ردّ إسرائيلي منضبط ضد إيران: الحسابات ومعانيها

 د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات

• ورقة سياسات

• ملخص تنفيذي

-الهجوم الإسرائيلي مدبّر ومنسّق من قبل الولايات المتحدة، وتمّ مشاركة دول أخرى في ترتيبه، ويأتي بمستوى أقل مما توعّدت به إسرائيل.

-الهجوم يستجيب للضغوط الأميركية بعدم استهداف منشآت نفطية ونووية، ويتوافق مع شروط المرشد الإيراني بعدم الرد إذا اكتفى الهجوم باستهداف مواقع عسكرية.

-التقديرات الأميركية والإسرائيلية التقت على نقطة عدم توفّر ظروف دولية لخوض حرب كبرى ضد إيران.

-استنتاج نتنياهو أن تأثيرات ضربات كبرى ضد إيران ستكون خفيفة على مسار الانتخابات الرئاسية الأميركية وسط غموض يكتنف احتمالات فوز أي من المرشحيْن.

-الأرجح أن التزام نتنياهو بالسقف الأميركي للهجوم يقابله، إضافة لضمانات عسكرية وأمنية، عدم الوقوف في وجه أجندات الحرب الإسرائيلية في لبنان، ومواكبة الحرب في غزّة، ومراعاة الخطط الإسرائيلية في تسويات ما بعد الحرب.

• تقديم: 

على الرغم من توقّع المراقبين، خلال الأسابيع التي تلت الردّ الإيراني على إسرائيل (انتقاما لاغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” اسماعيل هنيّة في طهران وأمين عام حزب الله، السيّد حسن نصر الله في لبنان) قيام إسرائيل بردّ عالي الأهداف، غير أنهم استنتجوا محدودية الهجوم الإسرائيلي مقارنة بالسقف العالي الذي توعّدت به منابر إسرائيل السياسية والعسكرية والإعلامية، لا سيما بعد تعرّض منزل رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، في قيسارية شمال تل أبيب، في 19 اكتوبر 2024 لهجوم بمسيّرة اتّهم “أذرع إيران” بالقيام به. وتطرح محدودية هذا الهجوم أسئلة بشأن الأسباب والحيثيات التي دفعت نتنياهو إلى الاستجابة للضغوط الأميركية، على الرغم من الزعم بعدم الأخذ بها في الحرب التي تشنّها إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023 ضد قطاع غزّة وتلك المكثّفة التي بدأتها ضد لبنان منذ منتصف سبتمبر 2024.

• الاستجابة للقيود الأميركية

نفذت إسرائيل، فجر السبت 26 اكتوبر 2024، هجوما على أهداف عسكرية في إيران ردّا على هجوم صاروخي كانت إيران قد نفّذته في الأول من نفس الشهر. وقال مسؤولون أميركيون وإسرائيليون إن ثلاث موجات من الغارات الجوية وقعت صباح ذلك اليوم، وأن الموجة الأولى ركّزت على نظام الدفاع الجوي الإيراني، وركزت الموجتان الثانية والثالثة على قواعد الصواريخ والمسيّرات ومواقع إنتاج الأسلحة. بالمقابل أعلنت إيران أنها أحبطت الهجوم الإسرائيلي، وإن الأضرار لحقت فقط بأهداف عسكرية في جميع أنحاء البلاد. لكنها أعلنت مقتل جنديين إيرانيين في هذه الضربات.

وقد استغرقت مباحثات الردّ الإسرائيلي 26 يوما، جرى الجلُ الأكبر منها مع الولايات المتحدة، تخللها توعّد إسرائيلي برفع سقف الضربات الموعودة لتطال أهدافا استراتيجية، مقابل ضغوط أميركية، كان بعضها علنيا، في اعتراض الرئيس الأميركي، جو بايدن، على استهداف أي منشاة تابعة للبرنامج النووي الإيراني، وتمنيه، العلني أيضا، بعدم استهداف الصناعة النفطية في إيران.

بالمقابل كثّفت إيران من تحركاتها الدبلوماسية، لا سيما جولة زيارات قام بها وزير الخارجية، عباس عراقجي، إلى عواصم المنطقة، ناهيك من إطلاق تصريحات تتراوح بين عدم رغبة إيران بالحرب والوعد بردّ مزلزل في حال كان الردّ الإسرائيلي موجعا. وكان لافتا ما صدر عن المرشد، علي خامنئي، في 25 اكتوبر 2024، في الإعلان مسبقا بأن بلاده لن تردّ على الهجوم الإسرائيلي المتوقّع في حال اكتفى بضرب أهداف عسكرية.

والواضح أن مهلة الـ 26 يوما كانت مسرحاً لمواقف إسرائيلية وإيرانية تخاطب الرأي العام المحلي في كل البلد، لكنها أتاحت للولايات المتحدة التواصل مع الطرفين وممارسة ضغوط بمستويات متعددة لترتيب شكل وإيقاع وتوقيت وأهداف الردّ الإسرائيلي. ويُعتقد أن ما أعلنه خامنئي جهارا، كان من ضمن المطلوب من الطرف الإيراني لهندسة مخارج التزمت بها إسرائيل، بحيث بدا مستوى الهجوم الإسرائيلي مقبولا من قبل الولايات المتحدة وإيران.

• إغلاق ملف الصدام المباشر:

كان لافتا التعتيم الإعلامي الذي صاحب الهجوم الإسرائيلي، بحيث اكتفت وسائل الإعلام الإسرائيلية والإيرانية بالتعامل مع البيانات الصادرة عن الهيئات الرسمية في البلدين. كما لوحظ باستغراب غياب فيديوهات إسرائيلية تظهر عمليات القصف التي نفّذتها إسرائيل والأهداف التي دمّرتها داخل إيران، على الرغم من أن الأمر هو من السلوكيات الروتينية التي انتهجتها في الحرب ضد غزّة ولبنان. بالمقابل غابت أي صور للغارات ونتائجها من قبل الطرف الإيراني، ما عدا تلك التي تناقلتها وسائط التواصل الاجتماعي عن ردّ الدفاعات الجوية، نقلا عن هواتف شهود العيان.

ويعتقد مراقبون أن اللمسات الأخيرة للهجوم الإسرائيلي قد وضعت في الأيام الأخيرة التي سبقت الهجوم بتواصل مكثّف جرى بين إسرائيل والإدارة الأميركية في واشنطن، وأن زيارة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الأخيرة إلى إسرائيل كانت تهدف إلى وضع النقاط الأخيرة على الحروف. ويرى هؤلاء أن موافقة واشنطن على إرسال منظومة صواريخ “ثاد” الأميركية مع طاقم من مئة ضابط وجندي أميركي لتشغيلها، كانت تهدف إلى طمأنة إسرائيل بالتزام أميركي مباشر ومن داخل إسرائيل بأمن إسرائيل والانخراط بردّ أي ردّ إيراني محتمل، وبعث رسالة إلى إيران مفادها أن الولايات المتحدة باتت أكثر انخراطا في حماية إسرائيل من أي ردّ إيراني وأكثر استعدادا للانخراط في توسيع للمواجهة الراهنة.

وقد كشف موقع أكسيوس الأميركي، نقلا عن 3 مصادر عن أن إسرائيل كانت أبلغت إيران، عبر طرف ثالث، مسبقا بالمواقع التي ستستهدفها. وفيما نشرت وسائل إعلام أن روسيا قد زوّدت إيران بمعلومات مخابراتية قبل الضربات الإسرائيلية، فإن مراقبين لم يستبعدوا أن تكون موسكو قد لعبت، من بين عواصم أخرى، دورا ما في توصيل الرسائل الإسرائيلية إلى طهران. وكان خبراء في الشؤون العسكرية قد قللوا من قدرة الإبلاغ المسبق على تقليل الخسائر العينية داخل المواقع المستهدفة، لا سيما إذا كانت منشآت صناعية عسكرية، واعتبروا أن هدف هذا الإبلاغ هو إخلاء الوجود البشري والتقليل من الإصابات في صفوفه.

ويثبت إعلان إسرائيل عن نهاية الهجوم بعد ساعات من شنّه، وتوقّع ألا تقوم إيران بأي ردّ، لا سيما إثر عودة الملاحة الجوية المدنية في أجواء المنطقة إلى العمل بشكل طبيعي، عن التزام الطرفين، الإيراني والإسرائيلي، بصفقة الردّ الإسرائيلي برعاية الولايات المتحدة، وبرغبة البلدين، لاعتبارات خاصة بهما، بوقف الصدام المباشر بينهما عند هذا الحدّ. وفيما كانت إيران سبّاقة في الإعلان عن عدم رغبتها في الحرب والتصعيد خلال الأسابيع الأخيرة، فإن كثير من الأسئلة تدور بشأن رضوخ إسرائيل لضغوط الولايات المتحدة لضبط الرد داخل حدود مقبولة.

• لماذا خفّضت إسرائيل السقوف؟: 

تدور جلّ التحليلات بشأن التزام إسرائيل ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بالضوابط الأميركية حول احتمالات متعددة أهمها:

1-تقديرات عسكرية إسرائيلية أميركية أن قيام إسرائيل بضرب أهداف استراتيجية كبرى، تمثل عصب النظام الإيراني، من شأنها تفعيل إيران كافة وأعلى إمكاناتها الذاتية، مدعومة بإمكانات الفصائل التابعة لها من العراق إلى إيران.

2-تعتقد بعض التقارير أن صواريخ دقيقة رفيعة المستوى يمتلكها حزب الله في لبنان، ويشرف عليها الحرس الثوري مباشرة، ولا يمكن تشغيلها إلا بوسائل إيرانية مشفرة، ما زالت خارج العمليات العسكرية على الرغم من كثافة وضراوة الهجمات الإسرائيلية ضد الحزب، وأن تفعيلها استجابة لأوامر إيرانية سيكون موجعا لإسرائيل بسبب القرب الجغرافي الذي لا تتمتع به إيران.

3-تقديرات اعتبرت أن معركة موجعة ضد إيران لا يمكن أن تتم إلا بقرار عام تقوده الولايات المتحدة بمشاركة المنظومة الغربية، وأن الجدارة العسكرية والسياسية تحتاج إلى قيام تحالف واسع ليس متوفّرا في الظروف الجيوستراتيجية الراهنة.

4-تحدثت تقديرات عن أن الولايات المتحدة ترى أن ذهاب إسرائيل بعيدا في ضرب إيران بالمستوى الذي توعّدت به القيادات الإسرائيلية، بما في ذلك نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالنت، والذي شملت أهدافه شخص المرشد، علي خامنئي، من شأنه تفعيل تموضع صيني روسي جديد داخل التوازنات الدولية.

5-ترى تقديرات إسرائيلية أن نتنياهو استنتج عدم وضوح تأثير أي رفع لمستوى الضربات ضد إيران على مسار الانتخابات الرئاسية الأميركية، كما استنتج أن نتائج هذه الانتخابات ما زالت غامضة، وأن ليس من مصلحته خسارة دعم الإدارة الديمقراطية الحالية (والمستقبلية المحتملة) في واشنطن.

6-تستشرف بعض الآراء استمرار الدعم الأميركي لإسرائيل في حربها ضد حزب الله في لبنان، وعدم اتخاذ واشنطن مواقف لا تجاري الأهداف الإسرائيلية من هذه الحرب. وقد لفت المراقبين تصريحات بلينكن في المنطقة المتفهّمة لأهداف الحرب الإسرائيلية في لبنان، وعدم وجود أي أعراض لضغوط مارسها المبعوث الرئاسي الأميركي، عاموس هوكشتاين، على إسرائيل، على الرغم من تأكيد بيروت التزامها بكامل القرار الأممي رقم 1701. ويلفتون أيضا إلى خلو اللغة الدبلوماسية الأميركية من أي طلب لوقف إطلاق النار في لبنان وتهميشها لمبادرة أميركية فرنسية سابقة في هذا الشأن.

7-يُعتقد أن إسرائيل حصلت على ضمانات جديدة بشأن مستقبل الوضع في قطاع غزّة. فعلى الرغم من نجاح بلينكن في إعادة تفعيل المفاوضات، لكن لم تُظهر واشنطن، رغم تسريبات الصحافة الإسرائيلية، أية مواقف نهائية تعارض التوجهات الإسرائيلية بشأن القطاع على الرغم من غموضه. والأرجح أن واشنطن ستوفّر لإسرائيل بيئة ضاغطة على الأطراف العربية المعنيّة لمباشرة مفاوضات تفضي إلى الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، من دون أي وضوح في خطة أميركية نهائية بشأن “اليوم التالي” للحرب.

• خلاصة واستنتاجات:

**نفذّت إسرائيل ردّها الموعود ضد إيران آخذة بعين الاعتبار الضغوط الأميركية المعلنة والخفيّة بما لا يؤدي إلى توسيع الحرب، وهذا ما ظهر في شكل وطبيعة الهجوم، والمواقع التي استهدفها، والتعتيم الإعلامي الذي صاحبها.

**عبّرت طهران بشكل سريع عن عدم نيتها الردّ على الهجوم متّسقة في ذلك مع ترتيبات يفترض أن الولايات المتحدة أشرفت على تنسيقها، ومتّسقة مع تصريح للمرشد، على خامنئي، أعلن فيه أن بلاده لن ترد إذا استهدف الهجوم الإسرائيلي مواقع ومنشآت عسكرية محدودة.

**يُعتقد أنه رغم محدودية الهجوم الإسرائيلي، إلا أن المناسبة مكّنت إسرائيل لأول مرة من استهداف منشآت عسكرية وصناعية عسكرية  إيرانية تزعم إسرائيل أنها موجعة للبرنامج الصاروخي وقطاع المسيّرات.

**يُعتقد أن إيران وإسرائيل أغلقتا ملف الصدام المباشر حاليا من دون أن تطال أي تفاهمات وترتيبات أميركية في هذا الصدد مستقبل العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزّة ولبنان والمآلات التي ستنتهي إليها.

**الأرجح أن إسرائيل اضطرت للخضوع لضغوط الولايات المتحدة بسبب عدم وجود بيئة أميركية غربية حاضنة لاحتمالات حرب كبرى ضد إيران، واستنتاج نتنياهو بعدم تأثر مسار الانتخابات الرئاسية بأي تصعيد مع إيران، وأن لا مصلحة له في خسارة دعم الإدارة الأميركية في ظل غموض نتائج الانتخابات الرئاسية.

**قد يستفيد نتنياهو من دعم أميركي واسع لحرب إسرائيل ضد حزب الله في لبنان، واستمرار الدعم الكامل لخطط إسرائيل في غزّة، والاكتفاء بدعم تفعيل مفاوضات الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، من دون وجود خطط واضحة ضاغطة بشأن مستقبل القطاع بعد الحرب.

**يرجّح مراقبون أن تؤسّس التفاهمات التي أبرمتها واشنطن مع طهران إلى صفقة أكبر قد تشمل، في حال استمرت الإدارة الديمقراطية في الحكم في واشنطن بعد الانتخابات، ملفات عديدة في المنطقة كان الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، والمرشد، علي خامنئي، قد أوحيا بانفتاح طهران عليها في الأسابيع الماضية.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.