عشيّة ردّ إيران على اغتيال هنيّة: امتحان نفوذ الغرب مقابل روسيا والصين
د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات
ورقة سياسات.
•ملخص تنفيذي
– اغتيال هنيّة أظهر اختراقا أمنيا إسرائيليا في إيران وسبّب إحراجا كبيرا لطهران ما يستدعي ردّا تخطّط إيران أن يكون “مركّبا موجعا”.
– تتولى الولايات المتحدة وحلفاؤها السعي لمنع المنطقة من الذهاب إلى المواجهة الشاملة عن طريق الدبلوماسية لكن أيضا عن طريق توسيع الانتشار العسكري والوعد بحماية إسرائيل.
– تُقارب دول المنطقة الحدث بصفته صراعا ثنائيا بين إيران وإسرائيل وتكتفي بدعوة الأطراف بالتهدئة وتجنيب المنطقة مزيدا من الحروب.
– يثبت الحدث من جديد أن الأزمة الخطيرة تجري داخل منطقة نفوذ غربي فيما يظهر عجز الصين وروسيا عن لعب دور حيوي فاعل أو دور يعدّل من موازين القوى حيال إسرائيل.
• تقديم:
اتهمت إيران إسرائيل بالوقوف وراء عملية الاغتيال التي تعرّض لها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، اسماعيل هنيّة، في طهران، في 31 يوليو 2024. ولم تعترف إسرائيل رسميا بأنها اغتالت القيادي الحمساوي، غير أن تقارير صحفية إسرائيلية ودولية رجّحت ذلك. وفيما أصدرت طهران بيانا تحدث عن تعرض الغرفة التي كان يقيم فيها هنّية لهجوم صاروخي، فإن تقارير صحفية متفرقة، منها لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية، قالت إن عملية الاغتيال نفذت من خلال قنبلة زرعت في غرفة الضحية. وتتحرك الولايات المتحدة وحلفاؤها، بوسائل مختلفة، بما في ذلك توسيع الانتشار العسكري الأميركي في المنطقة، لضبط التصعيد وجعل الردّ الإيراني المحتمل داخل إطار الضبط والسيطرة. بالمقابل فإن دور دول كبرى، مثل الصين وروسيا، يبدو هامشيا مواكبا للجهود الغربية لإدارة الأزمة ومقاربة شططها المحتمل
• الردّ الإيراني: حدود الانتقام
أيا كانت الوسيلة التي قُتل بها هنيّة، وعلى الرغم من خطورة الخرق الأمني المحتمل داخل أجهزة الأمن المولج بها حماية الشخصيات الكبرى والتابعة للحرس الثوري الإيراني، وعلى الرغم من عدم اعتراف إسرائيل بعملية الاغتيال، إلا أن منابر إيران الرسمية، ومنها ما نقل عن مرشد الجمهورية الإسلامية، علي خامنئي، توعدت بردّ مباشر ضد إسرائيل انتقاما لمقتل هنيّة، أحد قادة “محور المقاومة” الذي تدعمه إيران، وانتقاما لانتهاك إسرائيل لسيادة الأراضي الإيرانية.
تؤكد المصادر الرسمية والإعلامية الإيرانية أن طهران لن تعود لارتكاب “خطأ” الهجوم بالصواريخ الموجهة والباليستية والمسيّرات الذي نفّذته في 13 أبريل 2024 ردا على قيام إسرائيل بقصف القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من نفس الشهر.
وتصف المصادر ذلك الحدث بـ “الخطأ” بسبب عدم تسبّبه بأضرار موجعة لإسرائيل، ما يستدعي هذه المرة استخدام أسلحة وأساليب ومناورات أشد فتكاً. ورغم ما يلفّ طبيعة الردّ المحتمل من غموض، إلا أن مصادر أميركية تؤكد حتمية حدوثه، فيما ترجّح مصادر قريبة من “محور المقاومة” أن يكون ردّا “مركّبا” تشارك فيه بشكل متزامن فصائل موالية لإيران.
ورغم تأكيد المصادر في واشنطن، بما في ذلك وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، أن الردّ الإيراني لن يؤدي إلى اندلاع حرب شاملة، إلا أن النداءات التي أطلقتها العواصم الغربية لتحذير مواطنيها من زيارة الدول المعنيّة بالردّ، لا سيما إيران ولبنان، وإيقاف العديد من شركات الطيران الدولية رحلاتها إلى طهران وبيروت وتل أبيب، يعبّر عن تخوّف من انفلات الأمور وعدم ثقة بقدرة المجتمع الدولي على ضبط إيقاع الردّ الإيراني واحتمالات الردّ الإسرائيلي المضاد بعد ذلك.
• مقاربة الغرب: الوساطة والتعهد بحماية إسرائيل
تعمل واشنطن وحلفاؤها، لا سيما لندن باريس وبرلين، على ممارسة ضغوط على كافة أطراف الصراع لوضع سقف لردود الفعل التي أعقبت اغتيال هنيّة في طهران. وكان سُجل اتصال بين الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون بنظيره الإيراني، مسعود، بزشكيان في 29 يوليو 2024، قبل عملية الاغتيال في طهران، لمناقشة قضايا عديدة، منها احتمالات شنّ إسرائيل هجوم على لبنان. ويعتبّر الاتصال تتويجا لاتصالات مستمرة بين باريس وطهران تواصلت بعد حدث الاغتيال الدراماتيكي.
وتحدثت أنباء أخرى عن استمرار التواصل، بعد عملية الاغتيال، بين واشنطن وطهران عن طريق قناة مسقط في سلطنة عمان للتوصل إلى صيّغ لضبط الوضع في المنطقة. وسُجل أيضا توجه وزيري الخارجية والدفاع البريطانيين إلى بيروت في الأول من أغسطس 2024، بما اعتبر جهدا إضافيا بريطانيا رديفا للجهد الأميركي لضبط التوتّر على الحدود اللبنانية الفرنسية وعدم انفجاره، لا سيما بعد اعتراف إسرائيل بأنها قامت، في 30 يوليو 2024، باغتيال القيادي في حزب الله، فؤاد شكر، من خلال قصف المبنى الذي كان يتواجد به حينها في الضاحية الجنوبية لبيروت.
ويظهر التدهور الأمني الخطير منذ اغتيال قيادي حزب الله وحركة حماس مدى تحول منطقة الشرق الأوسط إلى ميدان تناقض ومواجهة بين إسرائيل وإيران. وتُقارب كافة دول المنطقة الصراع وفق هذه الحقيقة الثنائية، بحيث تجنّب نفسها التورّط في أي موقف خارج السعيّ إلى التهدئة والدعوة إلى تجنيب المنطقة مزيدا من الحروب التي قد تخرج عن السيطرة.
ويظهر الحدث وتداعياته وردود الفعل الدولية بشأنه أن الصراع يجري داخل منطقة نفوذ غربي بقيادة الولايات المتحدة بحيث يغيب أي تأثير مباشر للدول كبرى أساسية مثل روسيا والصين.
وفيما تنشط الاتصالات والوساطات التي تقوم بها عواصم غربية لمنع تداعيات حدث اغتيال هنيّة وردّ الفعل العسكري المرتقب من قبل إيران والخروج عن السيطرة، غير أن مراقبين يعتبرون أن إعلان الولايات المتحدة إرسال مزيد من أسراب المقاتلات إلى الشرق الأوسط وتوسيع انتشار سفنها العسكرية في البحر المتوسط ومضيق هرمز، هو بمثابة تدبير يؤكد قرارا أميركيا-غربيا لحماية إسرائيل من الردّ الإيراني على منوال ما فعلته القوات الغربية في المنطقة في 13 أبريل 2024، لكن هدفه أيضا ضبط ردّ إيران وفصائلها والتلويح بتدخل عسكري أميركي مضاد وفق تصريح للمتحدثة باسم البنتاغون، في 2 أغسطس 2024، جاء فيه أن “وزارة الدفاع تواصل اتخاذ خطوات للتخفيف من احتمال التصعيد الإقليمي من قبل إيران أو شركائها ووكلائها”.
• الصين وروسيا: شلل ومراقبة للتصعيد
نقلت وكالات الأنباء في 31 يوليو 2024، بعد ساعات على اغتيال هنيّة، تصريحا أدلى به ميخائيل بوغدانوف، المبعوث الخاص للرئيس الروسي للشرق الأوسط ودول إفريقيا، نائب وزير الخارجية، لوكالة “RİA” الروسية، وصف فيه اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في طهران، بأنه غير مقبول وسوف يؤدي إلى تصاعد التوتر. وأكد بوغدانوف أن الوضع المتعلق باغتيال هنية “سيئ للغاية”، مضيفا: “هذا اغتيال سياسي غير مقبول على الإطلاق “.
وعلى الرغم مما تملكه روسيا من نفوذ عسكري وسياسي مباشر في سوريا، ومن علاقات مع الأطراف الفلسطينية، بما في ذلك حركة حماس، ومن علاقات متقدمة مع دول المنطقة، لا سيما إيران ومصر ودول الخليج، غير أن موسكو بدت غير قادرة أو مؤهّلة على لعب دور فعّال لنزع فتيل التفجّر في المنطقة.
وفيما عدا بيانات التنديد بعمليات اغتيال هنّية، فإن روسيا بدت قلقة من سقوط المنطقة في الفوضى، تراقب عن بعد جهود العواصم الغربية لـ “هندسة” تبادل إيران وإسرائيل الرد والردّ المضاد على عملية اغتيال هنيّة. بالمقابل تحدثت بعض المصادر المعنيّة بالشأن السوري عن أن موسكو تقف بقوة وراء الموقف الذي تتّخذه دمشق بالنأي بنفسها عن الأحداث والسيطرة على الحدود الجنوبية ومنع أي ردّ ذي طبيعة إيرانية قد ينطلق ضد إسرائيل من الأراضي السورية.
وكما حال روسيا من هذه الأزمة، ينسحب هذا “الشلل” النسبي على موقف دولة كبرى مثل الصين في مواجهة أزمة كبرى جديدة في الشرق الأوسط. فقد أدانت بكين اغتيال هنية، محذّرة من تداعياته الإقليمية. جاء هذا الموقف على لسان متحدث وزارة الخارجية لين جيان، في 31 يوليو 2024. وقال جيان: “نعارض بشدة وندين جميع أنواع الاغتيالات وأعمال العنف، ونشعر بقلق عميق من أن هذا الحادث قد يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار في الوضع الإقليمي”. وشدد على ضرورة تحقيق وقف إطلاق نار شامل ودائم بأقرب وقت في قطاع غزة.
وتُعتبر الصين حليفا استراتيجيا لطهران وترتبط معها باتفاقات اقتصادية وأمنية لمدة 25 عاما تمّ إبرامها في 27 مارس 2021. كما أن بكين ترتبط بعلاقات مع إسرائيل في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والأمن والبنى التحتية وباتت ثاني أكبر شريك تجاري لإسرائيل بعد الولايات المتحدة. ووصلت العلاقات إلى حدود متقدمة أقلقت الإدارة الأميركية في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب واضطرتها إلى التدخل لدى إسرائيل لضبط هذه العلاقة تحت سقوف مقبولة.
وتقف الصين وراء رعاية “اتفاق بكين” الذي أُبرم بين السعودية وإيران في 10 مارس 2023. كما أن الصين، وبحكم علاقاتها التاريخية مع “القضية الفلسطينية”، هي راعية “إعلان بكين” الذي صدر عن حركتي حماس وفتح و12 فصيلا فلسطينيا في 23 يوليو 2024، والذي يؤسّس لتشكيل حكومة فلسطينية موحّدة لإدارة الشأن الفلسطيني وإدارة قطاع غزّة بعد انتهاء الحرب. ومع ذلك تبدو الصين عاجزة عن التوسّط بين أطراف الصراع لخفض سقوف التصعيد تاركة للولايات المتحدة وحلفائها إدارة هذه الأزمة والتصدي لها واجتراح مخارجها.
• خلاصة واستنتاجات:
**اغتيال هنيّة في طهران يمثّل واجهة جديدة لخروج الحرب في غزّة من حدود القطاع لتطال، إضافة إلى اليمن ولبنان والعراق وسوريا، إيران وعاصمتها طهران، مع ما يستدرجه ذلك من صدام إيراني إسرائيلي مباشر جديد قد تشارك به فصائل موالية لإيران في عدد من دول المنطقة.
**يمثل الحدث تأكيدا لثنائية الصراع بين إسرائيل وإيران، ما يعني أيضا تقدُّم مكانة طهران في أي مداولات تجري لتقدم صفقة إنهاء الحرب في غزّة وتسويات “اليوم التالي” للحرب في القطاع.
**تؤكد إدارة الأزمة المساحة الرحبة لحركة الولايات المتحدة ونفوذها في الشرق الأوسط. كما تكشف محدودية هامش المناورة لروسيا والصين، على رغم الاختراقات التي حققاها في المنطقة في السنوات الأخيرة، وعلى الرغم مما يصدر من موسكو خصوصا من تبشير بعالم متعدّد الأقطاب.
**جدير أن تنتبه دول المنطقة إلى أن احتدام الصراع بين إيران وإسرائيل يفاقم من نفوذ الطرفين في الشرق الأوسط ويدعم احتمال اعتراف واشنطن بشراكة أوسع لإيران في قضايا المنطقة (وفق “عقيدة أوباما” لعام 2016) على حساب مصالح بقية دولها.