شعبوية اليسار المصري: بين الجمود العقائدي والتخلف عن استيعاب تحولات الواقع
على الرغم من التاريخ الطويل للفكر اليساري في مصر والذي كان ذروته خمسينيات وستينيات القرن الماضي، يجد اليسار نفسه بكل تعبيراته السياسية وتياراته بعيدًا عن حواضنه الشعبية الطبيعية، ويتلاشى تأثيره في الحياة السياسية والشأن العام أمام تقدم حركات الإسلام السياسي المختلفة، وظواهر حزبية طارئة تحت عناوين ليبرالية او وطنية تقليدية.
يتزامن هذا التراجع مع تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة شكلت فرصة تاريخية لليسار وبرامجه وأفكاره التي نادى بها منذ نشأته، وعلى رأسها غياب العدالة الاجتماعية، وتغول الراسمالية الطفيلية، واختفاء الطبقة الوسطى، ولكن لم تستطع أى من الحركات اليسارية جذب الفئات المهمشة والمفقرة والمتساقطة من السلم الاجتماعي، وتصف الكتابات الناقدة هده الحركات بانها فقدت قدراتها على التواصل والتشبيك مع قاعدتها الاجتماعية الموضوعية. وتعيد اسباب هذا الفشل في تحولها إلى جماعات شديدة الانغلاق، غير قادرة على التواصل مع جماهيرها ولا قواعدها الحزبية، فشهدت معظم الحركات المسماة يسارية سلسلة من الانشقاقات التي حملت معها ذات الارث الفكري والجمود العقائدي وعدم القدرة على بناء التحالفات.
- الغيتو السياسي ومأزق التيار اليساري المصري:
كانت تجربة اليسار المصري فى العهد الناصري هى التجربة الأكثر ثراءً في تمثل الشعبوية فى جوهرها، ليست لان ايدلوجية السلطة السياسية كانت تميل في ظاهرها إلى الاشتراكية، ولكن بسبب ديناميكيات العلاقة بين النظام السياسي وبين التيارات السياسية اليسارية من جهة، ومع الشعب من جهة ثانية، القائم على الحكم باسم الشعب.
تميز خطاب النظام السياسي الناصري بإنه المتحدث الحصري باسم الشعب، وأنه المعبر الحقيقي عن مصالحه، فالحكم ما هو الا تلبية لنداء الجماهير الغفيرة التي طالبته بإنقاذهم، خطاب في ظاهره اشتراكي ولكن في مضمونه العميق كان تمثلا لراسمالية الدولة فى شكلها الشعبوي الجديد. فقد سعى النظام لمغازلة أحلام المواطنين الفقراء في غالبيتهم وأوهام تحولهم في السلم الاجتماعي . ولكن الأمر لم يستمر طويلاً حتى أدرك الناس أن وعود الصعود الاجتماعي ما هى إلا أوهام روجت لها السلطة الحاكمة بكريزما قائدها الثورية وخطابها الشعبوي المحبب لقلوب الجماهير، بل تكونت طبقة برجوازية طفيلية جديدة من العسكريين والمدنيين المتحافين معهم في علاقة تخادم في المصالح التجارية والسياسية، وهي الطبقة التي تحكمت بتروس الدولة بأكملها، في محاولة تحقيق التطور والتراكم الرأسمالي الذي اتخذ شكلاً قسريًا على عكس التراكم الرأسمالي فى الدول الرأسمالية الكبري، وهي ذات الطبقة التي انقلبت على إرث الحقبة الناصرية في مرحلة الإنفتاح الساداتي لتستكمل مشروعها في النهب الرسمي والمشرعن للدولة ومؤسساتها وشركاتها. ولأن هذه الطبقات تسمى تجاوزا بالراسمالية الا انها لم تراكم ثرواتها من صناعة حقيقية ولا بالتزام واع بالمشاركة في التنمية والتقدم الاجتماعي والثقافي والبحث العلمي أو بالمساهمة في كل مدخلات العمارة الانسانية ، فالتراكم الراسمالي لثرواتها جاء من خلال أنشطة استهلاكية غير منتجة او باستيلائها على شركات القطاع العام. هنا يتوقف الباحث عند اشكاليات تلك الفترة التي تلقي باثارها الثقيلة حتى يومنا هذا .
يمكننا القول أن الإشكاليات متداخلة بين الإيدلوجية الطوباوية والتطبيق المأزوم، لكنها التعبير النموذجي عن الشعبوية التي بتنا نعرفها اليوم، فالأمر متعلق باندماج الجماهيري والسلطوي مع ترسانة الوهم وحلم الخلاص الجماعي الذي ينطوي بداخل الأيدلوجية والذي يسعى إليه المنتمون للنظام وبأفكار الحرية والعدالة والاشتراكية. حينها يحدث وفاق عام واندماج مع هذا الحلم الطوباوي من أجل تحقيق الكمال، وفى لحظة إنتشاء ثورية يتنازل الفرد عن فرديته من أجل الجماعة، ولا يري العالم الا من خلال هذه العدسة الإيدلوجية . وكما هو الحال مع الشعبوية اليمينية واليسارية المعاصرة، يذوي ويتلاشى التسامح مع أى نقيض لهذه الأفكار، ولا يتم التعامل مع الوجود الإنساني بقدر من المرونة بإعتباره المجال الحيوي للتناقضات، بل كتلة صماء.
وفى هذا السياق العالمي والإيدلوجي، أصبح النظام الناصري يمثل طموحات للكتلة البشرية لا مصالح بشرية ، فقام بتشجيع الإنتاج لا المنتجين، و الصناعة لا الصناع، و دعم التحرر من الاستعمار لا قوى وروافع التحرر الوطني، و شجع ما أسماه الاشتراكية، لا الاشتراكيين. والديمقراطية ولكن ليس الديمقراطيين. ومن أجل تحقيق الحلم الطوباوي تعامل مع المواطنين بنفس أسلوب الحكم السلطوي الذي شهدته الدولة الشمولية على مدار التاريخ، الحكومة هى من تفهم فقط، والمواطنين عليهم الإنصياع، فإحتكر النظام إعادة تشكيل البنية الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والتخطيط العام للدولة. وقام بتأميم المجال العام السياسي، وأدخل اليساريين والمثقفين المعتقلات واعتمد على سياسة الحزب الواحد، الاتحاد الاشتراكي، الذي ضم كل المستفيدين من هذه الحقبة وأهمهم البرجوازية الطفيلية الجديدة التي عاشت على ممتلكات الاقطاعيين فى عهد ما قبل يوليو 1952.
أما على مستوي المثقفين اليساريين، فقد حبس اليساريين أنفسهم فى غيتو الطلعية المثقفة للطبقات العاملة المصرية، وانفصلوا عن الواقع تمامًا، حتى أصبحوا على هامش الحياة الحقيقية، واتسمت الحركة اليسارية بجميع تعبيراتها بالجمود العقائدى والسياسي، وانغمس التيار الماركسي تحديدا في النصوص الكلاسيكية دون محاولة للنقد او تاصيلهم في التربة المصرية. وبمرور الوقت تحولت الايدلوجية إلى ما يشبه الدين لها وجه واحد من الحقيقة الثابتة.
فشل التيار اليساري، والماركسي بشكل أعم، فى تخطي أزمة الجمود الفكري، حتى مع سقوط الاتحاد السوفيتي ومنظومته، فقد اختصروا هذا الانهيار فى سياسات جورباتشوف فقط، وليس في الميراث الكارثي للاشتراكية. ولم تختلف النظرة والتعاطي مع الازمة العميقة للتيار اليساري المصري واستمر نهج الالغاء والاقصاء للمختلفين، وادعاء تمثيل الطبقة العاملة موضوعيا حتى لو كانت هذه الطبقة لم تسمع عنهم، والاخر بالنسبة لهم كان عميلاً للسلطة أو للخارج الامبريالي الاستعماري، فكانوا الاقرب الى شعبوية تحتكر الحقيقة. واتبعوا منطقًا يصنف التيار إلى نخبة المفكرين والعامة .
وقد تعاملوا بمنطق السلطة التي يعادونها بإعتبارهم الصفوة التى تنقل الوعي للجماهير الغفيرة والمؤيدين، وهذا الملمح الفاشستى بات له قاموسه اللغوي بمصطلحات خاصة بهم، مستمدة من الادبيات الكلاسيكية القديمة التي لم تتغير او تتبدل مع تغير الظروف والمكان والزمان، فالتحليل الطبقي هو المفتاح لقراءة الواقع الاقتصادي والاجتماعي ، دون اعتبار للثقافة الخاصة والهوياتية للمجتمع المصري وتفرعاته الثقافية المناطقية او الدينية كعوامل موازية للتحليل، وهي ذات الاسباب التي أدت الى تراجع الاحزاب اليسارية التقليدية في أوروبا، لصالح احزاب شعبوية يسارية ويمينية .
- استراتيجية الأسقف المنخفضة: بداية التراجع
يعتبر حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، هو أحد أشهر الأحزاب اليسارية المصرية. تأسس الحزب مع إعادة تأسيس الأحزاب في مصر وحل الاتحاد الاشتراكي سنة 1976، قام الحزب من بدايته على فكرة جمع شمل اليساريين فى كيان واحد بغض النظر عن انتماءاتهم وخلفياتهم الفكرية ، فضم تيارات اليسار المختلفة كالماركسية والديمقراطية الإجتماعية والتيار الدينى المستنير والناصرية، ورغم أهمية هذه التجربة في التاريخ السياسي المصري، الا أنها لم تعمر طويلاً، لاسباب عدة ليس أقلها، أن فكرة التحالفات والتوافق لم تقم على أسس حديثة بالقبول بالاخر والتوافق على برنامج الحد الادنى، بل جرى استخدام ذات المنهج الشمولي القائم على مبدا المركزية الديمقراطية والدعوة للاصطفاف الوطني ولم الشمل، فى حين أن الجميع يتشبث بأرائه وأفكاره التي حملها للتنظيم الجديد، كما أن التجربة الحزبية القصيرة في مصر لم تسعف التجمع وغيره من الاحزاب في ابداع أليات تنظيمية لحل الخلافات الداخلية .
تحول الحزب من أقصى معارضة النظام السياسي إلي مجرد حزب هامشي مؤيد للنظم السياسية منذ بداية الثمانينات، بفضل استراتيجية الأسقف المنخفضة التى صكها رفعت السعيد، الذى سيطر على الحزب منذ الثمانينات. على الرغم من كونه قد اعتقل عدة مرات فى نظم عبدالناصر والسادات، إلا إنه مع عودة الإسلاميين الرديكاليين من افغانستان وتصاعد الصراع معهم، وبعد وصول مبارك إلى الحكم، توصل الى خلاصة باتت فكر الحزب وبرنامجه، أن الاسلاميين يمثلون الخطر الاكبر وليس سياسات النظام التي ساهمت في مفاقمة التفاوت الاجتماعي بين جموع الفقراء والاقلية الثرية بصورة كبيرة وباتت مهادنة النظام من ثوابت الهيئة العليا للحزب، وهذا أدى بدوره إلي تراجع التجمع على المستويين الشعبي والسياسي. وتجويف التوجهات الثورية داخل الحزب ومواجهة أى تيار ثوري يساري أخر، وصولا إلى رفض دعوات التظاهر فى 25 يناير 2011،
- احتجاجات يناير 2011 وثنائية الإخوان واليسار
أفرز الحراك الثوري الذي شهدته مصر منذ يناير 2011، سيولة فى الحياة الحزبية غير مسبوقة، وفتح افاقًا رحبة للتيار اليساري للعمل والتنظيم والالتحام بالمطالب الشعبية ” عيش وعدالة اجتماعية ” ، ولكن بسبب الميراث الثقيل للخبرة التاريخية المرتبطة باليسار والمشتبكين بالمجال العام لم تتقدم كيانات ديمقراطية حقيقية، ما أدى الى اهدار الفرصة التاريخية وخروج غالبية فصائلة من التاثير في صنع المعادلات اللاحقة ، وزادت معه الانشقاقات والتصدعات في غالبية التيارات المسماة على جبهة اليسار ، الامر الذي مكن تيار الاسلام السياسي وفي مقدمته الاخوان المسلمين من تصدر المشهد برمته كقوة منظمة وصلت الى الحكم، باختطاف نضالات واحلام الجماهير المصرية التي حلمت بالتغيير .
ظل الموقف من الإخوان المسلمين من أكثر المسائل الخلافية للتيارات اليسارية، ففى بداية 2011 حاول جناح من اليسار التقرب من الإخوان والتوافق معهم على قوائم انتخابية واحدة وعلى رأسهم حزب الكرامة الناصري برئاسة حمدين صباحي، في حين شن جناح اخر هجومًا جادا منذ اليوم الأول للثورة تمثل بحزب التجمع والقيادي المركزي رفعت السعيد، ولكن ضيق افق الاخوان وضحالة تجربتهم وجهلهم بطبيعة الدولة المصرية ونهجهم الاقصائي الشمولي، أدى إلى فشل كل مشاريع التحالفات أواخر عام 2012.
بعد إعلان خارطة الطريق فى 3 يوليو 2013، لم يتعلم اليساريون الدرس ولا المتغيرات الجديدة داخليًا واقليميًا، فانقسموا بين مطالبين باستئصال الإخوان من المشهد السياسي برمته، وبين من يروهم جزء من المجتمع المصري وحياته السياسية، وبين مطالبين بالقطيعة المطلقة معهم دون استئصال. كان ذلك واضحًا فى البيان الذى أصدرته حركة الاشتراكيين الثوريين فى 2015، إذ رأت أن الإخوان المسلمين تيار إصلاحي يقف ضد السلطوية وأن من يضعون الإخوان فى معسكر الثورة المضادة، ويسعون لإيجاد بديل ثالث، ما هم إلا داعمون للديكتاتورية العسكرية. يشكل هذا البيان التعبير الأبرز عن الخلفية المعرفية والفكرية لجناح من اليسار الشعبوي المصري، واطلقوا صفات ” معسكر الثورة المضادة ” على كل من خالفهم الرأي. ولكن هذا البيان الخارج من مجموعة اشتراكية ثورية تضم جزء من ما يمسوا أنفسهم “شباب الثورة”، فشلوا فى تحليل الوضع القائم وفقًا للسياق الاجتماعي والسياسي والمعطيات الجديدة منذ 2013، بل لا زالوا عالقين فى ذات المواقف والادبيات التي صدرت عنهم فى عام 2005، عندما كان شعار اسقاط نظام حسني مبارك أداة توحيد لكل القوى السياسية.
ويمكن القول أن غالبية التيارات اليسارية ظلت حبيسة المنطق الشبعوي القديم، الذي يقسم المجال السياسي على أساس هوياتي نحن فى مواجهة هم، متجاهلة جميع التناقضات والاختلافات بين الاطراف الفاعلة، وتفرض حالة من التنميط والقمع الفكري على أعضائها، فهي حالة متكررة من بداية نشاة هذا التيارات فى مصر حتي الأن، فإذا حاولت هذه المجموعات التفكير بشكل نقدي، والقيام بمراجعات فكرية جديدة، سنجد واضحًا أن هذه الحالة تتعامل مع الأفكار كحقائق أبدية غير خاضعة للمناقشة أو المراجعة، وتعيد انتاج فكرة الوصاية على الشعب بإعتباره غير مدرك لمصالحه كما تدركه الصفوة المثقفة التي يمثلوها.
يمارس البعض تسلطية بأسم الديمقراطية، باستخدام شعارات تاريخية باخراجها من سياقها التاريخي، مرتكزين على ألية الانتخابات الشكلية باعتبارها الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الديمقراطية. فى تهميش واضح للنضالات الجوهرية والاصيلة والتي ستظل راهنة، حول المواطنة والحريات المدنية والسياسية والحريات الدينية والمعركة ضد الطائفية وحقوق المراة والمهمشين، وكذلك المطالبات بالعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة. والتعامل مع الأمور بما يسمي سياسة أو فقه الأولويات، فلا يمكننا تخيل أن تتحالف مجموعات ليبرالية أو يسارية حقيقية مع جماعات رجعية متجاهلة كم القضايا العالقة لمجرد الوصول للديمقراطية بدون كافة الحقوق والحريات والقضايا الشائكة الأخرى.
المراجع:
أروى صالح، المبتسرون”دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية”، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997
شريف يونس، نداء الشعب تاريخ نقدي للإيديولوجيا الناصرية، دار الشروق، 2012
الإشكاليات والفرص المتاحة للأحزاب السياسية المصرية: تقرير من منظور النقد الذاتي، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أغسطس 2017
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=17152
https://www.ida2at.com/how-did-rafat-al-said-makes-the-dream-a-nightmare/
https://www.ida2at.com/left-is-it-the-savior/