شرق السودان: يعود الى الواجهة مركزا للتوتر والصراع الاقليمي
ورقة سياسات، علي هندي، ذوالنون سليمان
شرق السودان، بولاياته الثلاث، كسلا والقضارف وبورتسودان (البحر الأحمر) بات مركزا لنشاط كبار قيادات نظام البشير والمؤتمر الوطني وتابعيهم من الميليشيات ” الجهادية “المتطرفة، وفي مقدمتهم عوض الجاز والفاتح عزالدين وأحمد هارون الهارب من سجن كوبر المركزي وحاج ماجد سوار. ولا يكتفي هؤلاء بالدعوة الى استمرار الحرب ورفض كل الحلول السلمية للأزمة السياسية، والتحريض بالقتل البواح ضد كل المختلفين معهم بما فيهم التيار المدني وقوى الحرية والتغيير ودعاة وقف الحرب، باعتبارهم حلفاء ضمنا للدعم السريع. أمام الاحتمالات المفتوحة لنتائج المعركة في الخرطوم، وغياب الأفق لحل سلمي عبر طاولة التفاوض، يعيد هيكلة الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية، على أسس المواطنة المتساوية والعدالة والشراكة، فان أصحاب الحرب المستمرة والدعوات العنصرية واختصار السودان على مقاس دولة البحر والنهر، قد يعيد ترتيب الصفوف والقوى في شرق السودان. في هذه الورقة نحاول تسليط الضوء على التركيبة الاجتماعية والاثنية لهذه المنطقة، والإجابة على سؤال حول واقعية انتقال مركز الثقل السياسي للبلاد الى الشرق.
تقديم:
يتكون إقليم شرق السودان من ثلاث ولايات هي ولاية البحر الأحمر، وكسلا والقضارف، جغرافيا يمثل حدود السودان مع إثيوبيا وإريتريا ومصر، ويمتاز بموقع استراتيجي يطل على البحر الأحمر، يجعل منه ليس المنفذ البحري الوحيد للسودان وحسب، بل ولعدد من الدول الافريقية مثل جنوب السودان واثيوبيا وتشاد. ورغم غنى الإقليم بالثروات الطبيعية ومساهمته الكبيرة في صادرات الذهب وعائدات الموانئ، إلا أنه يعاني من فقر التنمية في البنية التحتية، من تعليم وصحة وزراعة ومواصلات وغيرها من المرافق الحيوية، يترافق مع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة واستبعاد نخبه الاجتماعية والسياسية من المشاركة في السلطة والثروة. وظلت هذه المنطقة مخزنا سياسيا وانتخابيا لقوى المركز النيلي من أحزاب الأمة والاتحادي والمؤتمر الوطني، مما حدا بأبنائه لرفع شعارات مقاومة التهميش الاقتصادي والسياسي طيلة فترة الحكم الوطني من خلال أدوات مدنية وسياسية مختلفة تهدف إلى معالجة الاختلالات الجوهرية التي جعلت من شرق السودان ضحية لسياسة التمركز الاقتصادي والسياسي والثقافي منذ بداية الدولة الوطنية في 1956 والتي ظلت تنظر للشرق كمورد مالي وانتخابي.
اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع في الخامس عشر من أبريل الماضي ، فرض مناخات سياسية جديدة في السودان وتساؤلات حول مستقبل الشرق في ظل تعاظم مهددات وحدة البلاد وتفاقم مخاطرها , بما فيها الحرب الأهلية الشاملة، الأمر الذي جعل لمنطقة شرق السودان خصوصية جيوسياسية في الصراع ، فهو في الغالب القاسم المشترك لكل السيناريوهات المحتملة للمشهد السوداني، كما انه مفتوح على تداعيات المشهد الداخلي في ارتريا واثيوبيا وصراعات النفوذ الدولي حول سواحل البحر الأحمر، مما قد يغير خارطة السودان والإقليم ويحول العلاقات بين مكوناته الاجتماعية إلى مواجهات مباشرة.
تاريخيا، كان للشرق ذلك الحضور الفاعل في العمل العسكري الذي رسم معالم السودان الحديث من خلال رموزه من امثال المناضل عثمان دقنه، كما كان للشرق حضورا قويا في المشهد السياسي الذي شكل ملامح الدولة السودانية الحديثة من خلال النخب التي أسست حزب مؤتمر البجا. ومشاركة مكوناته السياسية في التجمع الوطني الديمقراطي وميثاق أسمرا للقضايا المصيرية 1995 , والذي يعتبر أحد معالم التاريخ السياسي الحديث لاصطفاف كل قوى السودان السياسية في جهاته الأربع ضد سلطة الإنقاذ، ليتراجع تأثيره وتختفي نخبه، ويعود لمتاهة البحث عن الذات وسط تغييرات داخلية وخارجية عميقة جميعها تعمل ضد ساعة الشرق السياسية.
الحراك السياسي في الشرق:
يعتبر حزب مؤتمر البجا أول حزب سياسي يمثل شرق السودان، تأسس في العام 1954، على يد الدكتور طه عثمان بليه ومجموعة من مثقفي قبائل البجا ليكون بمثابة منبر سياسي لهذا المكون الاجتماعي وسكان شرق السودان، ويحمل مطالب أبناء الشرق للتنمية ومحاربة الفقر والمرض والأمية. دعا حزب مؤتمر البجا في بيانه التأسيسي إلى اعتماد نظام حكم فيدرالي في السودان. وكان مقره الرئيس حينها في مدينة كسلا. مر الحزب بعدة محطات حظر خلالها نشاطه كما حدث في عام 1960، اسوة بغيره من الأحزاب السياسية الأخرى في السودان، من قبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي استولى على السلطة في السودان عام 1958 م، وعندما رفع الحظر بعد سقوط حكومة عبود وعودة الحكم المدني إلى السودان في عام 1964 م، عاد مؤتمر البجا للظهور، حيث شارك بنجاح في انتخابات عام 1965 البرلمانية، وفاز بأحد عشر مقعداً من مقاعد الجمعية التأسيسية. وفي انتخابات العام 1986 لم ينجح الحزب في الحصول إلا على مقعد واحد فقط. وهذه النتيجة كانت مؤشرا إلى أن قضايا الشرق ومطالب مكوناته، كانت بحاجة الى ادوات اخرى قادرة على تقديم معالجات أعمق من رؤية حزب سياسي يصارع من أجل البقاء في بلد قد يستولي الجيش فيه على الحكم في اية لحظة. وفي العام 2006 قررت الحكومة الارترية لعب دور الوسيط بين الحكومة وجبهة الشرق التي كانت من ضمن قوات المعارضة السودانية التي تشكلت بدعم ارتري اثيوبي كان الهدف منه إسقاط حكومة الجبهة الاسلامية حينها. وكانت ارتريا تسعى حينها إلى تامين حدودها مع السودان للتفرغ لمواجهة اثيوبيا بعد الحرب التي اندلعت بينهما على خلفية صراع حدودي. تم توقيع اتفاق سلام الشرق بين الحكومة السودانية وجبهة الشرق في العاصمة الارترية اسمرا في 14 من أكتوبر عام 2006، وغطت الاتفاقية القضايا الأمنية وتقاسم السلطة على المستويين الاتحادي والإقليمي وتقاسم الثروة فيما يتعلق بالولايات الشرقية الثلاث، كما تولي بموجب الاتفاق ممثل جبهة الشرق موسي محمد احمد منصب نائب رئيس الجمهورية، وترتب على الاتفاقية أيضا إسناد مهام وزارية وإدارية رفيعة لبعض ابناء الشرق.
مما يجدر التنويه إليه، ان بعض مكونات الشرق لها امتدادات في ارتريا مثل، قبيلة البني عامر والحباب والهدندوة إلى جانب مجموعات انضوت تحت نظارة البني عامر لاعتبارات تتعلق بشروط تأسيس نظارات القبائل. هذا الارتباط جعل من الشرق الحاضنة التي انطلقت منها حركات التحرير الارترية في حربها ضد اثيوبيا، وهذا بدوره ادى ان تحول الشرق الي وجهة لمجموعات لاجئة من تلك القبائل نحو الحواضن الاجتماعية لأبناء عمومتهم. وهو أمر جعل من قضية الولاء ورقة يتم التلويح بها في وجوههم من بعض المكونات الاصلية، التي تتهمهم على الدوام بازدواج الولاء والهوية. وكان من الطبيعي أن تكون ارتريا مؤهلة للعب دور مؤثر في الحياة السياسية للشرق.
الشرق في مواجهة الدولة وصراع المكونات:
هدد رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة محمد الأمين ترك بإعلان الحرب في شرق السودان إذا رفضت السلطات السودانية منح الإقليم منبر تفاوضي منفصلا لتقرير المصير. هذا التهديد كان تعبيرا عن رفض الناظر ترك لاتفاقية مسار شرق السودان المضمن في سلام جوبا، الذي أبرمته الحكومة الانتقالية مع الحركات المسلحة عام 2020م . ويعتقد ترك أن المسار تجاوزهم ولم يتم التشاور معهم، وأن قادة المسار في جوبا لا يمثلونهم، وهم الأمين داؤود وخالد جاويش ومحمد جميل، الذين ينتمون إلى قبيلة البني عامر (ثاني أكبر مكون اجتماعي بالإقليم). وامتد الخلاف ليصل الى المجلس الاعلى لنظارات البجا، حين تزعم نائب ترك ابراهيم ادروب جناحا آخر بالاسم ذاته. أعاد هذا الخلاف إلى الواجهة تباين مواقف مكونات الشرق من حملة المهدي ضد البريطانيين، وهو تباين أثر في وحدة صف شعوب الشرق في مواجهة التهميش في الماضي، ويعود من جديد ليضع بعض المكونات في مواجهة قد تنتج واقعا سياسيا بالنظر الي ما يمر به السودان حاليا.
“المكونات الوافدة” في شرق السودان:
بحكم موقع شرق السودان المطل على البحر الاحمر، صارت المنطقة ملتقى رحلات الحجيج القادمة من غرب السودان وافريقيا، وبفضل خصوبة الأراضي الزراعية وملائمتها للنشاط الاقتصادي، استقرت مجموعات سكانية في ولايتي كسلا والقضارف أهمها، قبائل المساليت والفور والهوسا، إلى جانب مجموعات صغيرة من قبائل البرقو والزغاوة ، بينما تتمركز قبائل النوبة القادمة من منطقة جبال النوبة ، جنوب كردفان في مدينة بورتسودان ، عاصمة ولاية البحر الأحمر ، حيث يمثل العمل في الميناء موردا اقتصاديا جاذبا .
تشكل المكونات الاجتماعية الوافدة من الغرب قوة اقتصادية وسياسية مؤثرة، يرتبط بالحراك السياسي الثوري في مناطقهم الأصلية “دارفور” وجنوب كردفان وتتوزع ولاءات غالبيتهم بين الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو وحركة تحرير السودان قيادة عبدالواحد محمد نور.
تاريخيا، تمتاز العلاقات بين مكونات غرب السودان والسكان الأصليين ” البجا ” بالتعايش والسلام الاجتماعي، ولكن ، بعد تراجع دور الدولة الخدمي وشح الموارد ، توترت العلاقة واتخذت طابع صراع قبلي بين البجا والهوسا والنوبة ، وبدأت ترتفع بعض الأصوات الرافضة لوجود مكونات الغرب الاجتماعية بسبب التنافس على الموارد والفرص المتناقصة مع صعود المكونات الوافدة اقتصاديًا وسياسيًا .
في الجانب الآخر، نجد أن مجموعات القبائل الشمالية “الشوايقة ,الجعليين,النوبيين” تسيطر علي الخدمة المدنية والعسكرية بشرق السودان وذلك بسبب التفاوت التعليمي والاجتماعي , وتسيطر سياسيا عبر الأحزاب التاريخية ” الاتحاد الديمقراطي” والحركة الإسلامية والطرق الصوفية” الختمية” ، مما يجعل الإقليم تحت سطوة الأيديولوجيا الاسلاموية والعروبية بكل تأثيراتها على حاضره ومستقبله لا سيما في ظل ضعف حراك مكوناته السياسية وعجزها عن التعبير عن مصالحه وتمثيلها سياسيا .
الخلاصة:
كشفت استحقاقات ثورة ديسمبر التي أطاحت بحكم البشير أن القوى الاجتماعية في الشرق لم تتمكن من تجاوز خلافاتها التاريخية، تلك الخلافات التي مكنت القوى التقليدية للدولة السودانية في السابق من تسخير أي حراك في الشرق لخدمة مصالح المنظومة التاريخية للمركز وتأمين وجودها في السلطة. كما سمح للجارة ارتريا من التموضع في عمق الخلافات السودانية وهو تموضع تعمد خلق اشكالية الولاء للمجموعات الحدودية، ومكنها من استغلال امكانيات الشرق الاقتصادية لصالح بقائها خارج منظومة التجارة الدولية . شرق السودان الذي تكهن البعض أن يكون كعب أخيل ثورة ديسمبر قد يصبح كذلك فعلا ويتحول الى المركز الذي يرسم الخارطة السياسية الجديدة للسودان وذلك بفعل موقعه الجغرافي وتباين مواقف قواه من اطراف النزاع ووجود الاستعداد السياسي لمطالب إقليمية تتجاوز هيمنة الدولة المركزية القديمة.
موقف رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا محمد الامين ترك المؤيد للجيش والداعم للنظام القديم, سيدفع القوى السياسية والمجموعات الاجتماعية الأخرى “البني عامر والرشايدة والبشارية” التي ترى مصالحها في الاتفاق الإطاري ومساندة قوات الدعم السريع, مما يجعل الشرق مرشحا لأن يكون مسرحا للاستقطاب والمواجهة السياسية والعسكرية بين الطرفين المتقاتلين ، مواجهة سوف تنتج اصطفافا على خط التوتر القائم بين المجموعات الاثنية ، سواء بين من تعتبر نفسها مجموعات اصيلة ومن تصنف بانها وافدة. وهذا السيناريو قد يدفع لانحيازات اجتماعية مسلحة لصالح أحد طرفي النزاع. وفي حال تطور الصراع السوداني المسلح ومشاركة قوى شرق السودان فيه، فإن اولى تداعيات الصراع ستكون موجة نزوح ستشكل مصدر قلق لدولتي ارتريا واثيوبيا، مما قد يدفعهما الى الانخراط في الصراع بهدف تأمين أمنهم الداخلي. في الحالة الاثيوبية فان شريط الفشقة المتصارع عليه مع السودان سيكون ضمن المنطقة التي تسعى أديس أبابا إلى تأمينها وذلك لضمان حماية سد النهضة من أية أعمال تخريبية. ولا تنفصل صراعات النفوذ والهيمنة الدولية على سواحل البحر الأحمر عن أجندة الأزمة السودانية ومحركات الصراع في شرق السودان، وذلك بسبب رغبة كل من روسيا وتركيا وإيران إيجاد موطئ قدم على البحر الأحمر وذلك من خلال تفعيل الاتفاقات السابقة مع نظام البشير حول انشاء قواعد عسكرية لهم في بورتسودان وميناء سواكن، وسط ممانعة أمريكية ورفض خليجي، مما يعقد الأزمة السودانية أكثر ويطيلها.