سوريا-لبنان: تحوّلات محتملة في علاقات شائكة!
د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات
• ملخص ورقة سياسات:
– أملت مقاربة عقائدية قراءة أيديولوجية سورية للعلاقة من لبنان، أسست لقاعدة “الوصاية” بصفتها حقّا سوريا طبيعيا على لبنان.
-وفّرت رعاية عربية ودولية لنظام الأسد، الأب والابن، استمرار الوصاية السورية على لبنان والتحكم بهيكله الحاكم.
-أجبر حدث اغتيال رفيق الحريري دمشق على سحب قواتها، والاعتراف بعلاقات دبلوماسية مع لبنان، وإقامة سفارة سورية في بيروت.
-رفضت دمشق حسم الجدل بشأن لبنانية مزارع شبعا التي تحتلها إسرائيل، ما مكّن حزب الله من تبرير تمسكّه بالسلاح بعذر لبنانيتها.
-يقدم الشرع مقاربة جديدة لعلاقات سوريا ولبنان، تؤسّس لمداخل جديدة وجديّة، لإقامة علاقات تحترم الاستقلال والسيادة وعدم التدخل المتبادل في شؤون البلدين.
-مسألة اللاجئين السوريين في لبنان هي أهم الملفات العاجلة لسوريا ولبنان، وتحتاج إلى دراسة مشتركة ودعم دولي شامل
• تقديم:
من المفترض أن ينهي حدث سقوط نظّام بشّار الأسد في سوريا وولادة أعراض نظام جديد في البلد، المقاربة التي تعامل بها نظام حزب البعث مع ملف العلاقة مع لبنان. وفيما ارتفعت نسبة إشكالية العلاقة بين البلدين منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة عام 1970، فإن لبنان عرف وصاية سياسية وعسكرية وأمنية، لها سماتها وجوانبها الاقتصادية، منذ التدخل العسكري السوري المباشر عام 1976، حتى انسحاب القوات السورية عام 2005. غير أن علاقة البلدين بقيت مع ذلك مشوبة بغياب الثقة كما بقي تدخل دمشق يأخذ أشكالا جديدة. وتبدو زيارة رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، في 11 يناير 2025، استكشافا لبنانيا بجديد دمشق واعترافا رسميا بالتحوّل الذي يقوده أحمد الشرع، رئيس الإدارة الانتقالية في سوريا، منذ 8 ديسمبر 2024.
• قراءات سايكس-بيكو
راجت في سوريا نظريات تاريخية تعتبر أن لبنان هو جزء اقتطعه الاستعمار من سوريا. تناسلت هذه المقاربة من متون قراءات لاتفاقات سايكس-بيكو البريطانية الفرنسية لعام 2016 التي قسّمت “التركة” العثمانية، ورسمت حدودا لقيام دول المنطقة. ومن دون الدخول في أجندات تلك القراءات ومراميها الجيوسياسية، وبغضّ النظر عن الطابع النظري القابل للجدل، فإن سوريا نفسها هي جزء من ثمار اتفاقات باريس ولندن آنذاك، ولطالما طالتها مطالب حدودية، منها ما رشح مؤخراً من مطالب تركية في شمال البلاد تشمل مدينة حلب.
وبعيدا عما هو أيديولوجي، فإن علاقات خاصة شابت روابط سوريا بلبنان، تختلف عن تلك التي ربطت سوريا ببلدان مجاورة أخرى. ولطالما استخدمت معظم الأنظمة السياسية السورية التي تعاقبت على حكم البلد منذ الاستقلال، لا سيما مع مرحلة الانقلابات العسكرية التي بدأت عام 1949، على إقفال المعابر الحدودية بين البلدين، كلما استعرت أزمة بين بيروت ودمشق، علما أنها الحدود البرية الوحيدة التي تتيح للبنان التواصل مع دول الشرق والجنوب، لا سيما مع العالم العربي.
وقد تحوّل لبنان في ظل حكم حافظ ثم بشّار الأسد، إلى “ورقة” من أوراق القوة في الإطلالة السورية العامة على المشهد الدولي. حتى أن الأسد الأب اعتبر، في عزّ وصاية نظامه العسكري والسياسي على لبنان، أن السوريين واللبنانيين هم “شعب واحد في بلدين”، مبررا بذلك سطوة نظامه على قرار بيروت. وأخذت هذه السطوة وجوها مختلفة، استخدمت فيها الأساليب الإكراهية العسكرية والأمنية، لفرض هيكل الحكم في بيروت.
• وصاية تحت مظلة عربية-دولية
استفاد النظام السوري من رعاية النظام العربي لدوره في لبنان، بحيث باتت القوات السورية هي القوات الوحيدة التي بقيت من ضمن “قوات الردع العربية”، المتعددة الجنسيات التي شكلها قرار، صادر عن القمّة العربية عام 1976، في مسعى لإنهاء الحرب الأهلية في لبنان آنذاك. وقد أصبحت القوات السورية لاحقا جزءاً من هذه الحرب ولاعبا في مساراتها. واستفادت دمشق من رعاية أميركية دولية لاحقا، بسبب مشاركة القوات السورية في التحالف الدولي الذي قادته واشنطن في حرب “تحرير الكويت” عام 1991، ما أتاح لها اعترافا دوليا بنفوذها في لبنان.
وقد تدخل نظام الأسد، الأب ثم الابن، في كل تفاصيل الحياة السياسية والدفاعية والاقتصادية في لبنان. وكان على الوصاية السورية أن تفرض على منظومة لبنان السياسية هوية رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وتركيبة الحكومات المتعاقبة. كما تدخلت دمشق في كل الانتخابات البرلمانية للتأكد، من وصول أغلبيات مناسبة لسياستها داخل مجلس النواب اللبناني. كما سيطرت دمشق على السياسة الخارجية اللبنانية، بحيث التصقت مواقف بيروت في الشؤون العربية والدولية مع أجندة سوريا ومواقفها، حتى أن الدائرتين العربية والدولية سلّمتا بالأمر الواقع الذي يجعل لبنان حديقة خلفية لقرار سوريا في الشرق الأوسط.
واعتمد النظام السوري في مرحلة أولى على قواه العسكرية وأجهزة مخابراته لفرض أمره الواقع. واصطدم، من أجل تحقيق ذلك، بالقوى اللبنانية المسيحية اليمينية تارة، ثم بالقوى اليسارية القومية المتحالف مع قوات منظمة التحرير لاحقا. وبعد خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية إثر الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، اعتمد النظام السوري، إضافة إلى قواه العسكرية والمخابراتية الذاتية، على تحالفات داخل الطبقة السياسية اللبنانية، متعددة الطوائف، وعلى قوى وشخصيات تابعة مباشرة لقرار في دمشق.
• وصاية طهران
شكّل اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري، عام 2005، أعلى مستويات التوتر في تعامل النظام السوري مع بيروت. وقد أدى اتّهام النظام السوري بالضلوع بعملية الاغتيال (التي قالت “المحكمة الدولية الخاصة” المكلفة بهذه القضية في عامي 2020 و 2022 أن أعضاء في حزب الله نفذوها) إلى تصاعد ضغوط دولية أدت إلى انسحاب القوات السورية من لبنان بعد أشهر من عملية الاغتيال.
وعلى الرغم من هذا الحدث الجلل، غير أن دمشق بقيت نافذة في لبنان من خلال تحالف سوري إيراني، ومن خلال قوات حزب الله. وقد وفّرت سوريا لإيران والحزب قاعدة لممر بين طهران وبيروت لتمرير الأسلحة إلى الحزب، وبقيت مستفيدة من سطوة طهران والحزب على مفاتيح الحكم في لبنان.
وبسبب صدمة اغتيال رفيق الحريري، والضغوط الدولية الهائلة والحراك الداخلي اللبناني المكثّف ضد دمشق، وافق النظام السوري على إقامة علاقات دبلوماسية مع لبنان وفتح سفارة لسوريا في العاصمة بيروت. كما زار الرئيس السابق بشّار الأسد، بضغط من قبل العاهل السعودي الراحل، الملك عبد الله بن عبد العزيز وبرفقته، لبنان في يوليو 2010. غير أن العلاقة بين البلدين بقيت مشوبة بعدم الثقة، خصوصا وأن دمشق بقيت جزءا مشجّعا على الانقسام اللبناني الداخلي، بحيث أن امتداداتها داخل الطبقة السياسية اللبنانية لعبت دورا أساسيا في التحالف مع حزب الله.
• الشرع ولبنان: قواعد وعناوين
يقدم رئيس الإدارة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، خطابا جديدا يختلف جذريا عما كان معمولا به في التعامل مع لبنان في عهد النظام السابق. ومن خلال وعد الشرع بأن “لا تكون سوريا حالة تدخل سلبي في لبنان”، اعتراف بمدى سلبية الحالة السورية السابقة في لبنان. وتكشف مقاربة الشرع عن حاجة، البلدين إلى نسج علاقة ندّية، تغيب فيها أي فوقية أو وصاية أو تدخل، وإلى علاقة احترام متبادل لاستقلال وسيادة ومصالح البلدين. وتمثل المقاربة الجديدة مدخلا لمعالجة عناوين كثيرة لعلاقات البلدين أهمها:
1-الاعتراف السوري التاريخي بنهائية لبنان، وفق ما ورد في اتفاق الطائف لعام 1989، وبانتفاء أي قراءات أيديولوجية لطبيعة العلاقة التاريخية والجغرافية التي تربط البلدين.
2-يؤسّس هذا المفهوم لترسيم الحدود بين البلدين، بحيث ينهي ذلك الإشكالات التي تتيح انتشار عشرات المنافذ والمعابر غير الشرعية التي تستفيد منها أعمال التهريب والإجرام والإرهاب العابر للحدود.
3-يشمل الترسيم أيضا “مزارع شبعا” التي يعتبرها لبنان أراض لبنانية محتلة، وبرر حزب الله بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، استمرار “المقاومة” من أجل تحريرها. بالمقابل تعتبر إسرائيل “المزارع” أراض سورية تمّ احتلالها عام 1967. فيما رفض النظام السوري تزويد الأمم المتحدة بالخرائط التي تؤكد أو تنفي سورية هذه المنطقة.
4-يشمل الترسيم أيضا تلك البحرية شمال لبنان، والتي من مصلحة البلدين الوصول إلى توافقات بشأنها، تسمح لهما باستغلال ثروات الطاقة المحتملة داخل مياههما الخالصة في شرق المتوسط.
5-دراسة مشتركة لملف سجناء البلدين، سواء في إغلاق ملف المفقودين اللبنانيين في السجون السورية في عهد الأسد، أو السجناء السوريين في السجون اللبنانيين، وخصوصا المعتقلين منهم لأسباب سياسية.
6-دراسة مشتركة لملف اللاجئين السوريين في لبنان الذين تقدر أعدادهم بحوالي مليون ونصف شخص. ولا شكّ أن الملف شائك، لكنه من أولويات البلدين، وسيكون مرتبطا بالدعم الدولي المنتظر لإعادة الإعمار في سوريا، وبتطوّر الوضح السياسي والحكومي داخل سوريا.
7-دراسة مشتركة لتنظيم تنقل الأفراد والبضائع والرساميل بين البلدين وفق قواعد وقوانين جديدة تقررها الحكومتان، تنهي فوضى قوى الأمر الواقع السابقة في البلدين.
• خلاصة واستنتاجات:
**يمثل سقوط نظام بشار الأسد فرصة لسوريا ولبنان لتجاوز العقبات الماضية في علاقة البلدين، وإقامة قواعد وشروط ومعايير جديدة لعلاقة سويّة بين دمشق وبيروت.
**تعوّل بيروت على وعود قطعها الشرع، أمام شخصيات سياسية لبنانية، بأن “لا تكون سوريا حالة تدخل سلبي في لبنان” وأخذ مسافة واحدة مع مكوّنات لبنان.
**تأمل بيروت في انتهاء سياسة الهيمنة، والوصاية، وإغلاق المعابر البرية الوحيدة للبنان نحو سوريا ودول الشرق والجنوب، لا سيما العالم العربي. هو إجراء اعتمد في دمشق منذ مرحلة الانقلابات.
**من مصلحة البلدين ترسيم الحدود البرية والبحرية بينهما لإنهاء مصادر التوتّر وظواهر رواج أعمال لا تسيطر عليها الحكومتان، والاستفادة من إدارة الثروات، لا سيما الطاقوية في مناطق البلدين الخالصة شرق المتوسط.
**يحتاج لبنان إلى قرار سوري ينهي الجدل بشأن سورية أو لبنانية “مزارع شبعا” المحتلة من قبل إسرائيل.
**اتفاق البلدين من شأنه تشجيع المجتمع الدولي على تسريع دعمه وتمويله لبرامج لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم من لبنان.
**اتفاق البلدين ينظّم تنقل الأفراد والبضائع والرساميل، ويعيد الوصل الاقتصادي السليم بين البلدين.