رغم تقدمه للفوز في الانتخابات البرلمانية:

حزب العمال البريطاني يفقد جوهره الديمقراطي الاجتماعي

عن الإنجليزية، حمزة علي، مركز تقدم للسياسات
مقدمة:

فيما يعرف بيسار الوسط في السياسة البريطانية، يجتهد زعيم حزب العمال الحالي كير ستارمر في أن يُظهر للناخبين أن حزب العمال جاهز لتولي الحكم في انتخابات يوليو المقبل. فالرجل الباهت وبلا مواهب قيادية تولى القيادة في العام 2020. تعهد باستعادة الناخبين الذين اداروا ظهرهم للحزب في عهد كوربين وضبط الوضع التنظيمي والسياسي الداخلي. ومنذ ذلك الحين، جعل مهمته المركزية، تشكيل صورة جديدة للحزب وتحويله إلى اليمين بكل ما اوتي من قوة، ظنا منه انها فرصته التاريخية لاستغلال الازمة الداخلية التي تعصف بحزب المحافظين بقيادة ريشي سوناك الرجل الملون ومن أصول هندية.
خلال الأسبوع الماضي، انخرط حزب العمال فيما أسمته صحيفة فاينانشال تايمز “بالتطهير” داخل الحزب. وقد شمل ذلك منع العديد من المرشحين اليساريين من الترشح للانتخابات البرلمانية وحجز مجموعة مختارة من المقاعد الآمنة للموالين.
يمكن رصد عدد من الإجراءات التي اتخذتها قيادة حزب العمال لتعزيز التحول نحو اليمين:
• مُنعت النائبة المخضرمة ديانا أبوت، اليسارية المخضرمة من الترشح على قوائم حزب العمال في الانتخابات المقبلة. تم إيقافها عن العمل في أبريل الماضي بسبب رسالة كتبتها لصحيفة الاوبزيرفر، أشارت فيها إلى أن الشعب اليهودي لا يواجه نفس العنصرية التي تواجهها بعض الأقليات الأخرى. وعلى الرغم من اعتذارها وانتهاء التحقيق معها في ديسمبر/كانون الأول، إلا أن كير ستارمر أصر على منعها من الترشح في دائرتها الانتخابية، هاكني نورث وستوك نيوينجتون، حيث ظلت نائبة في البرلمان عن تلك الدائرة لنحو 37 عامًا. ولكن بعد ضجة من الناشطين ووسائل الإعلام وقاعدتها الشعبية، تم التأكيد يوم الثلاثاء 4 مايو على أنه سيتم السماح لأبوت بالعودة والترشح عن حزب العمال. وقال مراقبون إن قيادة الحزب اضطرت إلى اتخاذ منعطف محرج، فتهميشها واستبعادها كان واضحا.
• أبلغت اللجنة التنفيذية الوطنية للحزب فايزة شاهين، الخبيرة الاقتصادية اليسارية والناشطة في مجال عدم المساواة بأنها لن تكون بعد الآن مرشحة الحزب في مناطق تشينغفورد وودفورد غرين، وهو المقعد الذي يشغله حاليا زعيم المحافظين السابق إيان دنكن سميث. وكان أحد الأسباب استبعادها هو إعجابها بتغريدة قبل عدة سنوات تشير إلى “اللوبي الإسرائيلي” الذي يؤثر على سياسة المملكة المتحدة.
• بين عشية وضحاها، أعلن الحزب عن جولة جديدة من الاختيارات لأعضاء البرلمان الذين سيسمح لهم بالترشح للبرلمان. وكان من بينهم جوش سيمونز، مدير مركز أبحاث مقرب من قيادة الحزب، ولوك أكيهرست، العضو المؤثر في اللجنة التنفيذية الوطنية لحزب العمال ومدير “نحن نؤمن بإسرائيل”، وهي مجموعة ضغط مؤيدة لإسرائيل. عمل أكيهرست سابقًا في شركة BICOM وصناعة الأسلحة.
• ذكرت الحركة الشعبية التي تشكلت خلال فترة قيادة كوربين أن الاستبعاد غير الرسمي لبعض مرشحي الحزب للبرلمان من اليساريين وإدخال أفراد يميلون إلى اليمين يرقى إلى مستوى التطهير. يأتي ذلك في أعقاب الإعلان بأن الزعيم السابق جيريمي كوربين لن يخوض الانتخابات المقبلة تحت راية حزب العمال وسيترشح كمستقل.
• يشير مراقبون إلى أن هذه الإجراءات ترسل إشارة واضحة حول طبيعة قيادة كير ستارمر إذا أصبح رئيسًا للوزراء ونوع السياسات التي سيتبناها. ومن الجدير بالذكر بشكل خاص تأثير مجموعة الضغط المؤيدة لإسرائيل داخل الحزب، واستبعاد او التحريض على الذين انتقدوا إسرائيل علنًا خلال حرب الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة.
• يأتي هذا التطور في ظل تردد الحزب في الدعوة إلى وقف إطلاق النار ورفض دعم حظر بيع الأسلحة لإسرائيل، وبالتالي إرسال رسالة سياسية إلى الناخبين. ويبدو أنها محاولة لاجتذاب الناخبين ذوي الميول اليمينية الساخطين على السياسات التي انتهجتها حكومة المحافظين في الأعوام الأخيرة.
• يتماشى مع المسار السياسي الذي تم توجيهه نحو تفكيك التوجه والسياسات اليسارية التي سلكها كوربين اثناء قيادته للحزب. فقد شطب ستارمر جميع سياساته وتعهداته التقدمية، مثل مشروع إلغاء الرسوم الدراسية الجامعية، وزيادة ضريبة الدخل على أعلى 5% من أصحاب الدخل، واستعادة الملكية العامة للدولة للسكك الحديدية والبريد والمياه والطاقة. لدى حزب العمال “قاعدة المصداقية المالية” التي تلزم الحزب بإغلاق العجز في الإنفاق الجاري خلال فترة ولايته الأولى في المنصب.
• ولتحقيق اغلاق العجز المالي من خلال الحفاظ على مستويات الإنفاق الحالية ــ أو حتى زيادتها ــ إلى جانب الزيادات الضريبية الكبيرة، بعد ان تعهد حزب العمال بعدم رفع الضرائب، ولن يفرض أخرى جديدة على الثروة.
• تخلى ستارمر أيضاً عن وعد بإنفاق 28 مليار جنيه استرليني سنوياً في الاستثمار الأخضر، وقام بإعادة النظر في سياسة رئيسية لتحسين حقوق العمال.
• انتقل من الوعد بحماية حرية الحركة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى الإصرار على أن حكومة حزب العمال لن تقبل حتى بالعودة إلى الاتحاد الجمركي.
في خلاصة تقديرات المحللين إنه لم يعد الكثير من الفوارق بين برنامج الحزبين الرئيسيين. ومن المفارقات ان قادة حزب العمال يعتقدون ان الاقتراب من ثوابت حزب المحافظين في السياسات الاجتماعية والاقتصادية من شأنها ان تخدم العمال انتخابيا. إذ تشير معظم استطلاعات الرأي إلى أن حزب العمال يتقدم بمتوسط 20% على المحافظين، حتى أن بعض استطلاعات الرأي تشير إلى أن حزب العمال قد يكون في طريقه نحو فوز ساحق على غرار ما حدث عام 1997 بأغلبية ساحقة.
مع ذلك، هناك بعض الجوانب التي يمكن ان تؤثر على الانتخابات. من المتوقع أن تلعب الإبادة الجماعية الجارية في غزة دوراً حاسماً في توجيه قطاعات من الناخبين. وقد دعم كل من حزب العمال والمحافظين إسرائيل دون قيد أو شرط طوال فترة حربها على غزة، على الرغم من أن قسماً كبيراً من الرأي العام البريطاني يؤيد وقف إطلاق النار وتعليق مبيعات الأسلحة لإسرائيل. ونتيجة لذلك، سيقف العديد من المرشحين المستقلين ضد حزب العمال، من أجل توجيه رسالة مفادها أنه يجب معاقبة حزب العمال بسبب دعمه للإبادة الجماعية ورفضه دعم وقف إطلاق النار في وقت مبكر. كشفت صحيفة الإيكونوميست أن الموقع الإلكتروني لاستراتيجية الانتخابات لحزب العمال يعمل على تحويل النشطاء إلى دوائر انتخابية يعتبرها حزب العمال مهمة حقًا ومعرضة للخطر، على الرغم من حصولهم عليها بأغلبية تزيد عن 25٪ في عام 2019. والعديد من هذه الدوائر يقطنها نسبة مهمة من الاثنيات الهندية أو الباكستانية أو البنغالية المسلمة، يشكلون ما يقرب من 30% من سكانها. وهذا يوفر مؤشرا على قوة الاستياء من حزب العمال لدى العديد من الجاليات المسلمة.
في الانتخابات المحلية الأخيرة، أظهر تحليل أجرته قناة سكاي نيوز أن المناطق التي يزيد عدد سكانها عن 20% من المسلمين شهدت خسارة حزب العمال 17.9 نقطة مئوية من حصته من الأصوات. وهذه اللامبالاة والإحباط، ليس فقط فيما يتعلق بغزة، بل وأيضاً فيما يتعلق بالسياسات العامة للحزبين الرئيسيين. التقديرات تشير الى المستفيد الأكبر من تخلي العمال عن جوهر برنامجهم الديمقراطي الاجتماعي سيكون حزب الخضر الذين انتقل تركيزهم في الأعوام الأخيرة من الجوانب المتعلقة بالبيئة والمناخ الى قضايا تتعلق بأفكار الديمقراطية الاجتماعية والعدالة والسوق الاجتماعي وبهذا يتقدمون ببطء لسحب بعض القاعدة الانتخابية لحزب العمال خاصة في أوساط الشباب. فبعد أن حقق حزب الخضر أفضل نتائجه منذ فترة طويلة خلال الانتخابات المحلية الأخيرة وحقق عدداً غير مسبوق من أعضاء المجالس، يحصل حزب الخضر الآن على نسبة تأييد تبلغ نحو 10% على المستوى الوطني. لكن هذا التقدم لا يضعهم النظام الانتخابي في المملكة المتحدة في وضع يغير من حالة الاستقطاب التاريخي بين الحزبين الرئيسيين. على الرغم من أن خبراء الانتخابات يتوقعون ان يصبح حزب الخضر خيارًا جيدًا للتصويت للعديد من الناس: أنصار البيئة، والتقدميون، والمسلمون، والناخبون المحتجين، والأفراد الذين يعانون من الضائقة الاقتصادية.
الخلاصة:
– يحقق حزب العمال نتائج قوية في استطلاعات الرأي ويبدو اقترابه من احتلال موقع حزب المحافظين في الحكم بعد 14 عامًا من الانتظار.
– توجه حزب العمال بقيادته الحالية إلى يمين الوسط والتغيير في أيديولوجيته الديمقراطية الاجتماعية، تماما كما حصل مع توني بلير عام 1997، يشير إلى الكيفية التي سيحكم بها الحزب ويشير إلى أن ما فشل به حزب المحافظين في محاولات انقاذ البلاد من أزمتها لن يتمكن حزب العمال من حلها.
– لكن الثابت بعد التحولات التي تجري في الحزب والتي ترقى إلى مستوى التخريب الذاتي، ستفضي بحزب العمال الى التراجع وفقدان شعبيته في أوساط الشباب وشريحة كبيرة من الناخبين الذين سيرحلون تدريجيا للبحث عن تمثيلهم السياسي في مكان آخر بعد ان فقدت أحزاب الديمقراطية الاجتماعية من جوهرها التقدمي ليس في بريطانيا وحدها بل وفي القارة الأوروبية أيضا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.