توجّس من “اليوم التالي”: كيف يواجه “حزب الله” التحوّلات؟

 د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات

ورقة سياسات.

 

• ملخص تنفيذي:

-يسعى “حزب الله”، مدعوما من إيران، إلى إظهار مواقف تتعامل مع المستجدات الداخلية والخارجية وتحرّص على تأكيد عدم تراجع نفوذه على منظومة الحكم.

-يعوّل الحزب على الصدام البري الحالي ضد القوات الإسرائيلية في جنوب لبنان، في السعيّ لفرض وقائع جديدة تحسّن من شروط وقف إطلاق النار وتسويات “اليوم التالي”.

-يُظهر الحزب مزيدا من التماهي مع إرادة إيران بشكل يؤثّر في مرونة أو تشدّد الحزب في التعامل مع الواجهات الرسمية الحكومية في تعاطيها مع المجتمع الدولي.

-بدأت تحرّكات سياسية لبنانية داخلية تطالب بتنفيذ القرارات الدولية، لا سيما القرار 1559 المتعلًق بنزع سلاح كافة الميليشيات.

-تبدي الولايات المتحدة، من خلال مواقف واشنطن والسفيرة الأميركية في بيروت، عزماً على ممارسة ضغوط على لبنان للانتقال إلى مرحلة ما بعد الحزب، وتشجيع إعادة صياغة منظومة وقواعد الحكم في لبنان

 

• تقديم:

 

يسلّط كافة المراقبين المجهر على موقع “حزب الله” وقوته ونفوذه بعد الضربات الموجعة التي تلقاها منذ 8 اكتوبر 2023، تاريخ فتح جبهة “إسناد وإشغال” دعماً لغزّة. وفيما تكثّف إسرائيل هجماتها البريّة بعد الجوية والبحرية، ويعاني لبنان من تفاقم أزمة نزوح مليونية، إضافة إلى ارتفاع أعداد الضحايا من المدنيين، وانتشار بقع الدمار لتطال مساحات جديدة من البلد، فإن الحزب يسعى إلى التموضع بصعوبة لمواجهة تسارع التطوّرات، بالنظر إلى الضغوط العسكرية والسياسية والاجتماعية وتوجّسه من تآكل نفوذه على منظومة الحكم والسياسة في لبنان. فكيف يقارب الحزب أزماته وما هي خياراته؟

 

• الحزب في غياب نصر الله

 

بعد اغتيال أمين عام “حزب الله”، السيّد حسن نصر الله، في قصف إسرائيلي استهدف مُجمّع الحزب الرئيسي، في حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت في 27 سبتمبر 2024، وبعد قيام إسرائيل، قبل وبعد ذلك، بالقضاء على / أو تحييد عشرات من القيادات العليا، بما فيها السيًد هاشم صفي الدين، المفترض أن يكون وريث نصر الله للأمانة العام، يُظهر الحزب ارتباكا “منطقيا” في تحديد بوصلته والاهتداء إلى خياراته.

يرتبك الحزب في التعامل مع الاستحقاقات الكبرى، السياسية والعسكرية، كما التعامل مع أزمة المجتمع اللبناني، بما في ذلك جمهور الحزب، فيما أنزل به من خسائر مادية وبشرية، وما لحقه من كارثة نزوح مليوني غير مسبوق في تاريخ لبنان.

وقد سعى الحزب من خلال بياناته، إلى توضيح مواقفه، وإن بدت عشوائية متسرّعة، بهدف تعبئة فراغ كبير في المناصب القيادية. غير أن التوجّه السياسي الرئيسي عبّر عنه نائب الأمين العام للحزب، الشيخ نعيم قاسم، وهو أعلى واجهة للحزب حاليا بانتظار تعيين أمين عام جديد خلفا لنصر الله.

وفيما طغت لغة وجدانية في كلمته الأولى في 30 سبتمبر 2024، أي بعد 3 أيام على اغتيال نصر الله، وجاء مضمونها لرثاء زعيم الحزب وشدّ عصب مناصريه وهياكله التنظيمية، فإن كلمة قاسم الثانية في 8 اكتوبر 2024، حملت مضامين ورسائل تستبطن مواقف وتحوّلات، وإن بقيت غير حاسمة ملتبسة عرضة لتفسيرات واجتهادات.

 

• التعايش مع التطوّرات وضبط تداعياتها

 

قدم نعيم قاسم في كلمته الثانية بداية مخاطبة لمجموعة من الاستحقاقات من خلال مجموعة من العناوين كان أهمها:

1-اعتبر أن “طوفان الأقصى حدث استثنائي، وبداية تغيير وجه الشرق الأوسط”. جاء ذلك في سياق إحياء كلمته للذكرى السنوية الأولى للعملية التي نفّذتها حركة “حماس” وفصائل أخرى في 7 اكتوبر 2023. وقد وضع قاسم كلمته في إطار تمسّك حزبه الدائم بدعم “المقاومة” في غزّة كخيار انتهجه الحزب في تبرير فتح جبهة “إشغال وإسناد” من جنوب لبنان.

2-شدّد على أن “إمكانيات حزب الله بخير”، وأن الحزب “مستمرّ بمواجهة إسرائيل”، مضيفا: “تخطينا الضربات الموجعة التي أصابتنا، ووفّرنا بدائل في كل المواقع من دون استثناء”. وكانت هذه الرسائل ضرورية لجسم الحزب التنظيمي ولمناصريه وجمهوره.

3-قال إن “العدو الصهيوني وأميركا، والغرب يحاولون أن يضغطوا علينا، لكي نخاف وهذا لن يحدث”، مشيرا إلى أنه “لولا الدعم الأميركي، لتوقَّف العدوان الإسرائيلي خلال شهر”. وكان واضحاً ان قاسم يسعى لتبرير الخسائر التي منيّ الحزب بها، من خلال التشديد على العامل الأميركي في التفوّق العسكري الإسرائيلي.

4-أشار إلى أن “إيران هي التي تقرّر كيف تدعم وقد أثبتت تصميمها على مساندة المقاومة”. أتى هذا “التوضيح” في ظل لغط شاب جمهور الحزب، وحتى داخل الحزب، من موقف إيران وعدم تدخلّها المباشر والفعّال للدفاع عن الحزب في مصابه المفاجئ. وقد اعتُبرت إشارة قاسم إلى أن إيران “هي التي تقرّر” تسليما إضافيا بقيادة طهران وإرادتها وأجنداتها.

5-أعلن أن الحزب يثقّ في قيادة رئيس مجلس النواب وزعيم حركة أمل، نبيه بري، والحراك السياسي الذي يقوم به لوقف إطلاق النار، غير أنه أكّد أن “أي نقاش قبل وقف إطلاق النار لا محل له بالنسبة إلينا”.

 

• الحزب يفوّض بري: التماس والتباين:

 

أتى موقف قاسم بشأن “تفويض” بري والثقة به ودعم جهوده لوقف الإطلاق النار بعد أقل من أسبوع على إعلان رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان، نجيب ميقاتي، في 2 اكتوبر 2024، بعد اجتماعه مع بري، القرارات التالية:

1-دعم الحكومة اللبنانية للنداء الدولي الذي أُطلق في 25 سبتمبر 2024 في نيويورك، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، من قبل 11 دولة، غربية وعربية، يدعو إلى وقف إطلاق النار.

2-التزام الحكومة اللبنانية بتنفيذ قرارا الأمم المتحدة الصادر عام 2006، وبنشر الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني. ويعني تنفيذ القرار انسحاب قوات حزب الله من تلك المنطقة.

3-أضاف ميقاتي في إعلانه، ونقلا عن بري، أن الأخير سيدعو، فور وقف إطلاق النار إلى “انتخاب رئيس توافقي للجمهورية وليس تحديا لأحد”.

بالمقابل فإن كلمة قاسم أوضحت أن “أي نقاش قبل وقف إطلاق النار لا محل له بالنسبة إلينا”. بما كشف عن رفض الحزب الانخراط في جدل بشأن هوية الرئيس “التوافقي”، خصوصا أن تعبير ميقاتي بأن “لا يمثّل تحديا لأحد” يعني تخلي “الثنائي الشيعي” (تحالف الحزب و “حركة أمل”) عن مرشحه، سليمان فرنجية، وقبول بديل وسطي تقبله كافة الأطراف.

 

• تدخّل إيران: قيادة الحزب من طهران.

 

جاءت مواقف نائب الأمين العام للحزب متأثّرة بتلك التي أعلنها وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، في بيروت التي زارها في 4 اكتوبر 2024. وحدد عراقجي العناوين التي نهل الحزب مواقفه منها وأهمها:

1-دعم إيران للجهود التي تبذل من أجل التوصّل إلى وقف لإطلاق النار.

2-اشترط الوزير الإيراني أن يكون وقف إطلاق النار في لبنان “متزامنا مع وقف إطلاق النار في غزّة”،

3-اشترط أن تكون كل القرارات والتدابير المتعلّقة بوقف إطلاق النار تحظى بموافقة “المقاومة”، أي “حزب الله”.

وإثر تدافع التطوّرات التحوّلات المرتبطة بالموقف في لبنان، حدد “حزب الله” مواقف جديدة أكثر حدّة تجيب على أسئلة الميدان والسياسة الداخلية في لبنان.

فقد عقد رئيس العلاقات الإعلامية في الحزب محمد عفيف، في 11 اكتوبر 2024، مؤتمرا صحفيا، شابته لهجة متوعّدة تركّز على النقاط التالية:

1- اعتبر أن السردية الإسرائيلية عن وجود سلاح في مناطق المدنيين ليست إلّا ذرائع واهية، وأن الاحتلال “يقصف الضاحية بالصواريخ الموقوتة التي تنفجر بعد انتهاء ‏‏الغارات للإيهام بمخازن أسلحة وتضليل الرأي العام”.

2-اعتبر عفيف أن كل ذلك يجري بـ”تواطؤ وضغط ‏‏أميركي خبيث تقوده السفيرة الأميركية في عوكر“، واصفًا ما يجري بأنه “جريمة ضد الإنسانية”، ومتسائلًا “من سيحاكم فيها في ظل ‏‏الهيمنة الأميركية على العالم؟”.

3-أدان عفيف العدوان على قوات الأمم المتحدة في الجنوب ومقراتها ومنشآتها، مشيرًا إلى أن تصرف الأمم المتحدة والمجتمع الدولي إزاء هذا العدوان الخطير لا يتعدى بعض ‏‏بيانات الإدانة الخجولة، معتبرًا أن استهداف قوات اليونيفيل يؤكد أن إسرائيل “لا تسأل لا عن قرارات دولية ولا ‏‏عن قوات دولية”.

4-لفت مسؤول العلاقات الإعلامية في حزب الله إلى أن “ضرب تل أبيب ليس ‏‏سوى البداية وإن ما حصل في الأيام الماضية في حيفا وفي جوارها يؤكد أننا لا زلنا في ‏‏البداية، وتوجه لإسرائيل بالقول: “لم تر بعد إلّا القليل من ضرباتنا”.

5-بشأن الوضع الميداني لا سيما على الجبهة الجنوبية، أكّد عفيف أن “المقاومة” بخير، وتدير حقل ‏‏رمايتها وتوقيت صلياتها بما يتناسب مع قراءتها للميدان وظروفه الموضوعية، وأن مخزونها ‏‏الاستراتيجي بخير”.

6-لفت إلى أنه من المبكر استعجال النتائج السياسية في الداخل اللبناني. وقال: “نحن لسنا في عام 1982 عندما وصلت الدبابات الإسرائيلية إلى بيروت وغيرت ‏‏المعادلات السياسية، ومزقت النسيج الاجتماعي اللبناني”.

 

• الخوف من “اليوم التالي”: تحذير الداخل وتعويل على الميدان..

 

عجّلت إيران، بعد أيام من زيارة وزير خارجيتها إلى بيروت، في إرسال رئيس مجلس الشورى، محمد باقر قاليباف إلى لبنان مجددا في 12 اكتوبر 2024, مطلقا مواقف داعمة لكل “القرارات الصادرة عن الحكومة والمقاومة في لبنان”. ويرجّح أن إيران معنيّة في تأكيد حضورها في لبنان وتعويلها على القوة النارية للحزب في إطار قوى ردع الردّ الإسرائيلي المقبل.

بالمقابل يعوّل “حزب الله” على تطوّرات ميدانية في الصدام البري مع القوات الإسرائيلية من أجل تحسين مواقعة داخل المشهد السياسي اللبناني. وقد ظهر من حديث قاسم عن أن “نقاش التفاصيل الأخرى يجري بعد وقف إطلاق النار”، ودعوة عفيف الفرقاء اللبنانيين لـ “عدم الاستعجال في استثمار التحوّلات في السياسة الداخلية”، مدى حساسية الأمر بالنسبة للحزب وحرصه على عدم فقدان ما ملكه من نفوذ داخل لبنان، خصوصا بعد انسحاب القوات السورية عام 2005 وانتهاء ما أطلق عليه حقبة “الوصاية” السورية على لبنان.

وقد ظهرت أعراض في هذا الاتجاه مهدّدة لتفوّق الحزب، لا سيما فيما امتلكه من “فائض سلاح” أملى على نظام الحكم شروطا وقواعد تتّسق مع إرادة الحزب وأجندات إيران من ورائه. وفيما أعلنت حكومة لبنان التزامها بالقرار 1701، جرى التذكير داخليا بمندرجاتهذا القرار التي تفرض ضمنا تطبيق قرارات دولية أخرى، منها القرار 1559، الصادر عن مجلس الأمن عام 2006 والذي يطلب نزع سلاح كافة الميليشيات اللبنانية وجعل سلاح الجيش اللبناني السلاح الوحيد المعترف به برعاية الحكومة اللبنانية.

وقد ظهرت أعراض أشدّ دقّة في مؤتمر جمع عددا من التيارات السياسية بدعوة من رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، في مقر الحزب في معراب في 12 اكتوبر 2024. وخرج المؤتمر ببيان طالب بـ “خارطة طريق واضحة وشفافة للخروج من المحنة، تبدأ بوقف إطلاق النار”، وأنه “لم يبقَ لوقف النار إلا انتخاب رئيس ذي مصداقية يعمل على تطبيق القرارات 1559، 1680، و1701، وبنود اتفاق الطائف ذات الصلة”.

ودعا البيان إلى “انتخاب رئيس يتعهّد بعدم ترك أي تنظيم أو سلاح خارج إطار الدولة، وهذا لا يعني أن هناك فريقًا غالبًا وآخر مغلوبًا، بل سيكون كل الشعب رابحًا”.

يأتي هذا التطوّر بعد يومين من نشر وسائل إعلام لبنانية، في 10 اكتوبر 2024، تقارير كشفت أن السفيرة الأميركية في بيروت، ليزا جونسون، قد طلبت من قوى سياسية ونواب مستقلين في لبنان “الاستعداد” لمرحلة ما بعد “حزب الله” باعتبار أنه “لم يعد مسموحا استمرار سطوته على الدولة”.

وجاء في هذه المحادثات، أنه “لم يعد مسموحا استمرار سطوة حزب الله على الدولة ومؤسساتها، ولا على معابر الدولة الحدودية، وأن الحزب باتَ ضعيفا جدا بعد الضربات التي وجهت إليه، واستهدفت قادته وقتلت أمينه العام، ومن ثم لم يعُد بإمكانه فرض ما يريد”. وتضمن اللقاء أن “هناك مرحلة سياسية جديدة سيشهدها البلد قريبا ليس للحزب مكان فيها”.

وكان وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، قد قال في 11 سبتمبر 2024 إن “الولايات المتحدة ستعمل على دعم الدولة اللبنانية في إعادة بناء نفسها بعد سنوات من هيمنة حزب الله”.

 

خلاصة واستنتاجات:

**يمرّ حزب الله بمرحلة حسّاسة وحرجه في تاريخه منذ بدء الحملة العسكرية الإسرائيلية المكثّفة التي أودت بحياة قادته الكبار بما في ذلك الأمين العام، السيّد حسن نصر الله. ويسعى عسكريا وسياسيا وإعلاميا إلى التعافي واستعادة المبادرة.

**يعوّل الحزب على إنجازات عسكرية في المواجهة البرية للمحافظة على نفوذه داخل لبنان، أو على الأقل التخفيف من تضعضعه المحتمل.

**أطلق الحزب في بيانات وإطلالات مسؤولية مواقف ورسائل هدفها التعامل مع الضغوط الداخلية، بما في ذلك التلميح بتنازلات في مسألة وقف إطلاق النار من دون إظهار أي تراجع في دوره المحوري في إدارة البلد.

**يُظهر الحزب مزيدا من الاتّساق التام مع أجندة إيران، لا سيما في ظروف استعداد طهران للتعامل مع الردّ العسكري الإسرائيلي، فيما تُظهر طهران عبر موفديها وقيادتها للحزب حرصا على دعم الحزب والدفاع عن نفوذه في لبنان.

**تكثّف إيران من خلال زيارتي وزير الخارجية ثم رئيس البرلمان إلى بيروت من حضورها في لبنان بهدف دعم الحزب وبيئته وممارسة ضغوط على الحكومة والطبقة السياسية بعدم اتّخاذ أي قرارات من دون موافقة الحزب. وتعوّل إيران على صمود ودور حزب الله” في خرائط الردع الإيراني للردّ الإسرائيلي المقبل.

**يُظهر الحزب توتّرا وتوجسا من مواقف رسمية وحزبية لبنانية وأخرى أجنبية تسعى لـ “الاستثمار السياسي” في ظروف ضعف الحزب، ويحذّر من “استعجال” نتائج المعركة الحالية.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.