سقوط المحرّم: كيف يصعد اليمين المتطرّف إلى حكم أوروبا؟

 د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات

ورقة سياسات:

 

ملخص تنفيذي

  فوز اليمين المتطرّف في انتخابات فرعية في ألمانيا قد يمهد لفوز آخر في الانتخابات العامة في عام 2025. غير أن لهذا الفوز وقع آخر بسبب ماضي ألمانيا النازي.

 اختراقات اليمين المتطرّف في ألمانيا تلتحق بما سبق أن عرفته دول أخرى مثل هولندا والنمسا وهنغاريا وفرنسا والنمسا وغيرها، ما يعني أن الظاهرة مستقرّة وتتمدد.

 تجربة اليمين المتطرف في إيطاليا والنمسا مثلا تؤسّس لنماذج تأتلف فيها قوى سياسية وسطية من اليمين أو اليسار مع التشكلات اليمينية المتطرّفة وتقبل التعامل معها.

 رغم قلق ألمانيا من الفوز الأخير لليمين المتطرّف، فإن إمكانية انخراطه في تكتلات أو تحالفات مع قوى مسيحية يمينية أو يسارية شعبوية بات أمرا قابلا للنقاش.

 ارتهان أي حكومة يشكّلها رئيس الوزراء الجديد في فرنسا إلى تصويت اليمين المتطرّف في البرلمان، يؤسّس لعملية تطبيع غير مسبوقة بين قوى اليمين والوسط مع اليمين المتطرّف وإسقاط تقاليد تحريم سابق.

 

تقديم:

أثارت الانتخابية الفرعية التي جرت في ولايتي تورينغن وسكسونيا بشرق ألمانيا في الأول من سبتمبر 2024 ردود فعل مقلقة بالنسبة لبلد لا يشبه فيه تقدّم اليمين المتطرّف والتيارات الشعبوية ما حصل في بلدان أوروبية، أو ما قد يحصل لاحقا في بلدان أخرى. فألمانيا ما زالت مربكة بتاريخها وتجربتها خلال المرحلة النازية بزعامة أدولف هتلر (1933-1945)، ولا يمكن فصل صعود اليمين المتطرّف عن قصة صعود النازية في هذا البلد. لكن بغضّ النظر عن الإنجاز “الفرعي” الذي قد يمهّد إلى إنجاز “عام” أهم، غير أن ألمانيا ليست سوى حلقة إضافية من حلقات تقدم اليمين المتطرّف في أوروبا، ناهيك من نهل بعض اليمين الوسط المعتدل من سرديات اليمين المتطرّف وبرامجه.

 

“البديل” في ألمانيا: هلع من عودة النازية:

كشفت نتائج الانتخابات التي أُجريت في ولايتي تورينعن وسكسونيا  في ألمانيا في الأول من سبتمبر 2024 عما كان متوقّعا رغم المفاجأة. تقدمت تيارات اليمين المتطرّف، وفي مقدمتهم حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AFD) في ظاهرة اعتبرتها بعض الصحافة في أوروبا بأنها “اجتياح للنازيين الجدد في ألمانيا”. ولا يمكن الاستخفاف في ألمانيا بهذه الأوصاف بسبب ماضيها النازي وحساسيتها من أي تطوّر يوحي بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.

لا يجد الباحثون أي سمات خطورة على ديمقراطية ألمانيا وانتمائها إلى قيمّ الحريات والتعدد وحقوق الإنسان، ولا يتخوفون من أي حنين في ألمانيا إلى النازية التقليدية القديمة. غير أن تنامي ظواهر الجهر بالرموز النازية بشكل موازٍ لصعود تشكّلات يمينية متطرّفة تعمل وفق قوانين الدولة وُمثُلها، يقود إلى فهم حالة الغضب والاستنكار جراء التقدم الذي حققته هذه المدارس الأيديولوجية المتطرفة في الولايتين شرق ألمانيا. 

ورغم توسّع حضور اليمين المتطرّف في عدد من بلدان الاتحاد الأوروبي، غير أن خبراء أوروبيين استنتجوا من تقدم اليمين المتطرّف في ألمانيا حالة يجب التوقف عندها على نحو مختلف عن حالات في إيطاليا، أو هنغاريا أو فرنسا أو السويد. يذهب هؤلاء إلى استنتاج مقلق مفاده أن الظاهرة تكشف أن ألمانيا قد تتحوّل إلى “رجل أوروبا المريض”. ولئن قد يشكّل الأمر خطرا على وحدة البلاد واستقرارها من جهة، فهو خطر قابل للنيل من مستقبل الاتحاد الأوروبي الذي تُعتبر ألمانيا ركنه المركزي الأقوى.

تتحدث تقديرات في ألمانيا بأن صعوب “حزب البديل” قد لا يتوقف على الانتخابات في هاتين الولايتين، بل قد يتمدد هذا الانتصار صوب الانتخابات العامة على مستوى البلد برمته، أي انتخابات البوندستاغ في عام 2025. وتقوم هذا التقديرات على استطلاعات رأي أشارت إلى أن “حزب البديل من أجل ألمانيا” يحتل المرتبة الثانية على لائحة القوى السياسية بنسبة 16-19 بالمئة خلف حزب “الاتحاد المسيحي الديمقراطي” الذي يحظى بنسبة 31-34 بالمئة. ويعوّل خصوم اليمين المتطرّف على “صحوة” أحدثتها الانتخابات الفرعية الأخيرة قد تسبب ردّ فعل مضاد، على الطريقة الفرنسية، لمنع “الاختراق” الفرعي لليمين المتطرًف من أن يتحوّل إلى ظاهرة عابرة للولايات في انتخابات العام المقبل.

 

•التجربة الإيطالية: اليمن المتطرّف البراغماتي

تتبع ألمانيا مسارا في صعود اليمين المتطرّف عرفته دول أوروبية مثل هولندا، وإيطاليا، وفرنسا، والسويد. وقد جاءت التجربة الإيطالية التي أوصلت، في اكتوبر 2022، حزب “أخوة إيطاليا” (Fratelli d’Italia)، بزعامة جورجيا ميلوني، لتضيف نموذجا جديدا إلى “عادية” وصول اليمين المتطرّف بنسخ متعدّدة إلى السلطة في أوروبا. فقد تحوّل خطاب ميلوني الانتخابي والمعارض، الذي وُصف بالتطرّف والشعبوية، إلى “خطاب دولة” يحترم أصول الحكم وقواعد العلاقات الدولية، لا سيما داخل الاتحاد الأوروبي.

غير أن التخوّف من “التجربة الإيطالية” يكمن، أيضا (في تحليل ما نتج عن انتخابات ولايتين في ألمانيا) بأن شريك ميلوني وحزبها في الحكومة هو حزب “الرابطة” (Lega)، بزعامة اليميني الشعبوي المتطرّف ماتيو سالفيني. فقد تحوّل الحزب من قوة “فرعية” في شمال إيطاليا على غرار قوة “حزب البديل” في شرق ألمانيا، قبل أن يتمدد ليصبح قوة تفرض نفسها على حكومات متعدّدة في إيطاليا. ناهيك من أن حزب “الرابطة” الإيطالي يسيطر على مناطق عديدة في البلاد (فينيتو، ولومباردي، وفريولي وأومبريا).

يخشى المراقبون في ألمانيا من عدوى الرشاقة والبراغماتية التي انتهجها حزب “الرابطة” في إيطاليا والتي يمكن أن تكون الآلية التي سيعتمدها “حزب البديل” في ألمانيا. يسرد الخبراء تجارب تحالفَ فيها “الرابطة” مع حزب “فورزا إيطاليا” (Forza Italia)، بزعامة سيلفيو برلسكوني، المسيحي الديمقراطي من جهة، وشراكته في تجارب حكومية أخرى مع “حركة النجوم الخمسة” (MoVimento 5 Stelle) اليسارية. ويرجّح بعض الباحثين إمكانية عقد تحالفات مماثلة في ألمانيا تجمع “حزب البديل” اليميني المتطرّف مع “تحالف سارة فاغنكنيشت” اليساري الذي تأسّس حديثًا في يناير 2024، وأصبح ثالث أكبر قوة في كلتا الولايتين الفيدراليتين اللتين جرت فيهما الانتخابات الأخيرة.

تؤسّس هذه التجارب للتطبيع مع عادية غياب الموانع ما بين العائلات السياسية بحيث يتخلّص اليمين المتطرّف من “العزل” الذي اتّسمت به علاقة بقية القوى السياسية به. هذا يعني أن اليمين المتطرّف بات رقما صعبا لا يمكن تجاوزه وأن عملية تسيير أمور البلدان المعنيّة باتت تتطلّب الاعتراف بواقع يجب التعامل معه. وإذا ما تسرد تجربة الـ “Lega ” في إيطاليا شراكة مع اليمين المسيحي واليسار الشعبوي، وتوحي بعض الترجيحات إمكانات هذا “الزواج” في ألمانيا، فإن تجربة النمسا هي واقع في هذا الصدد من خلال ائتلاف يجمع حزب “الحرية” اليميني المتطرّف (FPÖ) مع الاشتراكيين في الثمانينات. وائتلاف في حكومات مختلفة جمعته منذ عام 2000 مع المسيحيين الديمقراطيين. وإذا ما بدأ “الحرية” حزبا “فرعيا” تمدد نحو السلطة في فيينا، فإنه بات جزءا من حكومات ولايات، وتضعه استطلاعات الرأي الخاصة بالانتخابات البرلمانية الوطنية التي ستجرى في نهاية سبتمبر 2024 في المرتبة الأولى بنسبة 27-31 بالمئة متقدما على الحزب المسيحي الديمقراطي الذي وضعته نفس الاستطلاعات في المرتبة الثانية.

 

فرنسا تسقط المحرّم: اليمين المتطرّف حاكم الظل

تعتبر الحالة الفرنسية في مسألة “تسامح” القوى السياسية مع ظاهرة اليمين المتطرّف نموذجا ما زال خارجا عن هذا “المألوف” في إيطاليا والنمسا ودول أخرى والذي يمكن أن يتمدد باتجاه ألمانيا. فعلى الرغم من الصعود المثابر لحزب “التجمع الوطني” (Rassemblement National)، بزعامة مارين لوبن في الانتخابات التشريعية والأوروبية والرئاسية، وتثبيت نفسه قوة أساسية كبرى في البلاد، إلا أن “الكتلة الجمهورية”، أي سلسلة الأحزاب اليسارية واليمينية والوسط، ما زالت تحرّم التعامل مع نهج لوبن، الأبنة بعد الأب (جان ماري)، وتسقط عضوية أي انشقاق في هذا الاتجاه.

وقد شهدت فرنسا تجارب لافتة وقفت فيها “الكتلة الجمهورية”، من اليمين واليسار، ومن الديغوليين إلى الشيوعيين مرورا بالاشتراكيين، سدّا واحدا ضد احتمال وصول مرشح اليمين المتطرّف إلى منصب رئاسة الجمهورية. جرى ذلك لصالح جاك شيراك عام 2002 ضد زعيم اليمين المتطرّف آنذاك، جان ماري لوبن. وجرى لصالح الرئيس الحالي، إيمانويل ماكرون، مرتين، في عامي 2017 و 2022، ضد مارين لوبن. وعرفت فرنسا في الانتخابات التشريعية الأخيرة، التي جرت دورتها الثانية في 7 يوليو 2024، تجربة مماثلة حين أسقط هذا “السدّ” احتمال سيطرة حزب لوبن على “الجمعية الوطنية” (البرلمان)، وأجبره على التراجع إلى المرتبة الثالثة مقابل تقدم اليسار وقوى اليمين الوسط نتائج الانتخابات.

غير أن الظروف السياسية الحالية في فرنسا قد تعجّل في إسقاط المحرّم وإدخال اليمين المتطرّف الفرنسي داخل ائتلاف حكومي جديد. فقد عيّن الرئيس الفرنسي، الديغولي ميشال بارنييه لتشكيل الحكومة الجديدة رافضا بذلك تعيين مرشّح يمثّل تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة” اليساري الذي تصدّر نتائج الانتخابات من دون أن يحصل على أغلبية مطلقة تمكنه من تشكيل الحكومة منفردا.

وفق هذا الواقع، وإثر إعلان زعماء القوى اليسارية المؤتلفة عدم مشاركتهم في حكومة بارنييه، فإن تكتل اليمين المتطرّف الذي يقوده حزب “التجمع الوطني” والذي حلّ ثالثا في الانتخابات، بات القوة التي يتوقف عليها استقرار الحكومة العتيدة، ويتقرر وفقها أمر حصول الحكومة على الثقة في البرلمان، وتحدد مصير الحكومة ومشاريع قوانينها في كل تصويت.

وفي ظل مداولات تشكيل الحكومة، وفي ظل أنباء عن رفض الرئيس الفرنسي تعيين ديغولي آخر (كزافييه برتران) كان تمّ تداول اسمه للمنصب بسبب “فيتو” وضعته لوبن، فإنه من غير الواضح ما إذا كان بالإمكان تشكيل حكومة لا يشارك بها اليمين المتطرّف لكن لا يسقطها تكتل لوبن، أو أن الأمر يتطلب أن يكون حزبها شريكا في هذه الحكومة. وسواء حصل ذلك أم لم يحصل، فإن فرنسا، شأن تجارب أوروبية أخرى، تسير على خطى التطبيع الكلي مع اليمين المتطرّف وجعل إمكانية عبوره إلى الحكم أكثر سلاسة وقبولا، وربما تجدّ لذلك المخارج الأيديولوجية المناسبة.

 

•خلاصة واستنتاجات

**لم تعد ظاهرة اليمين المتطرّف خارجة عن المألوف وعاديات العمل السياسي في أوروبا. لكن الجديد أن أحزاب اليمين المتطرّف والتيارات الشعبوية التي تفرضها صناديق الاقتراع باتت رقماً صعبا يفرض نفسه لتشكيل الحكومات.

**رغم أن فوز حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف قد تحقّق في انتخابات فرعية اقتصرت على ولايتين فقط، غير أن الظاهرة قد تأخذ أحجاما أوسع في الانتخابات العامة عام 2025.

**تعد تجربة حزب “الرابطة” اليميني المتطرّف في إيطاليا لجهة المشاركة في حكومات مع اليمين المسيحي واليسار الشعبوي نموذجا ليراغماتية الطبقة السياسية في استيعاب اليمين المتطرّف في حكومات البلد، وهو نموذج له أمثاله في أوروبا وقد يتمدد على حالات جديدة.

**تعتبر تجربة جورجيا ميلوني على رأس حكومة إيطاليا نموذجا لتطوّر خطاب اليمين المتطرّف في الحكم عن خطاب المعارضة، لجهة احترام أصول الحكم، والتقيّد بقواعد العلاقات الدولية وشروطها.

**أزمة الحكم التي يتمّ الحديث عنها في فرنسا حوّلت اليمين المتطرّف، لأول مرة في تاريخ البلاد، إلى قوة قد تحدد مصير حكومة البلاد المقبلة ومسارها، ما سيعني السيّر نحو إسقاط محرّم تاريخي برفض التعامل معه والاعتراف بواقعه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.