دور التمويل الخارجي في صعود الصهيونية الدينية. مشروع السيطرة على مؤسسات الدولة والمجتمع الإسرائيلي

ورقة سياسات: أمير مخول

في اعقاب الانتخابات الاخيرة للكنيست وحصول نتنياهو والاحزاب الدينية على غالبية حاسمة، وجد ارباب المال الامريكيون المحافظون الجدد والتنظيمات المحلية التي يدعمونها فرصة نادرة تتيح تحقيق كل احلامهم السياسية دفعة واحدة. وقد كانت مقومات ذلك متوفرة بوجود الموارد المالية ومعاهد للتأثير السياسي ومشاعر التعصب القومي والديني، فهي ادوات للسيطرة على اسرائيل من داخلها كما حدث في الولايات المتحدة في فترتي رئاسة كل من ريغان وترامب.

في الثامن من اذار/مارس فاجأ ميخائيل سرئيل كبير المستشارين الاقتصاديين لمنظمة “كوهيليت” بانتقاده للتغييرات الدستورية التي تسعى لها حكومة نتنياهو وحلفائه. المفاجأة أن “كوهيليت” هي المنظمة التي سعت وساهمت في هذا الانقلاب الدستوري وأعدت مشاريع القوانين التي جرى ويجري التصويت عليها في الكنيست.

دور تمويل اليمين اليهودي الأمريكي:

طبيعة عمل “كوهيليت”، يلقي الضوء عليه تقرير تفصيلي أعده مؤخرا ايتان أفريئيل في هارتس، يبيّن فيه كيف يقوم اليمين اليهودي المتطرف من اثرياء الخارج ونظيره من كبار ارباب المال الإسرائيليين، بأدوار ساهمت في هذا التحول التدريجي منذ عقود الذي نرى تتويجه اليوم في صعود تيار يمين قومي ديني متطرف، عمل بمنهجية لاستمالة قلوب قادة اسرائيليين شباب وتأهيلهم ليقودوا تحولات قائمة على رؤية مستقبلية، ترتكز على الاقتصاد المحافظ والفوقية اليهودية ودولة الشريعة، او كما يصفونه ب “القيم الأسريّة اليهودية”.
تأسس صندوق “تكفا” في التسعينيات بمبادرة من الملياردير اليهودي الامريكي زلمان بيرنشتاين والمالك لبنك الاستثمار الامريكي سانفورد برنشطاين. تحوّل برنشتاين نحو التديّن وهاجر الى اسرائيل وسكن في مستوطنة، وهناك أقام “صندوق “آفي حاي” و”صندوق تكفا”، وبات ممولا رئيسيا لمركز “شاليم”، تدمج تصوراتهم الفكرية، كما في منظمة “كوهيليت”، رؤية يهودية قومية توراتية (حسب الشريعة) وسياسة اقتصادية اجتماعية يمينية من مدرسة المحافظين الجدد.
في العام 1999 توفي برنشتاين وبعد عام تم بيع البنك الى مجموعة “إليانس كابيتال” ليتحول الشركاء فيه ومنهم الملياردير روجر هارتوغ الى أرباب مال تقدر ثروة كل منهم بمليارات الدولار. أشغل هارتوغ منصب رئيس صندوق “تكفا” لغاية 2022 وأريك كوهين منصب المدير العام. وقاما بتحويل الصندوق الى المورد المالي الرئيسي لتيار الصهيونية الدينية؛ بأهداف محددة، تقوم على السيطرة على الاجهزة والمنظومات التي تدير الدولة. لقد تبرع برنشتاين بأمواله للصندوق الذي لا يزال رصيده بعد عشرين عاما حوالي 100 مليون دولار.
تقوم فكرة صندوق “تكفا “على ان يشغل خريجو دوراته التدريبية مواقع عليا في الحياة العامة والادارية وأن يتقدموا الى أعلى المراتب. ويرى هارتوغ بأنه “إذا امتلكت القدرة على اختيار الطلاب والمعلمين المناسبين، والقدرة على اختيار المنهاج المناسب فبإمكانك ان تفعل الكثير” والمقصود هنا تحويل ذهنية الشباب الاسرائيلي غير المبلور من حيث النظرة الاقتصادية، وإعداده ليكون من القيادات ذات نظرة اقتصادية محافظة. كل ذلك بعد ان يدرسوا تنظيرات المحافظة الاقتصادية من التيار المعروف بالمدرسة النمساوية مثل فريدريك هايك وإيروينج كريستول . كما يتم سنويا، تأهيل مئات الشباب اليهودي من الاسرائيليين والامريكيين بكلفة تصل الى مئات ملايين الدولارات، وبقوم صندوق “تكفا” بإدخال الشباب الصهيو- ديني الى كل اجهزة الدولة الحيوية، لنجدهم اليوم في القيادة العسكرية وكادر الضباط العسكريين والمدارس التحضيرية للتأهيل العسكري، وفي وزارة المالية وفي السلطات البلدية وفي السياسة الحزبية والإعلام. وذلك وفقا لعقيدة الصندوق بأن “كل تنظيم ناجح يحتاج الى قادة”.
من الجدير بالملاحظة هو حجم التاثير المتبادل بين النخبة اليهودية الامريكية وادوار المؤسسات المالية اليهودية في دعم تيارات اليمين الأمريكي ونظيرتها المتطرفة في إسرائيل، كذلك تولي رئاسة صندوق تكفا” السياسي الأمريكي اللامع إليوت أبرامز، المستشار السابق للرئيس بوش لشؤون الشرق الاوسط ومن ثم مستشارا كبيرا في وزارة الخارجية وفي إدارة دونالد ترامب. وحسب التقديرات فإن الصندوق ينفق سنويا ما بين 10-15 مليون دولار لبلورة اسرائيل وفقا لرؤية مؤسسيه ومموليه.
يتمركز القسم الاكبر من نشاط صندوق “تكفا” في نيويورك، وله أنشطة في اسرائيل، حيث يقوده عمعاد كوهين، الذي أشغل منصب سكرتير مستوطنة عيلي، ورئيسا لدائرة التجديد الصناعي في شركة تطوير بنيامين [مجلس اقليمي استيطاني]، وهدفه المركزي “تعزيز الدولة اليهودية القوية والمزدهرة”. كان لافتا مؤخرا زيارته للرئيس الهنغاري فيكتور اوربان، وقد عقب اوربان على الجلسة في تغريدة له: “إن بناء مجتمع محافظ هو مسألة صعبة، لكن في اسرائيل كما هنغاريا، هناك انجازات عظيمة في هذا المضمار، وقد تسنى لي اليوم ان اناقش مع عميعاد كوهين هذه المهمة الأصيلة”

من يقف وراء منظمة ” كوهيليت”:

تقف “كوهيليت” اليوم في خضم الصراع السياسي الجماهيري والتشريعات الهادفة الى تغيير طابع النظام وطريقة الحكم في اسرائيل. ويرتبط هذا التنظيم عضويا بصندوق “تكفا”، اذ أن موشي كوبل الرئيس المؤسس لتنظيم “كوهيليت” هو عضو مجلس امناء “تكفا”. ويؤكد التقرير بأن “عددا من القوانين التي صاغها د. كوبل قد أقرها الكنيست” وفي حال نجح وزير القضاء ليفين في ضمان اقرار التغييرات الدستورية، فبالإمكان حينها التأكيد بأن كوبل قد “صاغ القوانين التي غيرت من طبيعة النظام الحاكم في اسرائيل”.
ترفض منظمة “كوهيليت” الكشف عن أسماء المتبرعين، بينما تصل ميزانيتها السنوية الى 30 مليون شيكل وهو مبلغ لا تضاهيها فيه اية مؤسسة حقوقية ولا حتى تقترب منه. يقوم عملها على صياغة مشاريع قوانين تفصيلية بروح عقيدة المؤسسين وتوفيرها الى اعضاء الكنيست الملائمين لتشريعها. وللمقارنة، يختلف نمط عمل صندوق “تكفا” عن “كوهيليت” لكنه يتكامل معه في السعي للسيطرة على الحكم في اسرائيل وإقامة دولة الشريعة، فهو يقوم على الوصول الى قادة شباب واعدين مستقبلاً، وتدريبهم للمهام التي يختارهم من اجلها بعد ملاءمة عقليتهم لعقيدة الصندوق الاقتصادية السياسية اليهودية.
كشفت صحيفة هآ رتس وملحقها الاقتصادي دي-ماركر عن أسماء اثنين من الممولين الأثرياء، وهما جيفري ياس وآرتور دانتشيك اللذان أقاما مع صديقهما جوئيل غرينبرغ، شركة سسكوانا للاستثمارات والتجارة ومقرها في بنسلفانيا وحققوا ارباحا طائلة. ان المذكورين هم ليسوا الوحيدين الذين يقومون بضخ الاموال الى منظومة المستوطنات وبرامج التدريب وصياغة القوانين لضمان هيمنة الصهيونية الدينية على مقاليد الحكم في اسرائيل وتغيير طابعه. كما ويشكل الصندوق المركزي لاسرائيل (central fund of Israel) خط تمويل ومن خلاله بإمكان المتبرعين الامريكان التضليل بشأن غاية الاموال التي يقدمونها والتي يدعون بأنها أعمال خيرية. انهم يتبرعون للصندوق ويحظون بالإعفاءات الضريبية ولا شأن لهم بوجهة تبرعاتهم. لدرجة اعتبرته صحيفة نيويورك تايمز بمثابة مقاصّة مركزية تشكل قناة مالية للمستوطنات ولعشرات المنظمات العاملة في مستوطنات القدس والضفة الغربية المحتلة .
التحول بعد تفكيك مستوطنات غزة :
تعتبر خطة فك الارتباط وهدم المستوطنات في قطاع غزة والتي قام بها شارون بأنها الحدث الصادم او التحول الاستراتيجي الذي دفع بالصهيونية الدينية الى مسار “السيطرة على الدمقراطية الاسرائيلية من داخلها” وكما كتب الرابي يسرائيل روزين عام 2005 بأن الامر ممكن من “خلال الدفع بالكثير الكثير من الشخصيات الجديرة للإعلام وللقضاء وللسياسة وحتى للفنون، وهو المسار الذي أطلقت عليه الصهيونية الدينية “استيطان القلوب”
حسب تقديرات د. هيلل بن ساسون من معهد فان لير فإن نسبة “اصحاب الكيبا ” (اتباع الصهيونية الدينية) تصل 40% من بين ضباط الجيش النظامي. كما أن عقيدة المحافظين الامريكان الاقتصادية الاجتماعية قد وجدت ضالتها ايضا في نفتالي بينيت واييلت شاكيد وغدعون ساعر وزئيف إلكين ومتان كهانا وحاليا لفين وزير القضاء وسموتريتش وسيمحا روتمان رئيس لجنة الدستور.
بالإمكان تلخيص دور التمويل في الصعود الكبير للصهيونية الدينية بمصدرين: من الدولة ، من خلال جهاز التعليم الرسمي الديني حيث يحصل مقابل كل طالب ينتمي اليه تمويلا أكثر من اية شريحة اخرى في المجتمع، وحيث أن مضمون التعليم خارج نطاق تدخل وزارة التربية والتعليم. المصدر الثاني ، متبرعون امريكيون من غلاة المحافظين الجدد، الذين يقفون وراء تنظيم “كوهيليت” وصندوق “تكفا”. وقد وجدوا مصلحة في خلق منظمات مجتمع مدني يمينية.
لم يغب عن التفكير لأصحاب هذه المشاريع ، أن نجاح القائمة المشتركة للأحزاب العربية في الكنيست وبلوغها 15 مقعدا، كان يعني لهم ، إدخال السياسة الاسرائيلية في مأزق عدم القدرة على الحسم وانعدام الاستقرار السياسي اليهودي، وإذ اعتبرت هذه الاوساط هذا الوزن هو فائض قوة غير مسموح به ، فقد سعت الى مسارين الاول قام به نتنياهو وهو السعي لتشتيت هذه القوة، والثاني بقيادة سموتريتش وبن-غفير الساعي الى خلق قوة حاسمة يهودية تمنع امكانية حسم العرب لتشكيل حكومة “الدولة اليهودية”، والتأسيس لبنية قانونية جديدة تمنع مشاركة العرب في الانتخابات بمحددات قانونية محكمة .

قراءة وخلاصة:

سيطرة تيار الصهيونية الدينية على مساحات واسعة من منظومات الدولة والمرافق الأكثر حيوية ليست وليدة اليوم. لنفوذ الصهيونية الدينية بنية اقتصادية مالية طبقية تقوم على الاقتصاد النيو-ليبرالي المحافظ وعلى الشريعة التوراتية لدولة يهودية في كل فلسطين التاريخية.
الصهيونية الدينية باتت التيار الاكثر تمويلا وادوات تأثير في السياسة الاسرائيلية وحتى الامريكية في مواجهة جي-ستريت الجناح الليبرالي في الجالية اليهودية الامريكية والمناهض ل ” الايباك “. وإذ يحذّر أقطابها الادارة الامريكية من مغبة التدخل في الشأن الاسرائيلي الداخلي بينما هم نتاج هذا التدخل الامريكي الرسمي وغير الرسمي.
من المتوقع ان يضاعف الممولون الامريكان دعمهم ل “كوهيليت” مقابل حركة الاحتجاج الاسرائيلية المتعاظمة، والتي تهدد مجمل اهداف مشروع صندوق “تكفا” ومنظمة “كوهيليت”. فالمعركة حاسمة بالنسبة لهم، بينما قد تعصف التناقضات في المشروع الحكومي وفي الائتلاف بمجمل هذا المشروع.
ينبغي ان تبادر القيادة الفلسطينية والعربية الى تحميل الولايات المتحدة مسؤولية دعم التنظيمات الإرهابية المتطرفة التي يقودها سموتريتش وبن غفير، والتصدي لفرية بان دعم السلطة الفلسطينية لعائلات الاسرى والشهداء هو “تمويل ارهاب”. كما ان تحويل اموال للمستوطنين لشراء اراض وعقارات فلسطينية هو مسألة أمن قومي وجودي فلسطيني.
والمسالة الأخرى التي تحتاج الى استعداد سياسي مبكر في ضوء احتمال عودة الجمهوريين ودونالد ترامب الى السلطة في الولايات المتحدة في انتخابات 2024 . ذلك يعني ان مشروع الضم الذي اتى به ترامب تحت مسمى “صفقة القرن ” سيتحول الى سياسة أمريكية رسمية ، مدعوما بالكامل من هذه الاوساط اليمينية المتطرفة التي تطمح لدولة الشريعة اليهودية في فلسطين ، من البحر الى النهر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.