رسالة أوجلان: العوامل وتداعياتها على أكراد سوريا
ورقة سياسات
د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات
ملخص تنفيذي:
– ظروف تركية داخلية وأخرى تتعلق بأجنداتها الجيوستراتيجية أملت تشجيعا ودفعا لحلّ جديد للمسألة الكردية.
– تحوّلات تاريخية وإقليمية ودولية، معطوفة على “صفقة” ما زالت مجهولة مع أنقرة، تفسّر رسالة أوجلان.
– جدّية الأسباب التركية دفعت أنقرة لتوجيه إنذار غير مسبوق ضد إيران لوقف دعم “قسد” في سوريا.
– تعمل “قسد” إلى النأي بنفسها عن رسالة أوجلان، وتعلن التمسك بالسلاح وسرديتها الخاصة للصراع في سوريا.
– الخلفية الايديولوجية لرسالة أوجلان وسقوط سلاح الـ PKK يضعف أوراق “قسد”، ويقوي أوراق الإدارة الجديدة في دمشق
تقديم:
وصل مسار بدأ في أنقرة يتيح فتح منافذ جديدة أمام حلّ المسألة الكردية في تركيا، إلى مستوى تحوّل تاريخي في إصدار الزعيم التاريخي لحزب “العمال الكردستاني” PKK نداء يدعو فيه حزبه إلى إلقاء السلاح وحلّ نفسه. يتوقف المراقبون عند فرص نجاح هذا المسار في إنجاح إنجاز هذا التحوّل الذي سوف يؤثر على مستقبل تركيا والأكراد في هذا البلد والمنطقة. وتبحث هذه الورقة أيضا تداعيات الأمر على التشكّلات الكردية في سوريا المتمحورة حول “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في شمال وشمال-شرق البلد.
دوافع أوجلان وحيثيات رسالته:
أعلن الزعيم التاريخي لحزب “العمال الكردستاني”، عبد الله أوجلان، في رسالة وجّهها، في 26 فبراير 2025، عن مجموعة من التوصيات التي يدعو حزبه لتبنيها. جاء هذا الإعلان بعد زيارات متعدّدة قام بها وفد من حزب ” الشعوب الديمقراطية “، الكردي الهوية، إلى سجن جزيرة إمرالي في بحر مرمرة الذي يقبع به أوجلان منذ من عام 1999.
وعمل الوفد على نقل الرسائل بين أوجلان والقيادات الكردية، سواء في جبال قنديل شمال العراق، أو أربيل والسليمانية في إقليم كردستان العراق، أو في سوريا. كما أن رسالة أوجلان جاءت بعد أشهر من مفاجأة أطلقها، في 22 اكتوبر 2024، رئيس حزب “الحركة القومية”، دولت بهشلي، بدعوته من داخل البرلمان، إلى حضور أوجلان، إلى البرلمان وإعلان حلّ الحزب الذي تأسس عام 1978، والمصنف منظمة إرهابية، وترك سلاحه، مقابل تمتعه بـ “الحق في الأمل”.
وقد جاءت توصيات أوجلان على شكل رسالة مكتوبة بعد أن تردد سابقا أنه سيطلق رسائلة عبر فيديو مسجّل. ويُعتقد أن موانع قانونية، كان عبّر عنها وزير العدل التركي، حالت دون ذلك. ويمكن تسجيل مجموعة من الملاحظات بشأن مضمون الرسالة من أهمها التالي:
1- لم يتوجّه أوجلان إلى “الأمة الكردية” في العالم وخصوصا في الدول الأربع المعنيّة، تركيا، إيران، العراق، سوريا، ولم يتوجّه حتى إلى أكراد تركيا، بل توجه إلى حزبه فقط، بشكل يحصر التوصيات بحزب يمتلك شرعية تاريخية لتزعمه.
2- كان سبق لأوجلان في مناسبات سابقة أن طلب من الحزب وقف إطلاق النار، لكنه هذه المرة يطلب إلقاء السلاح بشكل كامل، بما يطلق فتوى بإسقاط خيار الكفاح المسلّح، ويعبّر بذلك عن تحوّل أيديولوجي، ينهي حقبة انتهج فيها الحزب، كما فصائل ثورية في العالم هذا النهج.
3- لم يكتفِ أوجلان بطلب إلقاء السلاح والتخلي عن العمل المسلّح، بل طلب عقد مؤتمر للحزب لإعلان حلّه نهائيا، على الرغم من دعوته إلى اللجوء إلى العمل السياسي. وأوحى الأمر أن ممارسة السياسة ستحتاج إلى تشكّلات أخرى منفصلة عن الحزب واسمه ومسيرته.
4- ذهب أوجلان إلى مستويات أخرى، بإسقاطه كل أشكال الحكم الذاتي أو الإدارة المنفصلة أو أي مطالب يُشتم منها استقلالا عن تركيا، معتبرا أنها خيارات ساقطة وجب التخلي عنها.
5- تعامل أوجلان في توصياته مع المسألة الكردية بصفتها شأنا تركياً، يتمّ من داخل الدولة وليس ضدها، وأن حلّها يكمن في اندماج الأكراد كمواطنين أتراك كباقي المواطنين.
6- قدم أوجلان مراجعاته الجديدة كزعيم تاريخي، وله المونة والنفوذ، ويمتلك وحده الحقّ في تقرير سياسات الحزب وتوجهاته وحتى مصير بقائه. ويشبه الأمر تجارب عرفتها بعض الأحزاب الشيوعية في أوروبا، حين قرر زعماؤها التاريخيون تغيير نهج الحزب إلى حدّ الابتعاد عن موسكو في عهد الاتحاد السوفياتي.
7- لم يربط أوجلان قراراته بأي مكاسب توحي بأن المراجعات أتت بناء على “صفقة” أبرمها مع النظام السياسي التركي. ويعني الأمر أنه يوحي بان قرارته هي نتاج “مراجعة” بغضّ النظر عما يمكن أن تثمره من تنازلات من قبل حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان. حتى أن ما صدر عن أنقرة ما زال لا يوحي بقرب الإفراج عنه أو حتى نقله من السجن نحو الإقامة الجبرية، على الأقل في الأجل الفوري.
8- رغم ظهور أعراض، في بداية هذا المسار قبل أشهر، أوحت بأن “قيادة قنديل” في الحزب لن تلتزم بتوجيهات زعيمها التاريخي، غير أن اعتراضات الحزب غابت تماما، لا بل أعلن الموافقة الكاملة، مشترطا/متمنيا (حسب تفسير العبارة باللغة الكردية) أن يخرج أوجلان من السجن لقيادة مؤتمر الحزب الذي طلب انعقاده لإعلان قرار حلّه.
مراجعات أوجلان وحوافز تركيا:
فيما فشلت محاولة سابقة كان بادر إليها الرئيس التركي حينا وزعيم الـ PKKحينا آخر في إيجاد تسوية للمسألة الكردية أو على الأقل وقف إطلاق النار، فإن التجارب فشلت تارة لأسباب تركية، لا سيما معاندة “الدولة العميقة” ورفض التيارات القومية، وتارة أخرى لأسباب تتعلق بصراع قوى داخل حزب “العمال الكردستاني” أدت إلى عدم التزام الحزب بتعليمات قائده. غير أن ظروفا متعدّدة قد تكون وراء تقاطع أسباب عديدة لإنتاج هذه “المراجعات” وإمكانية تحقيقها تقدما في مسار السلم. وتبرز هنا الأسباب والعوامل التالية:
1- تتحدث بعض التحليلات عن عزم النظام السياسي التركي على إدخال تعديلات دستورية، من شأنها السماح للرئيس أردوغان بالترشّح من جديد إلى الرئاسة، وربما لدورات غير محدودة، ما يتطلّب مشاركة واسعة للأحزاب، بما فيها تلك ذات التصويت الكردي.
2- يعتبر خبراء في شؤون تركيا أن نجاح تسوية مع حزب “العمال الكردستاني” تنهي الصراع التاريخي، لا سيما المسلّح، من شأنه رفع شعبية حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، بعدما منيّ بتراجع في شعبيته في الانتخابات المحلية الأخيرة التي جرت في 31 مارس 2024.
3- يرى خبراء في الشؤون الاستراتيجية أن خطط تركيا الجيوستراتيجية في الشرق الأوسط والعالم، باتت تحتاج إلى التخلّص من أثقال المسألة الكردية، إلى درجة أن تبادر أنقرة، بشخص بهشلي، والذي كان من أكثر الشخصيات القومية المعارضة لأي تسوية مع حزب “العمال الكردستاني”، إلى اقتراح مباشرة مسار التسوية.
4- يقدّر باحثون أن تغيرات دولية بدأت تذهب باتجاه وقف الحروب بالوكالة، وإنهاء تكتيكات دعم الظواهر الميليشياوية، وتقادم استمرار ظاهرة الـ PKK من دون أي غطاء دولي. ويظهر ذلك جليا في ترحيب العواصم الأساسية في العالم برسالة أوجلان.
5- غياب أو انتهاء أي رعاية دولية كبرى لسلوك الحزب، وتوسّع إدراجه على لوائح الإرهاب، وعدم استثمار أعماله لمصلحة أي صراع دولي. ويعتقد أن “الانذار” الذي وجهه وزير الخارجية التركي، حقان فيدان، ضد إيران بشأن دعمها لـ “قسد” في سوريا ينهل من هذا الاتجاه.
6- تفوق تركيا العسكري، وتوسيع رقعة عملياتها العسكرية وملاحقاتها الأمنية ضد قوات الـ PKK، ما قلّص قدرات الحزب العسكرية، ومنعه من تشكيل أي قوة رافعة للقضية الكردية في تركيا.
التداعيات على “قسد” وأخواتها:
بعد أن تداولت وسائل الإعلام مضمون رسالة أوجلان، خرجت كافة الشخصيات القيادية الكردية التابعة لـ “قسد”، وحزب “الاتحاد الديمقراطي”، و “مجلس سوريا الديمقراطية”، وفي مقدمها، قائد “قسد”، مظلوم عبدي، بمواقف متشابهة توحي بأمر جرى تعميمه مسبقا للدفع بالمواقف التالية:
1- ترحيب برسالة أوجلان واعتبارها تحوّلا مهما في تاريخ الصراع، مع التأكيد، مع ذلك، أن لا علاقة لكل هذه التشكّلات الكردية السورية برسالة موجهة إلى حزب “العمال الكردستاني” في تركيا، وبالتالي فإن “قسد” وأخواتها غير معنيّة بالتخلي عن السلاح.
2- التمسّك بالسلاح كحقّ للدفاع عن النفس أمام الهجمات التي تستمر تركيا والفصائل السورية التابعة لها بشنّها ضد المناطق الكردية شمال وشمال شرق سوريا.
3- إعلان حزب “العمال الكردستاني” التخلي عن السلاح ووقف إطلاق النار، يسقط حجّة تركيا بشنّ عمليات عسكرية ضد “قسد” التي تتهمها تركيا بأنها ذراع الحزب التركي في سوريا.
لكن بغضّ النظر عن الحجج والمواقف التي تندفع “قسد” لتقديمها، والنأي بنفسها عن التزامات تنتج عن رسالة أوجلان، فإن التطوّر يفرض احتمالات أهمها:
1- نجاح مسار تسوية المسألة الكردية في تركيا من شأنه تقوية أوراق تركيا ضد “قسد” في سوريا، بما في ذلك تصعيد الضغط العسكري لإنهاء ظاهرة كانت مستفيدة من الظاهرة الكردية في تركيا.
2- إسقاط أوجلان لحلول، مثل الحكم الذاتي والفيدرالية أو أي أشكال انفصالية أخرى لحماية حقوق الأكراد في تركيا، يسقط سردية نظرية للحزب الأم ومنظّره التاريخي اعتمدت عليها تشكّلات “قسد” وأخواتها للمطالبة بتعامل تمييزي كالاعتراف بالإدارة الذاتية ورفض سيادة دمشق عليها.
3- إسقاط نظرية الكفاح المسلح ونظرية الكيان المنفصل والدفع باتجاه الاندماج في تركيا في رسالة أوجلان، يضعف أوراق عبدي في مفاوضاته مع الإدارة الجديدة، برئاسة أحمد الشرع.
4- موقف تركيا الجديد والخشن ضد إيران بصفتها الدولة الداعمة لـ “قسد”، وموقف زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود برزاني، المشجع لـ “قسد” بالاندماج من خلال الحوار داخل النظام السياسي الجديد في سوريا، وموقف واشنطن الداعم لرسالة أوجلان، المصنف إرهابيا في الولايات المتحدة، هي عوامل تضعف مواقف “قسد” التقليدية السابقة.
خلاصة واستنتاجات:
**تعبّر رسالة أوجلان عن تحوّل تاريخي نظري في فهمه للصراع الكردي في تركيا لصالح منطق الدولة التركية والمواطنة داخل تركيا.
**يكشف تقيّد حزب العمال الكردستاني برسالة أوجلان عن وجود مناقشات مسبقة واستنتاج لتحوّلات إقليمية دولية تملي إلقاء السلاح والقبول بحلّ الحزب.
**يُقدّر أن أسبابا داخلية تركية تتعلق بتعديلات دستورية تسمح لأردوغان الترشح لدورات رئاسية جديدة أملت تشجيع تحقيق تسوية للقضية الكردية تتيح مشاركة أوسع للمصادقة على هذه التعديلات.
**يُعتقد أن مهام ومكانة وخطط تركيا الجيوستراتيجية، باتت تتطلب التخلّص من أعباء “المسألة الكردية” التي تستنزف ثروات داخلية وتشوه سمعة دولة إقليمية كبرى كتركيا.
**يُعتقد أن التحوّلات الدولية تفرض إنهاءً لظواهر الميليشيات، وعدم إدراج أدائها داخل أي صراع دولي، أفقد الـ PKK عوامل البقاء.
**يكشف الانذار الذي وجهته تركيا ضد إيران بخصوص دعمها لـ “قسد” عن قوة أوراق تركيا داخل الملف الكردي، إلى درجة الاستعداد لمواجهة طهران، وعدم السماح لها بتغذية بقاء الظاهرة الكردية المسلحة في سوريا.
**تنأى “قسد” بنفسها عن رسالة أوجلان وتعتبرها محصورة بتركيا، ما يعني استمرارها في حمل السلاح كحالة منفصلة عن “الإدارة الجديدة” في سوريا.
**إسقاط أوجلان لحلول انفصالية للأكراد في تركيا، يجرد “قسد” من غطاء نظري لتبرير استمرار المطالبة بالفيدرالية أو الحكم الذاتي.
**وسط ضبابية موقف واشنطن بشأن استمرار قواتها شرق سوريا، فإن دعمها لرسالة أوجلان قد يعني دعمها للخيار التركي واسقاط الدعم لأكراد “قسد” في سوريا.