درعا تختبر التوافقات الدولية والإقليمية حول سوريا

*أسعد كنجو

بعد نحو سنة على وقف العمليات القتالية في الجنوب السوري، عادت المنطقة للاشتعال مجددا معلنة انتهاء اتفاق خفض التصعيد الذي تم إبرامه بين الأردن والولايات المتحدة وروسيا قبل نحو عام، لاسيما أن العملية التي بدأها قبل أسبوع حليف روسيا الجنرال السوري سهيل الحسن المعروف باسم النمر، حظيت بمساندة جوية روسية بعد انطلاقها بنحو خمسة أيام، لتؤكد موسكو موافقتها على العملية العسكرية، وأن العملية لم تكن ارتجالا من النظام السوري منفردا ، وهو ما عزاه البعض لتفاهم بين موسكو وتل أبيب بعد أن كانت الأخيرة تعارض أي عملية لقوات النظام على حدودها خشية عودة النظام مصحوبا بالإيرانيين وعناصر حزب الله. لكن المصادقة الامريكية على هذه المقاربة الروسية، وقف التصعيد ثم تفاهمات لتمكين النظام،هي المفاجأة الكبرى، ما يكشف عن توافقات دولية وإقليمية كبرى تشير الى أن الوضع في سوريا بات على سكة الحلول.

اتفاق خفض التصعيد:

في الحادي عشر من شهر نوفمبر من العام الفائت أعلنت كل من روسيا والأردن والولايات المتحدة عن توصلها لاتفاق يقضي بتجميد العمليات القتالية في الجنوب السوري وهو ما عرف باتفاق خفض التصعيد في الجنوب السوري، وتم على أثره تثبيت النقاط التي وصل إليها كل طرف ووقف العمليات القتالية بين النظام والمعارضة السورية في تلك المنطقة.

في ذلك الوقت ومع تجميد العمليات القتالية، كانت ثلاث قوى رئيسية تتقاسم السيطرة على محافظة درعا، فقوات النظام تسيطر على نحو ٤٠ بالمئة من مساحة المحافظة في المناطق الواقعة شمال محافظة درعا، بينما تسيطر قوى المعارضة على نحو ٥٠ بالمئة من مساحة المحافظة تمثل غالبية مناطق درعا البلد والمناطق الممتدة على طول الحدود مع الجولان السوري المحتل وأجزاء من الحدود السورية الأردنية بالإضافة لبعض المناطق من الأرياف الجنوبية لكل من السويداء والقنيطرة، فيما يسيطر جيش خالد بن الوليد القريب من داعش على نحو ٨ بالمئة من مساحة محافظة درعا في المثلث الواقع على الحدود السورية الأردنية والجولان السوري المحتل. وبعكس غالبية المناطق السورية الخارجة عن سيطرة النظام فإن قوات المعارضة في درعا تصنف على أنها قوات معتدلة لا تحمل في غالبيتها أفكارا جهادية أو متطرفة، حيث يغلب عليها الطابع القبلي والعشائري والمناطقي، ولا يكاد يتجاوز عدد عناصر هيئة تحرير الشام في كامل المحافظة بحسب المصادر الميدانية الألف مقاتل، وعرفت هذه الفصائل بأنها على علاقة وثيقة مع الأردن والولايات المتحدة التي أشرفت على تدريبها وتسليحها والتنسيق معها.

انتهاء صلاحية الاتفاق:

قبل عدة أسابيع بدأت تظهر مؤشرات عن عملية يتم الإعداد لها تهدف لبسط سيطرة النظام على الجنوب السوري مجددا، تمثلت باستقدام تعزيزات إلى مناطق انتشارها في درعا، تلك القوات كانت قد سحبت من المناطق المحيطة بدمشق بعد تمكن النظام من بسط سيطرته على الغوطة الشرقية الجيب الأخير لقوات المعارضة.  هذا الحشد اشعل الأضواء في عمان وتل أبيب، والهاجس الأكبر كان تواجد ميليشيات إيرانية الى جانب الجيش النظامي الى مناطق قريبة من الحدود، وطالبت إسرائيل بإبعاد الإيرانيين لنحو ٤٠ كم عن الجولان المحتل قبل الشروع بأي تقدم عسكري في المنطقة، فيما لم تبد أي معارضة لعودة قوات النظام، الأمر الذي رفضته إيران في البداية واشترطت انسحاب القوات الأمريكية من قاعدة التنف الحدودية مقابل انسحابها عن حدود الجولان، ما يبدو أنه كان محاولة ايرانية لتأمين طريق طهران بيروت مقابل التنازل على طريق طهران الجولان . لكن لم تلق المطالب الإيرانية أية استجابة من واشنطن، ويبدو أنها تحت الضغط الروسي استجابت للمطالب وأظهرت إشارات عن سحب عناصرها وحلفائها من الجنسيات الغير سورية، فيما ذكرت مصادر محلية ، أن الانسحاب كان شكليا وإعلاميا فقط وأن العناصر الموالية لإيران لازالت نشطة بالجنوب بعد أن استبدلت رايات ميليشياتها برايات الجيش السوري، ورغم التحذيرات الأمريكية التي طالبت النظام السوري باحترام اتفاقية خفض التصعيد، إلا أن الأخير شن حملته العسكرية بقيادة رجل روسيا سهيل الحسن، ممطرا درعا بمئات الصواريخ وقذائف المدفعية ، دون أي تدخل من موسكو في الأيام الأولى للعملية ، لكن بعد عدة أيام من اشتداد حدة المعارك شنت الطائرات الروسية أولى غاراتها على الريف الشرقي لدرعا، وبررت تدخلها بأن عناصر من هيئة تحرير الشام هاجمت قوات النظام في ريف درعا الشرقي، وان بدت الحجة الروسية ذريعة مفضوحة منذ البداية إلا أن ذلك لم يعد مهما ولن يغير من الواقع الميداني شيئا ، خصوصا بعد أن كشفت قيادة المعارضة المسلحة ، أن واشنطن طالبتها بالاعتماد على نفسها وعدم توقع أي تدخل أمريكي لمساعدتها، وهو ما أكد المعلومات التي أشارت أن العملية العسكرية التي تشنها قوات النظام والتدخل الروسي، جاء بعد تفاهمات معقدة بين كل من موسكو وواشنطن وتل أبيب وعمان، بالتوازي مع تفاهمات أخرى عقدها الجانب الروسي مع الايرانيين وحلفائهم تقضي بعدم مشاركتهم وابقاء قواتهم بعيدة عن مواقع انتشار القوات الإسرائيلية في الجولان المحتل.

ميدانيا:

مع بدء عمليات النظام من بصر الحرير والحراك المعقل الرئيسي للمعارضة شرق درعا، بات واضحا ان الحلول وبسط السيطرة ، ستفرض بقوة النيران وسياسة الأرض المحروقة . ولعل الاستخدام العنيف لكافة أنواع الأسلحة وحجم القوات المشاركة بغطاء جوي روسي مكثف ، يشير الى رغبة في اظهار التصميم على أن الترتيبات في المنطقة الجنوبية لا رجعة عنها وان اية مواجهات من قوى المعارضة التي تقع خارج التوافق الإقليمي الجديد سيقمع وبكل قوة ، وأن المواجهات ستدمر المنطقة وستدفع نحو ٢٠٠ الف مدني بحسب التقديرات الى اللجوء نحو الحدود الأردنية والإسرائيلية ، وهو ما استبقته عمان بإغلاق حدودها ونشر قواتها لمنع تدفق المزيد من اللاجئين السوريين الى البلاد . كل التقديرات تؤكد الغالبية العظمى لقوات المعارضة تخضع بصورة مطلقة للأشراف الاستخباراتي الأردني وهي اقرب الى الانضباط والموافقة على ترتيبات ادماجها في سياق منظومة الضبط الأمني والشرطي المناطقي تحت قيادة الشرطة العسكرية الروسية ، على أن  تسلم الفصائل المقاتلة سلاحها الثقيل لقوات النظام أو تتلفه ،وتتولى قوات النظام حماية الطريق الدولي ومعبر الحدود مع الأردن ، وهو الأمر الذي كانت تطالب به عمان في الآونة الأخيرة ، بشرط وحيد ، هو إبعاد القوات الايرانية والمليشيات الشيعية عن حدودها ، في ذات الوقت الذي رفضت تسليم المعابر لغير القوات الحكومية ورفع اية رايات غير علم النظام الرسمي . اما المتمسكين بإسقاط النظام ومعها كل السلفيات الجهادية، فقد فتحت ثغرة لتأمين خروجها الى الشمال السوري لتلتحق بشقيقاتها المدموغة بخاتم الإرهاب والتطرف. بقيت عناصر التوتير او القنابل الموقوتة التي قد تعطل او تؤجل مسار الاتفاقات، او تفتح الباب لصدامات عسكرية كبرى غير محسوبة، وهي العقدة الإيرانية ، فطهران التي تخرج من ملف الاتفاقات الروسية الأمريكية والروسية الإقليمية تباعا ، لا تقنع الأطراف بانها سحبت قواتها من الجنوب السوري ، فالتحذيرات الدولية تشير إلى استمرار تواجد القوات الايرانية والميليشيات التابعة على الأرض بعد تغيير الرايات ، وتشارك بالمعارك تحت مظلة النظام، وهو الأمر الذي تدرك إسرائيل مخاطره المستقبلية .

الخلاصة:

لم يعد سرا ، ان درعا تمثل الاختبار الواقعي لمستقبل الانتقال السياسي في سوريا ، بعد ان باتت اللعبة الروسية منذ العام ٢٠١٥ هي الوحيدة التي أنجزت جملة من التوافقات الإقليمية والدولية حول اختصار الازمة السورية بإصلاحات في بنية الدولة وليس تغييرها جذريا ، والتراجع عن وثيقة جنيف الاولى حزيران ٢٠١٢ والتي ارتكزت على فكرة هيئة الحكم الانتقالي وتغيير بنية الأمن ومؤسسات الدولة لتستوعب كل المكونات الاجتماعية السورية ، لتنتهي الى شطب مسار جنيف السياسي واجبار كل الأطراف بما فيها النظام على الدخول في مسار الدستور والانتخابات . بالموافقة الامريكية على شروط اللعبة الروسية باتت المعارضة السياسية والعسكرية السورية في وضع حرج، بعد أن تمكن خصومها من اختصار ثورتهم النبيلة والاصلاحية بالإرهاب والتطرف الذي لا تستوعبه أقدار الجغرافيا، فهم اليوم في حالة أقرب الى التلاشي لا وزن لهم في المعادلة، منقسمون ولا مركز قياديا واحدا يتحدث باسمهم الأمر الذي سهل على العواصم الإقليمية المحيطة ان تكون بديلا عنهم وفق المصالح واعتبارات الأمن القومي لكل بلد، التوافق  الدولي الذي يؤمن للسياسة الروسية النجاح في سوريا ، هو قدرتها على تلبية شروط كل الأطراف ، وفي المقدمة تحجيم الدور الايراني في سوريا وابعادها عن خطوط التماس مع إسرائيل والأردن ، لكن شرطا اخر يلوح في الأفق ، قد يساهم في تمرير السياسة الروسية في سوريا او يعطلها ، وهو اعتبار إقليمي يتعلق بالتسوية السياسية لكل ملفات الشرق الاوسط وفي المقدمة الصراع العربي الإسرائيلي ، فمستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون يبحث في موسكو دورا روسيا في تغطية ودعم الصفقة الغامضة المسماة ” صفقة القرن ” وان على روسيا ان تشارك في اقناع أصدقائها في المنطقة بعدم اعتراض الخطة الامريكية وعدم اعتراض طريقها ، كثمن لاستيعاب الطموحات الروسية في سوريا والمتوسط وموقعها المركزي في منظومة العلاقات الدولية التي تتشكل .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.