزائر والمغرب. غير أن تحوّلا طرأ على المزاج الدولي باتجاه تأييد المقاربة المغربية للحلّ، لا سيما بعد اعتراف الولايات المتحدة في ديسمبر 2020، في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بسيادة المغرب الكاملة على الصحراء. ومع ذلك بقيت باريس تحافظ على موقف ضبابي لا يبتعد عن الرباط ولا يسبب غضب الجزائر. إلا أن ما صدر عن الجزائر من موقف مستنكر لموقف فرنسا الجديد حيال مسألة الصحراء، كشف عن عزم باريس إنهاء تلك الرمادية والالتحاق بالتحوّل الدولي بشأن مسألة الصحراء.
وكان بيان لوزارة الخارجية الجزائرية، في 25 يوليو 2024، قد انتقد تأييد فرنسا خطة المغرب للإدارة الذاتية للصحراء الغربية. ووصف البيان الموقف الفرنسي بأنه “غير منتظر وغير مناسب وله نتائج عكسية”.
وحذرت الخارجية الجزائرية فرنسا من أن قرارها يتعارض مع “المصلحة العليا” للسلم والأمن والاستقرار في المنطقة. ووصفت الجزائر القرار الفرنسي بأنه “نتيجة حسابات سياسية مشبوهة وافتراضات غير أخلاقية وقراءات قانونية لا تستند إلى أي مرتكزات سليمة تدعمها أو تبررها”.
وعلى الرغم من أن باريس لم تصدّر رواية رسمية عن سياستها الجديدة في هذا الصدد، غير أن إبلاغ باريس للجزائر، من خلال القنوات الدبلوماسية، عن توجّهها المقبل، هدفه تحضير الجزائر لتحوّل فرنسي سيتمّ تطويره والإعلان عنها في خطوات لاحقة.

•دوافع باريس: فشل “خيار الجزائر”

تعتبر مصادر فرنسية أن قرار باريس اعتمد على سياق تاريخي من التجارب في علاقة باريس والجزائر منذ انسحاب فرنسا من الجزائر إثر التوقيع على اتفاقية ايفيان في 18 مارس 1962. وقد سعت كافة العهود الرئاسية منذ شارل ديغول إلى إيمانويل ماكرون إلى تطوير العلاقات الجزائرية الفرنسية ومحاولة تجاوز عقدة العلاقات الموجعة التي سبّبها الاحتلال الفرنسي للجزائر والذي دام 132 عاما.
وفيما قامت باريس بخطوات للاعتراف بمسؤولياتها التاريخية، وقام الرؤساء الفرنسيون بزيارات متعدّدة للجزائر، غير أن مسألة التطبيع شابها توتّر بسبب ملفات قديمة وأخرى راهنة تتعلق بالاقتصاد والهجرة والسياسة. وتعتبر تقديرات، منها فرنسية، أن مسألة العداء لفرنسا، هي عقيدة بحدّ ذاتها في الجزائر، لا سيما من قبل الجيش الجزائري، لتثبيت شرعية تاريخية لحضوره الدائم داخل المشهد الجزائري الراهن.
ولا يعتبر موقف فرنسا المستجد تحوّلا بل تعويما لموقف باريس المعتمد منذ سنوات. وتؤكد مصادر باريس أن فرنسا كانت دائماً تؤيد خطّة المغرب للحكم الذاتي للصحراء الغربية. غير أن جديد الموقف هو حديث باريس، كما شأن واشنطن وعواصم غربية أخرى، عن سيادة المغرب على الصحراء. وكانت فرنسا تلمّح سابقا إلى ترحيب بالخطة المغربية للحكم الذاتي تحت سيادة الأمم المتحدة، وما اختلف هو مسألة الاعتراف بالسيادة المغربية عليها. وتعتبر هذه المصادر أن تأييد باريس لخطّة المغرب يقوم على اعتبارها خطة ذات مصداقية ومفيدة لحل الصراع.

•دوافع غضب الجزائر

يضع مراقبون حدّة البيان الجزائري الغاضب إلى عدة عوامل:
– الأول، يتعلق بالانتخابات الرئاسية في الجزائرية التي يترشّح لها، من بين آخرين، الرئيس الحالي عبد المجيد تبون، ما يكشف حاجة انتخابية لاتخاذ موقف تصعيد ضد دولة الاستعمار السابقة وما تعنيه في الذاكرة الجماعية للجزائريين.
– الثاني، يتعلّق بتجديد خطاب هجومي ضد المغرب واستثمار الأمر في تصليب عصبية جزائرية ضد المغرب والتي يصار دوما إلى استدعائها مستدرجة ذاكرة “حرب الرمال” التي شنّها المغرب ضد الجزائر في اكتوبر 1963. ولطالما اتّهمت الرباط النظام الجزائري والسلطات العسكرية في النظام في التمسّك بهذه العصبية كأداة من أدوات الشرعية للنظام.
– الثالث، يتعلّق بالألعاب الأولمبية التي تنظمها فرنسا (26 يوليو-11 أغسطس 2024) بحيث تقصّد بيان الجزائر الحاد اللهجة إثارة أزمة بين البلدين في شأن له أبعاد تاريخية وظرفية غير آنية ممكن أن يحرج فرنسا في المشهد الدولي العام.
– الرابع، شعور الجزائر باستمرار تراجع موقفها الدبلوماسي الدولي، لا سيما لدى الدول الغربية، لصالح مقاربة الرباط لحلّ مسألة نزاع الصحراء، ما يطرح أسئلة داخلية حول نجاعة موقف الجزائر وضعف خطاب الدفاع عنه.

•فرنسا: البوصلة صوب المغرب

تعتبر مراجع سياسة فرنسية أن باريس حاولت شراء الوقت خلال العقود الأخيرة وتأجيل اتّخاذ موقف واضح من نزاع تعمل الأمم المتحدة على إيجاد حلول له. وتضيف أن باريس كانت تسعى إلى التعويل على تحوّلات في الجزائر تساهم في إحداث اختراق نوعي وتاريخي في علاقات البلدين.
وكان الرئيس ماكرون قد قام بزيارة إلى الجزائر في أغسطس 2022 قادته إلى العاصمة الجزائرية ومدينة وهران. وانتهت الزيارة بالتوقيع على “إعلان من أجل شراكة متجدّدة” وإنشاء “لجنة مؤرخين مشتركة” من أجل “النظر في كامل تلك الفترة التاريخية… منذ بداية الاستعمار إلى حرب التحرير، بدون محظورات”. وقد أُلحقت زيارة ماكرون بزيارة أخرى، في اكتوبر 2022، قام بها نصف وزراء الحكومة الفرنسية برئاسة اليزابيت بورن، لـ “فتح آفاق جديدة للعلاقات بين البلدين”.
وترى بعض المصادر المراقبة بأن فرنسا أنهت فترة التعويل على “خيار الجزائر” الذي لطالما كان حذّر منه سياسيون فرنسيون، منهم الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، لصالح محاولة توازن تأخذ بعين الاعتبار موقف المغرب وخيارها بشأن نزاع الصحراء.
وترجع هذه المصادر هذا التحوّل إلى اهتمام باريس بتطوير مصالح فرنسا السياسية والاقتصادية مع المغرب، خصوصا أن فرنسا لاحظت تراجع موقعها في المغرب مقابل حيوية تقدم موقّع بلدان اسبانيا وألمانيا ودول أخرى في العلاقة مع الرباط.
وكانت ظهرت أعراض التحوّل الفرنسي في زيارة قام بها وزير الخارجية ستيفان سيجورنيه إلى المغرب في فبراير 2024 أعلن فيها أنه “بإمكان المغرب أن يعول على الدعم الواضح والمستمر لفرنسا لخطته للحكم الذاتي”. وكان من المقرر أن يقوم رئيس الحكومة غبريال آتال بدوره بزيارة إلى الغرب في يوليو 2024 غير أن استقالة حكومته بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة منعت ذلك.
تعيد معطيات أخرى أسباب التحوّل الفرنسي أيضا إلى ضغوط من مجتمع الأعمال في فرنسا ورؤساء الشركات الكبرى. وقد سعت باريس إلى ترميم علاقاتها مع الرباط في هذا الاتجاه منذ زيارة وزير التجارة الفرنسي فرانك ريستير في أبريل الماضي للمغرب بهدف تحسين العلاقات الاقتصادية بين البلدين. وكان لافتا أن الوزير عبّر عن اهتمام فرنسا بالاستثمار إلى جانب الرباط في الصحراء.
غير أن هذا التطوّر الذي تقدم عليه فرنسا قد يفاقم من تباعد الجزائر والمغرب من جهة، ويدفع الجزائر نحو اصطفافات على المستوى الدولي تبعدها عن المعسكر الغربي الذي يقترب من موقف المغرب باتجاه الاقتراب أكثر من معسكر يجمع الصين وروسيا وإيران.

•خلاصة

**بعد الولايات المتحدة وألمانيا واسبانيا ودول أخرى، تتوجه فرنسا لتغيير موقفها باتجاه الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية ودعم خطة الرباط بإقامة حكم ذاتي هناك.
**تعبرّ الجزائر عن إدانة للتوجه الفرنسي وتعتبر التحوّل نتيجة حسابات مشبوهة. ويأتي بيان الإدانة الغاضب ضد “دولة الاستعمار” السابقة وضد “خيار المغرب” لأغراض قد تستثمر لصالح الانتخابات الرئاسية الجزائرية المقبلة.
**يورد الطرف الفرنسي كمّا من الحجج بشأن جهوده لتطوير علاقاته مع الجزائر من دون نتيجة في السنوات الأخيرة، ويعبّر عن تعويل على علاقات سياسية واقتصادية مع المغرب.
**قد يؤثِّر الموقف الفرنسي الجديد على تموضع الجزائر الدولي لجهة الاقتراب من روسيا والصين وإيران وأخذ مسافة من الدوائر الغربية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.