ضربات أميركية ضد الحوثيين في اليمن: استراتيجية ترامب ورسائله
ورقة سياسات
د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات
ملخص تنفيذي:
-العملية العسكرية مفاجئة، وبدون مقدمات سياسية تحضيرية، ومخالفة لوعد ترامب بعدم الانخراط في حروب جديدة، ومتناقضة مع سعيه لوقف الحرب في أوكرانيا.
-للعملية نمط يختلف عن ذلك الذي اعتمد في عهد بايدن، لا سيما لجهة استهدافها قيادات الجماعة. لكنها رغم نوعية الأهداف تبقى محدودة لا تغير موازين القوى في اليمن.
-توقيت العملية يتزامن مع إعلان الخارجية الأميركية اعتماد أمر ترامب التنفيذي بتصنيف جماعة الحوثي منظمة إرهابية، وبعد أيام من تهديد زعيم الجماعة باستئناف الهجمات في البحر الأحمر.
-العملية تستهدف فصيلا متحالفا مع إيران، وتبعث رسالة تهديد مبطنة إلى طهران بعد أيام من تسلّمها رسالة ترامب. واللجوء إلى الخيار العسكري في اليمن يلوّح بإمكانية استخدام نفس الخيار ضد إيران.
تقديم:
تكشف الضربات التي بدأتها الولايات المتحدة والتي قد تستغرق أسابيع ضد جماعة الحوثي (المعروفة باسم “أنصار الله”) في اليمن، عن توجّه مفاجئ لإدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، للتعامل بقوة مع الحالة الحوثية التي تتهمها واشنطن بتهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب وممرات المنطقة. ويُعد الهجوم استكمالا، وليس تناقضا، للسياسة التي انتهجتها الإدارة السابقة التي لطالما يحمّلها الرئيس الحالي مسؤولية توريط الولايات المتحدة في حروب الآخرين. فما هي القراءات الممكنة لهذا الحدث؟
عناوين ترامب للعملية:
أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في 15 مارس 2025 أنه أمر الجيش الأميركي بشنّ عملية عسكرية حاسمة وقوية ضد الحوثيين في اليمن، مشيراً إلى أن الحوثيين “يمارسون القرصنة والعنف والإرهاب ضد السفن والطائرات”. وأضاف أنه “لن تتمكن أي قوة إرهابية من منع السفن الأميركية من الإبحار بحرية في الممرات المائية بجميع أنحاء العالم”.
وأشار إلى أن الهجوم يشمل قادة الحوثيين وقواعدهم ودفاعاتهم الصاروخية. وتوجه إلى الجماعة بالقول إنه “يجب أن تتوقف هجماتكم بدءاً من اليوم” وأضاف: “لن نتسامح مع الهجمات على السفن الأميركية، وسنستخدم القوة المميتة حتى تحقيق هدفنا”، مشيراً إلى أنهم إن لم يتوقفوا عن شنّ الهجمات، “ستشهدون جحيماً لم تروا مثله من قبل”.
ويعتبر هذا الإعلان من خارج سياق ما كان وعد ترامب به أثناء حملته الانتخابية بعدم دخول بلاده في حروب جديدة، وسحب أي انخراط لها في الحروب الحالية. وعلى الرغم من أن الهجوم جاء مفاجئا لم تسبقه تهديدات أميركية مبرمجة ومكثّفة لتحضير الرأي العام الأميركي والدولي، إلا أن توقيت بدء الهجمات ليس بعيدا عن استحقاقات ما ترسمه واشنطن للشرق الأوسط، لا سيما مستقبل مقاربتها لملف إيران، بما يكشف عن تحوّل استراتيجي في سياسة الإدارة الجديدة قد تتجاوز أهدافه مسألة أمن الممرات المائية.
“إرهابيون” من جديد:
كان الرئيس الأمريكي أصدر في 23 يناير 2025، أي في اليوم التالي لتنصيبه رئيسا لبلاده، أمرا تنفيذيا يعيد تصنيف الحوثيين “منظمة إرهابية أجنبية”. وأعاد هذا القرار العمل بتصنيف كانت إدارته قد فرضته سابقا قبيل انتهاء ولايته الأولى. وكان الرئيس السابق جو بايدن قد ألغى هذا التصنيف بعد توليه منصبه في عام 2021. وبررت الإدارة الديمقراطية حينها قرارها بأن أتى استجابة لمخاوف أثارتها منظمات إغاثية بشأن تأثير القرار على عملها في اليمن. وأشارت تلك المنظمات إلى أن تصنيف الحوثيين سيعيق تقديم المساعدات الإنسانية في مناطق واسعة من البلاد، بما فيها العاصمة صنعاء، التي يسيطر عليها الحوثيون.
وقد لفت المراقبين إعلانٌ جديد من وزارة الخارجية الأميركية، في 4 مارس 2025، بتصنيف جماعة الحوثي، “منظمة إرهابية أجنبية”، في خطوة تأتي تنفيذا للأمر الذي وعد به الرئيس الأميركي ثم وقعه قبل ذلك. وجاء في بيان الخارجية أن “أنشطة الحوثيين تشكل تهديدا لأمن المدنيين والموظفين الأميركيين في الشرق الأوسط، كما تعرض سلامة أقرب شركائنا الإقليميين واستقرار التجارة البحرية العالمية للخطر”. وقد أوحى بيان الخارجية الأميركية بعد 6 أسابيع على الأمر التنفيذي لترامب بالتحضير لإطار سياسي-قانوني يوفّر شرعية للهجمات الأميركية لاحقاً.
وكان زعيم جماعة الحوثي، عبد الملك الحوثي قد هدد، في 8 مارس 2025، باستئناف العمليات البحرية ضد إسرائيل، ما لم تتراجع عن قرارها بمنع دخول المساعدات إلى قطاع غزة خلال 4 أيام. وأوضح الحوثي في بيانه أنه حال استمرار إسرائيل بعد المهلة في منع دخول المساعدات الإنسانية والإغلاق التام للمعابر، “فإننا سنعود لاستئناف عملياتنا البحرية ضد العدو الإسرائيلي”، مضيفاً “نقابل الحصار بالحصار”. وكانت الجماعة أوقفت هجماتها، في يناير 2025، في أعقاب التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار بين حركة حماس وإسرائيل. غير أن تهديدات جماعة الحوثي، التي غالبا ما تُتهم بأنها تأتي تنفيذا لتوجيهات وسياقات إيرانية، قد تكون قد وفّرت بدورها المسوغ والمبرر لشنّ واشنطن هجماتها.
حدود الضربات الأميركية:
أعلنت القيادة المركزية الأمريكية “سنتكوم”، مساء 15 مارس 2025، أنها شنّت سلسلة عمليات شملت ضربات دقيقة ضد أهداف للحوثيين في اليمن. وذكرت في بيان أنها بدأت “سلسلة من العمليات التي شملت ضربات دقيقة ضد أهداف الحوثيين المدعومين من إيران في مختلف أنحاء اليمن”. وأرجعت الضربات إلى ما اعتبرته “الدفاع عن المصالح الأمريكية، وردع الأعداء، واستعادة حرية الملاحة” البحرية.
وفيما تتطوّر التقارير بشأن خسائر الحوثيين جراء الضربات الأميركية، غير أن ما أعلنته منابر جماعة الحوثي تحدث عن سقوط عشرات القتلى (31 قتيلا حتى صباح اليوم التالي لشنّ الهجمات). وكشفت هذه المنابر أن الضحايا سقطوا جراء هجمات طالت “مناطق مدنية وسكنية في صنعاء ومحافظة صعدة والبيضاء ورداع”. وقد أشارت مصادر يمنية مراقبة إلى أن الهجمات شملت أيضا ذمار وحجة ومديرية عنس. وأضافت المصادر أن الضربات كانت أقوى وأوسع من تلك التي كانت تّشنّ في عهد الرئيس بايدن، وخصوصا أنها استهدفت مراكز قيادية سياسية للجماعة في منطقة “الجراف” في صنعاء، والتي جعلتها الجماعة منطقة لقياداتها منذ ما قبل سقوط العاصمة عام 2014. لكن المصادر أشارت مع ذلك إلى أن الضربات تبقى محدودة لا تهدد القدرات العسكرية لجماعة الحوثي، لكنها قد تتطوّر احتمالا بعد ذلك.
وقد تميّزت العمليات العسكرية بأنها أميركية لم تشارك بها بريطانيا كما في السابق (على الرغم من أن بيانات الحوثي تحدثت عن “عدوان أميركي-بريطاني). وهذا يعني أن الضربات لا تندرج ضمن عمليات تحالف “حارس الازدهار” لحماية الملاحة الدولية، بل استجابة لاستراتيجية أميركية لها حسابات وأجندات أميركية. ورغم إعلان إسرائيل استعدادها للمشاركة بالعمليات، فإنه من المستبعد أن تسمح إدارة ترامب، في الوقت الراهن، بالمشاركة الإسرائيلية بهذه الضربات. وكانت مصادر أميركية رسمية وشبه رسمية إضافة إلى تحليلات عسكرية قد وضعت ملاحظات بشأن العملية من أهمها النقاط التالية:
1-استهداف قلب القيادة الحوثية من خلال توجيه أولى الضربات إلى مركز القيادة في صنعاء قبل شنّ ضربات على بقية الأهداف العسكرية.
2-استخدام صواريخ باليستية وصواريخ توماهوك إلى جانب المقاتلات الأميركية كما اعتماد الكثافة النيرانية، وهي مؤشرات تختلف عن تلك في عهد بايدن، مع توقّع أن تستمر الضربات الأميركية ضد الحوثيين لأيام أو أسابيع.
3-عدم وجود أي قرار أو خطط بأن تغزو الولايات المتحدة اليمن برياً، أو إرسال قوات على الأرض، والاكتفاء بشن سلسلة من الهجمات على أهداف استراتيجية.
4-توقّع اتخاذ مزيد من الإجراءات ضد الحوثيين خلال الأسابيع القليلة المقبلة، لكن الأمر يتوقف على تقييم الأضرار الناجمة عن سلسلة الضربات، كما يتوقف على الردّ الحوثي وحجم وإيقاع استمراره.
5-التخطيط للضربات ضد الحوثيين استغرق وقتاً طويلاً، نظراً للحاجة إلى جمع المعلومات اللازمة عن الأهداف.
6-تستهدف العملية رادارات ودفاعات جوية وأنظمة صواريخ وطائرات مسيّرة، في محاولة لفتح ممرات الشحن الدولية بالبحر الأحمر.
7-الكشف عن أن ترامب “لم يوافق بعد” على استراتيجية شن حملة عسكرية مكثفة بغية تجريد الحوثيين من سيطرتهم على مناطق بشمال اليمن.
رسالة إلى إيران:
يجمع المراقبون على أنه لا يمكن فصل قرار توجيه ضربات ضد جماعة الحوثي في اليمن عن سياق الاستراتيجية التي ستنتهجها إدارة ترامب في التعامل مع الملف الإيراني. ويرى خبراء أن ضرب جماعة الحوثي، كذراع مفترض من أذرع إيران في المنطقة (على الرغم من تأكيد طهران استقلالية قرار الحوثيين)، لا يبتعد عن مسار بدأ منذ اندلاع الحرب في غزّة في تكثيف الضربات الإسرائيلية، بدعم أميركي كامل، ضد أذرع إيران في لبنان وسوريا والعراق، كما ضد الداخل الإيراني أيضا. ويرى المراقبون أنه في ظل ضعف حزب الله في لبنان، وانكفاء الفصائل الولائية في العراق، وسقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، فإن جماعة الحوثي تبقى السند الخارجي الأساسي لإيران في المنطقة، ويعني ذلك أن النيل من قوة الحوثيين في اليمن، ينال بشكل غير مباشر من موازين القوى الإيرانية وأوراقها على طاولة أية تسوية مقبلة.
وقد نقلت الصحافة الأميركية عن مسؤولين أميركيين أن الضربات الجوية ضد الحوثيين والتي قد تستمر لعدة أيام أو أسابيع تهدف أيضاً إلى إرسال تحذير إلى إيران التي تدعم الحوثيين. وذكّر مراقبون في واشنطن بأن الهجمات الأميركية جاءت بعد أيام من تسليم المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، أنور قرقاش، في 12 مارس 2025، رسالة من الرئيس الأميركي إلى المرشد الإيراني، علي خامنئي، تتعلق باستئناف المفاوضات بشأن البرنامج النووي الإيراني.
ولم تخل تصريحات ترامب بشأن العملية العسكرية في اليمن من رسائل واضحة، فقال إنه إذا هددت إيران الولايات المتحدة، “فإن أميركا ستحملكم المسؤولية الكاملة، ولن نكون لطفاء في هذا الشأن”. واستدعى هذا الموقف ردود فعل في طهران ما يؤشّر إلى اندلاع سجال بين البلدين.
وقد ردّ وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، في 16 مارس 2025، بالقول إن الولايات المتحدة “ليس لها الحق في إملاء” سياسة إيران الخارجية، بعدما دعا الرئيس الأميركي دونالد ترامب طهران إلى وقف دعم الحوثيين في اليمن “فورا”. وأوضح عراقجي أن “الحكومة الأميركية ليست لديها سلطة ولا حق في إملاء سياسة إيران الخارجية”، داعياً إلى “وقف قتل الشعب اليمني”.
كما نقلت منافذ إعلامية إيرانية عن حسين سلامي، قائد “الحرس الثوري” الإيراني، إن أي تهديد يأخذ طابعاً عملياً سيُقابَل برد مُدمِّر. وأكد سلامي أن جماعة “أنصار الله، بوصفها ممثلةً لليمنيين تتخذ قراراتها الاستراتيجية والعملياتية بنفسها”. غير ان مصادر يمنية شكّكت باستقلالية قرار الحوثيين في ظل وجود عبد الرضى شهلائي، وهو ضايط كبير في الحرس الثوري عينته طهران سفيرا لها لدى جماعة الحوثي.
وتأتي الضربات التي تستهدف أحد “أذرع” إيران في المنطقة بعد أيام من كشف وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن إدارة ترامب لن تكتفي بالتفاوض بشأن البرنامج النووي فقط، بل فرض شروط وقف دعم إيران لبعض الجماعات في المنطقة، ما قد يؤشر بأن إدارة ترامب تريد إخراج “الأذرع”، بما فيها الذراع اليمني، من أية مفاوضات.
خلاصة واستنتاجات:
**ثمة تقدير بأن الهجمات الأميركية ضد الحوثيين في اليمن هدفها إبراز القوة والحسم لدى إدارة ترامب بشكل يختلف عن نهج إدارة بايدن، وقد تكون الأهداف متّسقة مع شعار ترامب “السلام من خلال القوة”.
**رغم اتّساع مساحة الهجمات واستهدافها قيادات الجماعة، إلا أنها تبقى محدودة لا تشكّل، حتى الآن، تهديدا وجوديا للجماعة، بل ضغوطا لدفعها إلى تغيير سلوكها.
**تتّسق الهجمات مع أمر تنفيذي أصدره ترامب، غداة تنصيبه في البيت الأبيض، لإعادة تصنيف جماعة الحوثي منظمة إرهابية، ومع إعلان وزارة الخارجية قبل أيام من الضربات الأميركية عن اعتماد أمر الرئيس وتنفيذه.
لم تشارك بريطانيا بالعمليات كما فعلت في عهد بايدن، ويستبعد، حتى الآن، أن تسمح واشنطن بمشاركة إسرائيل، ما يعني أن العمليات أميركية لحسابات وأجندات خاصة بإدارة ترامب.
**لا تُظهر الهجمات أي خطة أميركية لمباشرة حملة منسّقة مع الحكومة اليمنية أو الحلفاء الإقليميين تستهدف تغيير موازين القوى في اليمن من دون استبعاد هذا الاحتمال.
**تستهدف الهجمات أحد الفصائل المتحالفة مع إيران في المنطقة، وهو الفصيل الأهم حاليا بعد ضعف حزب الله في لبنان وانكفاء الفصائل الولائية في العراق وسقوط نظام بشّار الأسد في سوريا.
**توقيت الهجمات الأميركية تأتي بعد أيام على رسالة وجهها الرئيس الأميركي إلى المرشد الإيراني بشأن استئناف المفاوضات بين البلدين، كما يشعل سجالا بين طهران وواشنطن بشأن الموقف في اليمن.
**يأتي استخدام الخيار العسكري ضد جماعة الحوثي مخالفا لوعود ترامب بعدم الانخراط في حروب جديدة ومتناقضا مع سعيّ ترامب لوقف حرب أوكرانيا، ما يلوّح إلى إمكانية اللجوء إلى الخيار العسكري الذي يهدد به ترامب إيران إذا لم تقبل بالتسوية عبر المفاوضات.