سجال نادر بين بيروت وطهران: كيف تتحرك واشنطن لإنهاء الحرب في لبنان؟
د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات
ورقة سياسات.
• ملخص تنفيذي
– تفرج الولايات المتحدة عن بداية تحرك سياسي باتجاه لبنان من أجل إيجاد مخارج سياسية،تشمل إعادة تشكيل السلطة في لبنان، وتهيئة الدولة في بيروت من أجل تنفيذ قرار مجلس الأمنرقم 1701.
– تشمل الضغوط الأميركية نشر الجيش اللبناني وسيطرة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية.
– تشترط التدابير السياسية انتخاب رئيس جديد للجمهورية، بما يتيح تشكيل حكومة جديدة كاملةالصلاحيات لقيادة المرحلة المقبلة.
– تحمّل الضغوط الأميركية بشكل علني رئيس مجلس النواب، حليف حزب الله، نبيه بري مسؤوليةتعطيل عملية انتخاب رئيس.
– أظهرت الحكومة اللبنانية، وفق تحوّلات داخلية سببتها الحرب وخارجية تعبّر عنها واشنطن عنأعراض تصلب في مواجهة الضغوط الإيرانية ما فجّر سجالا غير مسبوق بين بيروت وطهران.
• تقديم:
بدأت الولايات المتحدة تفرج عن خطة سياسية تواكب الحرب الإسرائيلية ضد لبنان بعد أن كانلافتاً غياب أي مبادرات دبلوماسية مباشرة من قبل العواصم الكبرى، لا سيما تلك القريبة والبعيدةوالمعنيّة بالشأن اللبناني. وقد فُهم هذا الصمت بأنه مطلوب بانتظار أن تغير العمليات العسكريةالإسرائيلية موازين القوى الداخلية والأمر الواقع الذي تفرضه إيران وحزب الله على القرارالحكومي الرسمي.
والواضح أن واشنطن وعواصم أخرى بدأوا يطلقون مواقف تعبّر عن مزاج جديد لتغيير الوضع فيلبنان. ولا يشمل الأمر، حسب المعطيات، معالجة الحرب في جنوب لبنان فقط، بل إعادة تأهيلالبلد، سواء في انتخاب رئيس للجمهورية أم بإعادة تشكّل السلطة في لبنان. ويُظهر السجالالمستجد بين بيروت وطهران السمات الأولى للتحوّلات المطلّة على لبنان.
• حراك واشنطن: مواجهة طهران في بيروت
يعبّر المبعوث الرئاسي الأميركي، عاموس هوكشتاين، بوضوح عن بدء التحرّك الأميركي من خلالالإيحاء بما هو مطلوب من لبنان. كما أن إعلانه، في 18 اكتوبر 2024، عن أنه سيزور لبنانالأسبوع المقبل، يعني أن واشنطن أعطت الضوء الأخضر لاستئناف وساطة بين لبنان وإسرائيلبعد فشل نفس المبعوث في وساطات سابقة.
وكانت تلك الوساطات تستند على مطلب تنفيذ القرار الأممي رقم 1701، بما في ذلك انسحابقوات حزب الله لمسافة وسطية، أقل مما يطلبه القرار قيل إنها لمسافة 10-15 كيلومترا.
وكانت بيروت قد أصدرت استجابة لجهود هوكشتاين السابقة مواقف مؤيدة لتنفيذ القرار، لكنهااشترطت، تحت ضغط حزب الله، أن يجري ذلك بعد وقف إطلاق النار وليس قبله، وأن يتمّ وقفإطلاق النار من لبنان متزامنا مع وقف إطلاق النار في قطاع غزّة.
وقد باشرت واشنطن إرسالات إشارات، غابت خلال الأسابيع الماضية، تعرض خرائط طريقللخروج من مأزق الحرب الراهنة ضد لبنان. وتأتي المواقف الأميركية بشأن لبنان لاحقة علىزيارتين قام بهما، تباعاً، في 4 و 12 اكتوبر 2024، إلى بيروت كل من وزير الخارجية الإيراني،عباس عراقجي، ورئيس مجلس الشورى الإسلامي الإيراني، محمد باقر قاليباف. تخلّل هذهالزيارات مواقف تحدد للبنان وحزب الله شروط وإملاءات أي وقف لإطلاق النار، حسب وصفمراقبين.
• خريطة الطريق الأميركية:
استبق المبعوث الأميركي، عاموس هوكشتاين، زيارته إلى لبنان بالكشف عن أفكار أميركيةواضحة تحدّث عنها في مقابلة مع قناة تلفزيونية محلية لبنانية. وقد قدم هوكشتاين رؤيتة وفقالعناوين التالية:
1– تعمل الولايات المتحدة على خطّة لوضع حدّ للنزاع في لبنان بشكل نهائي، “ليس فقط من أجلالسلم، بل أيضًا من أجل الازدهار “.
2– تشجيع الدّولة اللّبنانيّة على أن تكون مسؤولةً عن كامل الأراضي اللبنانية واستعادة الدولةلسيادتها بشكل تام.
3–العمل على نشر الجيش اللبناني في الجنوب، لضمان سلامة الحدود برمّتها. و “تحقيق الأمانوالسّلام في كل لبنان وتشكيل حكومة وانتخاب رئيس جديد لإعادة البلد إلى درب الازدهار“.
4– العزم على إجراء المزيد من المحادثات مع السّياسيين اللّبنانيّين، “لإرساء الشّروط لوضع حدّلهذه المأساة“.
5–عدم ربط حلّ النزاع في لبنان بالانتخابات الرّئاسيّة الأميركيّة أو بتطوّرات موقف إيران أوالنزاعات في دول أخرى.
6–الدعوة إلى “السّير في طريق مختلف، حيث يمكن للبنان الحفاظ على أمنه مع الوعد بتقديم كلالدعم له“.
7– اعتبار أن عدم تطبيق القرار 1701 منذ عام 2006، يفرض “أن تكون هناك إضافات أوتعديلات للقرار، للتأكد من تطبيقه“.
8– التأكيد، بلهجة حازمة، أنّه “حان الوقت لانتخاب رئيس للجمهوريّة في لبنان، ورئيس مجلسالنّواب نبيه بري مسؤول عن هذه العمليّة ضمن البرلمان“.
9–التنبيه إلى أنه “على الشّعب اللّبناني أن يقرّر ما إذا كان قائد الجيش هو المرشّح الأنسبللرّئاسة“.
• الكونغرس الأميركي: عين على بري
تكشف العناوين، التي تقصّد المبعوث الأميركي إرسالها إلى الطبقة السياسية والرأي العاماللبنانيين، عن ضغوط مباشرة على رئيس مجلس النواب اللبناني، زعيم حركة أمل، نبيه بري،شريك حزب الله فيما يعرف بتحالف “الثنائي الشيعي“، وتحميله مسؤولية تعطيل دعوة البرلماناللبناني لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. وتأتي رسائل هوكشتاين معطوفة على مواقف كشفتهاالرسالة التي وجهها عضوا الكونغرس الأميركي من أصل لبناني، دارين لحود وداريل عيسى، إلىالرئيس الأميركي جو بايدن.
وتدعو الرسالة التي أودعت نسخة عنها لدى وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى المبادئوالسياسات التالية:
1–الدعوة للضغط من أجل انتخاب رئيس للجمهورية. وتحمّل الرسالة برّي مباشرة، مسؤولية عرقلةانتخاب رئيس الجمهورية واعتباره “عقبة رئيسية أمام فتح البرلمان“. وطلب فرض عقوبات علىالمعرقلين بما قد يعد تهديدا مبطنا بفرض عقوبات على رئيس المجلس نفسه.
2– تعتبر الرسالة أن انتخاب رئيس ليس مسألة هامشية في الصراع الحالي، بل هو أمر جوهريلمستقبل لبنان. وتقول إنه “من دون مؤسستي رئاسة وحكومة تعملان بكامل طاقتهما، فإن الشعباللبناني يُحرم من صوت وطني يملك هيكلًا قياديًا واقعيًا للتفاوض حول جهود السلام على الحدودالجنوبية“.
3–تدعو الرسالة إلى الاستفادة من الظرف الراهن، أي الحرب المستمرة بين حزب الله وإسرائيل،التي جعلت، حسب الرسالة، “حزب الله ضعيفا بشكل كبير نتيجة استهداف عناصره وقيادته. ماأدى إلى تراجع سيطرته على لبنان، واستمراره في فقدان القادة والمقاتلين والبنية التحتية والتمويلوالنفوذ“.
4–يطالب عضوا الكونغرس، الإدارة الأميركية باتباع “نهج أقوى” في التعاطي، واستخدام ثقلهاالدبلوماسي لدفع هذه الإصلاحات قدمًا، بما في ذلك من خلال مجموعة الدول الخمس (Quint)،أي الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا.
5– تطالب الرسالة أن تكون الولايات المتحدة مستعدة “لاستخدام جميع الأدوات التي نمتلكهالمراجعة وتجميد الأصول، بما في ذلك الأصول المقومة بالدولار وأصول أخرى داخل الولاياتالمتحدة، لأولئك الذين يستمرون في عرقلة العملية الانتخابية“.
6–اعتبرت الرسالة أن “الدعم المستمر من قبل الولايات المتحدة لشعب لبنان من خلال المساعداتالإنسانية، وبرامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، ودعم القوات المسلحة اللبنانية،يظل حاسمًا لضمان مستقبل لبنان المستقر والمزدهر والمستقل“.
7–أخطر ما في الرسالة تأييدها لحرب إسرائيل على لبنان واستهداف المدنيين، على أساس أنهامن وجهة نظر عضوي الكونغرس “تحارب وكلاء الإرهاب الإيرانيين، حماس وحزب الله“.
• بيروت في مواجهة طهران
تأتي هذه التطوّرات الصادرة عن واشنطن لتفسّر ما سُجل من تحوّلات في الموقف الرسمياللبناني الذي عبّر عنه رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاني، بالتشاور والتنسيق معرئيس مجلس النواب، نبيه بري. فقد ظهر تعارض في المواقف بين بيروت من جهة وطهران وحزبالله وحلفائهما من جهة ثانية وفق النقاط التالية:
1–وافقت كافة الأطراف (بيروت وطهران) على دعم جهود وقف إطلاق. غير أن وزير الخارجيةالإيراني شدد من بيروت على ضرورة تزامن وقف إطلاق النار في لبنان مع وقف إطلاق النار فيغزّة. ما تعارض مع خيار فصل الجبهتين في القرارات التي أعلن عنها ميقاتي.
2–فيما أعلن ميقاتي احترام لبنان للقرار 1701، ربط الوزير الإيراني في بيروت أي اجراءاتبموافقة “المقاومة“، أي حزب الله، ما يعني أن مصير القرار الدولي يُراد له أن يكون خاضعالأجندة الحزب وليس لقرار الدولة اللبنانية.
3–مقابل الحديث عن أن القرار 1701 يشمل تنفيذا للقرار 1559، الصادر عام 2004، الذي يطالببنزع سلاح الميليشيات في لبنان، أعلن بري أن القرار بات من الماضي، بما يعني رفض مبدأاحتكار الدولة للسلاح في لبنان.
4–مقابل الحديث عن انتخاب رئيس للجمهورية، خرج نائب الأمين العام للحزب، الشيخ نعيم قاسم،في 15 اكتوبر 2024، بموقف يرفض فيه الحزب تناول “أمور أخرى” (انتخاب رئيس) قبل وقفإطلاق النار، مستفيداً من مواقف وزير الخارجية الإيراني ثم رئيس مجلس الشورى الإيراني فيبيروت في دعم استمرار حزب الله في وضع “فيتو” على قرارات الدولة اللبنانية.
ويعبّر موقف ميقاتي مما صدر عن طهران تحوّلا في التعبير عن موقف لبنان الرسمي مستفيدا مندعم دولي أميركي يتمّ التعبير عنه تباعا.
وكان لافتا أن ميقاتي أصدر بيانا شديد اللهجة انتقد فيه تصريحات أدلى بها قاليباف في مقابلةمع جريدة الفيغارو الفرنسية في 17 اكتوبر 2024، قال فيها، “نعتقد أن إيران ستكون مستعدةللتفاوض بشكل ملموس حول إجراءات تنفيذ القرار 1701 مع فرنسا، التي ستعمل كدولة وسيطبين الحزب وإسرائيل“.
وقد صدر، في 18 اكتوبر 2024 بيان عن مكتب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي تمحوّر حول النقاطالتالية:
1–استغراب موقف قاليباف الذي يشكل تدخلاً فاضحاً في الشأن اللبناني.
2–انتقاد موقف يحاول تكريس وصاية مرفوضة على لبنان.
3–التذكير بأن لبنان كان أبلغ وزير خارجية إيران ورئيس مجلس الشورى خلال زيارتيهما إلىلبنان، بضرورة تفهّم الوضع اللبناني، خصوصاً وأن لبنان يتعرض لعدوان اسرائيلي غير مسبوق.
4–التذكير بأن لبنان يعمل مع جميع أصدقائه، ومنهم فرنسا، للضغط على إسرائيل لوقف اطلاقالنار.
5–التأكيد أن “موضوع التفاوض لتطبيق القرار الأممي رقم 1701 تتولاه الدولة اللبنانية، ومطلوبمن الجميع دعمها في هذا التوجه.
6–رفض السعي لفرض وصايات جديدة “مرفوضة بكل الاعتبارات الوطنية والسيادية“.
خلاصة واستنتاجات:
**تحركت الحكومة اللبنانية بشخص رئيسها، نجيب ميقاتي، لاستنكار مواقف صدرت عن طهراناعتبرت انتهاكا للسيادة اللبنانية وتدخلا في شؤونه ورفضا لمحاولات فرض السيادة عليه.
**كثّفت إيران من رسائلها إلى المجتمع الدولي التي تؤكد إمساكها بقرار السلم والحرب فيلبنان، وسعيها لسحب البساط من تحت محاولات بيروت اتّخاذ إجراءات لإنهاء الحرب.
**ظهرت بداية تحرّك أميركي من شأنه تعزيز موقف بيروت من خلال طرح أفكار ومطالب وشروطوخريطة طريق لإنهاء الحرب. وأعلن عن إعادة واشنطن إرسال مبعوثها وتفعيل وساطة لهذا الهدف.
**تعبّر التحوّلات الصادرة عن حكومة بيروت والتحرّك الذي بدأته واشنطن عن بدء الدبلوماسيةالغائبة بالتحرّك بمواكبة الحرب وليس انتظارا لانتهائها.
**سجال بيروت وطهران وتحرّك واشنطن لا يخفيان واقع أن إنهاء الحرب في لبنان مرتبط عضويابإنهاء الحرب في غزّة.