حوار الفصائل في بكين وربع الكأس الملان

تقدير موقف أولي

نهاد ابو غوش – مركز تقدم للسياسات
تقديم:
صدر العديد من الآراء والمواقف السلبية والمتشائمة قبل انعقاد لقاء القوى الفلسطينية في بكين، وطبيعي أن تتواصل هذه التقديرات السلبية بعد الاجتماع والبيان الذي صدر، ولا سيما مع قيام عدد من المسؤولين والمتحدثين باسم السلطة، وبشكل أقل من مسؤولي حركة (حماس) والدوائر المقربة منها بإطلاق تصريحات، واجراء مقابلات فضائية عديدة، تتعمد التقليل من شأن اجتماع بكين ونتائجه، وكأن الاجتماع لم يكن سوى مجاملة لجمهورية الصين الشعبية. من المنطقي الافتراض أن هذه التقديرات ليست مجرد تحليلات أو اجتهادات ووجهات نظر، بقدر ما تمثل مواقف ثابتة تتراوح بين الياس من إمكانية خروج أي نتيجة إيجابية من لقاءات الحوار الوطني نظرا للتجارب الطويلة والمرة من مثل هذه اللقاءات، وبين كونها تصدر عن مواقف ومصالح رافضة للقاءات الحوار مبدئيا، إما لكونها قريبة من السلطة وتتخوف من ردات الفعل الإسرائيلية والأميركية والغربية الساعية لشيطنة حماس ودعشنتها، أو قريبة من حماس وتفترض أن السطة وقيادتها اجتازت الخط الأحمر الفاصل بين الوطنية والانخراط في المشروع الإسرائيلي.
تحليل:
يمكن القول أن مجرد انعقاد اللقاء يحمل قيمة إيجابية بحد ذاته، فهو أول لقاء موسع (لكل الفصائل) يجري خلال حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والذي من ضمن أهدافه المعلنة القضاء على حركة حماس، وتحطيم سلطتها وبنيتها التنظيمية واغتيال قياداتها وكوادرها، ونزع اي شرعية عنها، والرفض القاطع لأن تكون جزءا من النظام السياسي الفلسطيني علاوة على استمراها في إدارة قطاع غزة. لكل ذلك فإن انفتاح حركة فتح وسائر قوى منظمة التحرير الفلسطينية على حركة حماس- وكذلك حركة الجهاد الإسلامي- يمثل رفضا لهذا التوجه وتحديا له، وتأكيدا على كون حماس والجهاد جزءا لا يتجزأ من النسيج الوطني الاجتماعي الفلسطيني.
جاء في انتداب محمود العالول (ابو جهاد) نائب رئيس حركة فتح إشارة رمزية للوزن الذي يحتله هذا التوجه لدى قيادة حركة فتح، زاد من دلالته المكانة الخاصة التي يتمتع بها العالول في علاقاته الوطنية الطيبة مع مختلف القوى، ولا يخفى على المتابعين أن قضية استمرار الحوار مع حماس والموقف من عملية طوفان الأقصى وتداعياتها كانت وما زالت قضايا إشكالية لدى قيادة فتح وكوادرها تعكس نفسها في مواقف وتصريحات، ومسلكيات، متناقضة تماما إلى درجة التبرؤ من بعض المواقف كما جرى تجاه تصريحات عضو مركزية فتح عباس زكي.
حمل بيان بكين مجموعة من الأفكار والمبادئ القديمة الجديدة، بل يمكن القول أن نتيجة الاجتماع فاقت نتيجة اجتماع العلمين (تموز 2023) الذي قاطعته ثلاث فصائل، وخرج ببيان مبتور هو ذاته رؤية الرئيس محمود عباس، وفاق كذلك بيان لقاء الجزائر الذي شهد خلافا فتحاويا فتحاويا، وآخر فتحاويا حمساويا، وانتزعت منه فقرة “حكومة الوحدة الوطنية” بسبب الخلاف على الشرط الذي وضعه الرئيس أبو مازن حول التزامها قرارات الشرعية الدولية. أما اجتماع بكين فيمكن فحمل مجموعة من المبادئ المكثفة ولكن الجوهرية وابرزها:
– التأكيد على الوحدة الوطنية الشاملة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، والتزام بهدف الدولة الفلسطينية طبقا لقرارات الأمم المتحدة.
– التأكيد على حق مقاومة الاحتلال استنادا للقوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة وحق تقرير المصير (وهذه صيغة أقرب لقرارات المجلس الوطني الفلسطيني في ايار 2018، بينما في اجتماع العلمين حصر الرئيس عباس اشكال النضال بالمقاومة السلمية) كما يمثل القرار إقرارا واضحا من حماس والجهاد بقرارات الشرعية الدولية ككل متكامل.
– تشكيل حكومة توافق وطني مؤقتة، والتأكيد على وحدة الضفة وغزة، وهذه إشارة مهمة لأنها تعيد الأمور إلى ما قبل تكليف محمد مصطفى مع التسليم بأن القرار بهذا الشأن هو من اختصاص الرئيس عباس.
– العودة للحديث عن صيغة “الإطار القيادي المؤقت” وهي صيغة موسعة تشمل اللجنة التنفيذية ورئاسة المجلس الوطني والأمناء العامين للفصائل وبعض الشخصيات، وتعود لاتفاق القاهرة 2011، وإعلان القاهرة 2005، وتسمى لجنة تطوير وتفعيل منظمة التحرير، التي تتمسك بها حماس وترفضها قيادة فتح والمنظمة – أو ترفض تفعيلها – . ويرتبط بذلك الحديث عن تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني والمؤسسات القيادية الفلسطينية بالانتخاب.
الخلاصة:
– اجتماع بكين والبيان الصادر عنه ليس مجرد خطوة مجاملة للصين، فقد دخل اللقاء في صياغات دقيقة وحساسة كانت تعد قضايا إشكالية، وتكمن أهميته الاستثنائية بأنه يقدم الجواب الفلسطيني الواضح على “سؤال اليوم التالي” وبالتالي يقطع الطريق على اية صيغ ملتبسة لمشاركة السلطة بشكل مباشر أو غير مباشر في إدارة قطاع غزة كجزء من الترتيبات الإسرائيلية.
– لكن، مع كل التاريخ الطويل من الاتفاقات التي علاها الغبار والمكدسة في الجوارير والرفوف والتي تحولت إلى حبر على ورق، يصبح التشاؤم منطقيا ومفهوما، وتعززه الاتجاهات الانقسامية والانفصالية التي تتوقف عن النفخ في نار الانقسام والاتجار به. لكن الاتفاق في كل الأحوال يمثل سلاحا سياسيا ومعنويا مهما في أيدي رافضي الانقسام ودعاة الوحدة، والمتمسكين بخيار فلسطيني حر في مواجهة الخيار الإسرائيلين .
– من المؤكد أن الاتفاق لن يتحقق تلقائيا ولا حتى بفضل دعم الصين والأطراف الصديقة، بل يحتاج إلى نضال دؤوب وضغط متواصل من قبل القوى والهيئات والاتحادات الشعبية والشخصيات، ولعل من أهم عوامل تحريك الدماء في جسم هذا الاتفاق مشاركة هيئات ومؤسسات وشخصيات مدنية من خارج الدائرة الضيقة للفصائل والقيادات التي تكيفت مصالحها مع الوضع القائم، وصارت جلسات الحوار جزءا من شغلها التي تلهي به نفسها وتلهي جمهورها الضيق والمحدود.
– قد يكون اتفاق بكين اقل من نصف كأس مملوء، وقد يكون كدرا ومليئا بالشوائب، ولكنه في كل الأحوال أفضل من الهاوية والفراغ الذي يتربص بالفلسطينيين في غياب رؤيتهم الموحدة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.